نصف قرن على معركة سايغون

في نهاية يناير 1968 شن «الفيتكونغ» هجومهم على المدينة

الجنرال نغوين نغوك رئيس الشرطة الوطنية في حكومة فيتنام الجنوبية بصدد إطلاق النار على أحد ضباط «الفيتكونغ» في أحد شوارع سايغون خلال هجوم يعرف باسم «تيت» (أ.ب)
الجنرال نغوين نغوك رئيس الشرطة الوطنية في حكومة فيتنام الجنوبية بصدد إطلاق النار على أحد ضباط «الفيتكونغ» في أحد شوارع سايغون خلال هجوم يعرف باسم «تيت» (أ.ب)
TT

نصف قرن على معركة سايغون

الجنرال نغوين نغوك رئيس الشرطة الوطنية في حكومة فيتنام الجنوبية بصدد إطلاق النار على أحد ضباط «الفيتكونغ» في أحد شوارع سايغون خلال هجوم يعرف باسم «تيت» (أ.ب)
الجنرال نغوين نغوك رئيس الشرطة الوطنية في حكومة فيتنام الجنوبية بصدد إطلاق النار على أحد ضباط «الفيتكونغ» في أحد شوارع سايغون خلال هجوم يعرف باسم «تيت» (أ.ب)

بينما كانت البلاد تحتفل بعيد رأس السنة القمرية، شن عشرات الآلاف من المقاتلين الشيوعيين المعادين لنظام فيتنام الجنوبية في 30 و31 يناير (كانون الثاني) 1968 هجوماً واسعاً على سايغون، وضع الجيش الأميركي في وضع دفاعي. بعد أربعة أيام على بدء الهجوم، كتب فرنسوا بيلو مدير مكتب وكالة الصحافة الفرنسية في سايغون مقالاً طويلاً روى فيه كيف انتقلت المدينة بين ليلة وضحاها إلى الحرب. وجاء تقريره في الثالث من فبراير (شباط): في المبنى المجاور لمكتب الصحافة الفرنسية، تمركز 15 من مقاتلي «جبهة تحرير جنوب فيتنام» (الفيتكونغ) منذ الليلة الأولى الأربعاء 31 يناير 1968... قذائف البازوكا تهز مبنانا... بعد توقف لدقائق بدأ إطلاق النار... فتحت نيران الرشاشات. نتابع طوال الوقت من المكتب صوت قذائف البازوكا... في الشارع قتل اثنان من مقاتلي «الفيتكونغ» منذ الساعات الأولى، وقتل أميركيان في سيارة الجيب التي كانا يستقلانها. بقيت الجثث في الشارع 24 ساعة.
صباح الخميس صد المقاتلون الـ15، وربما عشرة فقط بقوا على قيد الحياة، هجوماً أخيراً. في الساعة التاسعة والنصف كان ستة منهم أسرى بعدما نفدت كل ذخيرتهم. بين هؤلاء امرأة. جميعهم يرتدون ملابس رثة تغطيها الغبار وبعضهم مصابون بجروح ينزفون دماً من الفم أو الأذنين بسبب انفجار قذائف البازوكا. وقد رفض هؤلاء الذي جلسوا القرفصاء على الرصيف وأيديهم مقيدة أن يتكلموا مثيرين غيظ حراسهم. هؤلاء المقاتلون كانوا قد أمضوا للتو 36 ساعة في مدينة كبيرة يرونها للمرة الأولى. فهم فلاحون يعملون في مزارع الأرز، وجاءوا لتحرير المدينة التي جذبهم إليها حلم، لبدء الثورة. لكن الحلم انتهى.
يروي بيلو كيف وصل هؤلاء المزارعون سراً إلى سايغون اعتباراً من 29 يناير: «في مجموعات من شخصين أو ثلاثة أشخاص. بعضهم جاؤوا من كييم هوا في الدلتا ساروا مشياً على الأقدام لخمسة أيام. وهم يرتدون ملابس مدنية. كل منهم في جيبه شارة حمراء ويحمل كيساً شفافاً يحوي مواد غذائية تكفي ليوم واحد. جاءوا من كل مكان، وتسللوا سراً بينما كانت تطلق الألعاب النارية بمناسبة عيد رأس السنة، إلى النقاط المحددة للقاء. فرأس السنة في هذه المدينة يشبه مهرجان ريو دي جانيرو».
وشكلت المجموعات المسلحة وتم توزيع الأسلحة. كان 600 من قطع الأسلحة هذه من رشاشات ثقيلة ومدافع بازوكا موجودة في سايغون منذ أسابيع مخبأة في حي شولون الصيني. وكانت تلك المرحلة الأكثر جرأة في الحرب.
في منتصف الليل، انطلقت المجموعات المسلحة لتحقيق أهدافها. انتشر 18 منها في المدينة، وتوجهت إلى السفارة الأميركية (قتل 19 مقاتلاً من الفيتكونغ في حديقتها من دون أن يتمكنوا من دخول المبنى)، وقصر الاستقلال والإذاعة الفيتنامية وقاعدة تان سون نوت وميدان سباق الخيل وتسعة مراكز للشرطة وأربعة فنادق عسكرية أميركية.
في الساعة 02.50 من الأربعاء هزت انفجارات قوية وسط المدينة. إنها تشبه عمليات القصف بالهاون. في المدينة استمر إطلاق المفرقعات... مفرقعات أو رصاص. في حديقة بيتي الذي اهتز بقوة على وقع الانفجارات، كان يسمع صفيرها قبل أن ترتد على الشجر.
انتهى عيد رأس السنة وبدأت المعركة. من دون تمهيد، انتقلت سايغون من المفرقعات إلى إطلاق الرصاص. استمر هذا الوضع أربعة أيام، وللمرة الأولى شهدت سايغون حرباً.
تعرف أجهزة الاستخبارات الأميركية اليوم أن معظم السكان كانوا على علم باستعدادات «الفيتكونغ» للهجوم، لكن لم يتحدث عنها أحد. السكان لم يتطرقوا إلى ذلك بسبب الخوف ربما، لكن بسبب تعاطفهم، والأرجح بسبب لامبالاتهم التي ولدتها عشرون سنة من الحرب وانقلاب الأوضاع باستمرار. لكنهم لم يشاركوا في انتفاضة العامة التي كان يريد «الفيتكونغ» إثارتها. هذه القوات التي يرتدي أفرادها ملابس بالية وينتعلون صنادل يابانية ولا يدل عليهم سوى شعارهم. ولا شك أن مقاومة الفيتكونغ أثارت الإعجاب في سايغون. وقال طالب شاب عاش مع المقاتلين ليومين «إنهم شجعان». والتعليق نفسه صدر عن الفيتنامية جيا دين التي قدمت مأوى لعدد من هؤلاء الجنود المطاردين. وقالت: «لم يقبلوا إطلاقاً أي طعام أو أي مياه للشرب. إنهم شجعان». وأثبت انتصار الفيتكونغ، الذي لا شك فيه في المرحلة الأولى من الهجوم، الضعف الأميركي والحكومي، وبات يشكل عاملاً حاسماً في الحياة السياسية الفيتنامية. فقد خسرت القوة الأميركية مكانتها. واضطر أقوى جيش في العالم للبقاء في وضع دفاعي في كل البلاد، حتى أن الأحداث تجاوزته في لحظة ما.



كيف كسرت الحرب في أوكرانيا المحرّمات النووية؟

نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
TT

كيف كسرت الحرب في أوكرانيا المحرّمات النووية؟

نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)

نجح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في خلق بيئة مواتية لانتشار أسلحة نووية جديدة في أوروبا وحول العالم، عبر جعل التهديد النووي أمراً عادياً، وإعلانه اعتزام تحويل القنبلة النووية إلى سلاح قابل للاستخدام، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

في عام 2009، حصل الرئيس الأميركي، باراك أوباما، على «جائزة نوبل للسلام»، ويرجع ذلك جزئياً إلى دعوته إلى ظهور «عالم خالٍ من الأسلحة النووية». وفي ذلك الوقت، بدت آمال الرئيس الأميركي الأسبق وهمية، في حين كانت قوى أخرى تستثمر في السباق نحو الذرة.

وهذا من دون شك أحد أخطر آثار الحرب في أوكرانيا على النظام الاستراتيجي الدولي. فعبر التهديد والتلويح المنتظم بالسلاح الذري، ساهم فلاديمير بوتين، إلى حد كبير، في اختفاء المحرمات النووية. وعبر استغلال الخوف من التصعيد النووي، تمكن الكرملين من الحد من الدعم العسكري الذي تقدمه الدول الغربية لأوكرانيا منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، ومن مَنْع مشاركة الدول الغربية بشكل مباشر في الصراع، وتخويف جزء من سكان هذه الدول، الذين تغلّب عليهم «الإرهاق والإغراءات بالتخلي (عن أوكرانيا) باسم الأمن الزائف».

بدأ استخفاف الكرملين بالأسلحة النووية في عام 2014، عندما استخدم التهديد بالنيران الذرية للدفاع عن ضم شبه جزيرة القرم من طرف واحد إلى روسيا. ومنذ ذلك الحين، لُوّح باستخدام السلاح النووي في كل مرة شعرت فيها روسيا بصعوبة في الميدان، أو أرادت دفع الغرب إلى التراجع؛ ففي 27 فبراير 2022 على سبيل المثال، وُضع الجهاز النووي الروسي في حالة تأهب. وفي أبريل (نيسان) من العام نفسه، استخدمت روسيا التهديد النووي لمحاولة منع السويد وفنلندا من الانضمام إلى «حلف شمال الأطلسي (ناتو)». في مارس (آذار) 2023، نشرت روسيا صواريخ نووية تكتيكية في بيلاروسيا. في فبراير 2024، لجأت روسيا إلى التهديد النووي لجعل النشر المحتمل لقوات الـ«ناتو» في أوكرانيا مستحيلاً. وفي الآونة الأخيرة، وفي سياق المفاوضات المحتملة مع عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، جلبت روسيا مرة أخرى الخطاب النووي إلى الحرب، من خلال إطلاق صاروخ باليستي متوسط ​​المدى على أوكرانيا. كما أنها وسعت البنود التي يمكن أن تبرر استخدام الأسلحة الذرية، عبر مراجعة روسيا عقيدتها النووية.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع مع قيادة وزارة الدفاع وممثلي صناعة الدفاع في موسكو يوم 22 نوفمبر 2024 (إ.ب.أ)

التصعيد اللفظي

تأتي التهديدات النووية التي أطلقتها السلطات الروسية في الأساس ضمن الابتزاز السياسي، وفق «لوفيغارو». ولن تكون لدى فلاديمير بوتين مصلحة في اتخاذ إجراء عبر تنفيذ هجوم نووي تكتيكي، وهو ما يعني نهاية نظامه. فالتصعيد اللفظي من جانب القادة الروس ورجال الدعاية لم تصاحبه قط تحركات مشبوهة للأسلحة النووية على الأرض. ولم يتغير الوضع النووي الروسي، الذي تراقبه الأجهزة الغربية من كثب. وتستمر الصين أيضاً في لعب دور معتدل، حيث تحذّر موسكو بانتظام من أن الطاقة النووية تشكل خطاً أحمر مطلقاً بالنسبة إليها.

إن التهوين من الخطاب الروسي غير المقيد بشكل متنامٍ بشأن استخدام الأسلحة النووية ومن التهديد المتكرر، قد أدى إلى انعكاسات دولية كبيرة؛ فقد غير هذا الخطاب بالفعل البيئة الاستراتيجية الدولية. ومن الممكن أن تحاول قوى أخرى غير روسيا تقليد تصرفات روسيا في أوكرانيا، من أجل تغيير وضع سياسي أو إقليمي راهن محمي نووياً، أو إنهاء صراع في ظل ظروف مواتية لدولة تمتلك السلاح النووي وتهدد باستخدامه، أو إذا أرادت دولة نووية فرض معادلات جديدة.

يقول ضابط فرنسي: «لولا الأسلحة النووية، لكان (حلف شمال الأطلسي) قد طرد روسيا بالفعل من أوكرانيا. لقد فهم الجميع ذلك في جميع أنحاء العالم».

من الجانب الروسي، يعتبر الكرملين أن الحرب في أوكرانيا جاء نتيجة عدم الاكتراث لمخاوف الأمن القومي الروسي إذ لم يتم إعطاء روسيا ضمانات بحياد أوكرانيا ولم يتعهّد الغرب بعدم ضم كييف إلى حلف الناتو.

وترى روسيا كذلك أن حلف الناتو يتعمّد استفزاز روسيا في محيطها المباشر، أكان في أوكرانيا أو في بولندا مثلا حيث افتتحت الولايات المتحدة مؤخرا قاعدة عسكرية جديدة لها هناك. وقد اعتبرت موسكو أن افتتاح القاعدة الأميركية في شمال بولندا سيزيد المستوى العام للخطر النووي.