«ساعة بغداد»... رواية تخالف توقعات القرّاء

من روايات القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» العربية

شهد الراوي  -   غلاف الرواية
شهد الراوي - غلاف الرواية
TT

«ساعة بغداد»... رواية تخالف توقعات القرّاء

شهد الراوي  -   غلاف الرواية
شهد الراوي - غلاف الرواية

أثارت رواية «ساعة بغداد» لشهد الراوي ضجة إعلامية لم يألفها الوسط الثقافي العراقي من قبل، فقد صدرت طبعتها الثالثة من دار الحكمة بلندن، وبيع منها أكثر من 25 ألف نسخة، كما تُرجمت إلى الإنجليزية، ووصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البُوكر العربية لهذا العام، ولمّا يزل القرّاء منقسمين بين مُحبّين للرواية، ومُعجبين بها، وبين كارهين لها، وناقمين عليها شكلاً ومضموناً. ولكي نصل إلى حُكمٍ نقدي مُحايد لا بد من قراءة الرواية قراءة موضوعية تغطّي اللغة، والأسلوب، والبنية المعمارية، والنسق السردي، وتعدد الرُواة الذين يسردون الأحداث بطرق مغايرة تخالف توقعات القرّاء، فلا غرابة أن ينفروا من هذه الأنساق السردية الجديدة أو يناصبوها العداء.
تكتب شهد الرواي بلغة عفوية، منسابة هي أقرب إلى «السهل الممتنع» الذي يمكنكَ أن تُجاريه لكنك لا تستطيع أن تأتي بمثله. وربّ قائل يقول إن هذه الرواية فيها كثير من الأخطاء اللغوية، والصياغات الشاذّة، والجموع التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا تشخيص دقيق لا غُبار عليه. ويبدو أنّ الكاتبة قد اعتمدت في اجتراح أسلوبها المتدفق الذي لم يصل بعد إلى حد البصمة الخاصة على قراءات عربية وأجنبية، فهي معجبة بأسلوب الكاتب العراقي الساخر نوري ثابت الذي كان ينزل إلى مستوى القارئ العادي ولا يجد حرجاً في استعمال كثير من المفردات العامية في عموده الصحافي. وقد أشارت غير مرة إلى أنها متأثرة بالموجة الأولى من روائيات عصر «السوشيال ميديا» من أمثال الأميركية إيما كلاين، والبريطانية جوجو مويس التي بيعت من روايتها «أنا قَبلك» ستة ملايين نسخة، وسواهنّ من الكاتبات اللواتي ينتمين إلى تيار الرواية ما بعد الحداثية التي تقوم على تحطيم بنية السرد التقليدي التي عرفناها سابقا في تيار الرواية الجديدة الذي مثّله ألن روب - غرييه، وكلود سيمون، وميشيل بوتور، وغيرهم من الروائيين الفرنسيين الذين رفضوا نموذج البطل التقليدي، وانتهكوا محدودية الزمان والمكان.
لم تعترف شهد الراوي بالبطولة الفردية لذلك وزّعتها على كثير من شخصيات النص الروائي مثل الراوية التي تحمل بعضاً من مواصفات المؤلفة، ونادية، وبيداء، وباجي نادرة، والمشعوِّذ، و«المستقبَل» وسواهم من الشخصيات التي هشّمت آلية السرد المُتعارَف عليها سلفاً، بل إنّ صوت الراوية نفسها قد تدرّج من الطفولة إلى المراهقة حتى وصل إلى سنّ النضج، ولهذا فإنّ من يشْرع بقراءة الرواية يعتقد أنها مخصصة للأطفال أو الفتيان في أفضل الأحوال. وقد ساهمَ هذا التدرّج التصاعدي في تخليص الرواية من رتابة النسق السردي ذي الإيقاع الواحد. ومثلما تحررت شهد الراوي من البطل التقليدي الواحد الذي يهيمن على سياق الرواية فإنها تحررت من الثيمة الرئيسية الواحدة واعتمدت على ثيمات متساوية من حيث العمق، والشمولية، وأهمية الأفكار التي تنطوي عليها كل ثيمة على انفراد كالحُب، والحرب، والهجرة، والإرهاب، والانتحار، والشعوذة، والنبوءة وكأنها تريد أن توحي للمتلقين بأنها تكتب عن ثيماتٍ يعرفها العراقيون جميعاً.
لابد من قراءة هذه الرواية قراءة مجازية، فالمحلّة التي ترسو مثل سفينة عملاقة على شاطئ المحيط هي العراق، وأنّ سكّان هذه المحلّة هم الشعب العراقي بمختلف قومياته وأديانه وطوائفه، والقبطان هو الرئيس، وأن الطبقة المتوسطة هم أبناء الدولة، والفقراء هم أبناء الوطن، وباجي نادرة هي كردستان التي تقوقعت على نفسها عام 1991، ومزّقت العقد الدستوري بينها وبين بغداد، غير أن العم شوكت يجزم بأن هذا الانفصال مؤقت، وسوف تعود كردستان إلى حضن الوطن إن عاجلاً أم آجلاً.
تقع أغلبية المراهقات في الحُب، فنادية تحب أحمد، والراوية تعشق فاروق، ومروة تنجذب إلى أحمد أيضاً ولكن من طرف واحد، وميّادة تهيم بالدكتور توفيق. وعلى الرغم من أجواء الحرب الكئيبة، والحصار الظالم المفروض على الشعب العراقي، فإن شعلة الحُب ظلّت متقدة في قلوب العراقيين، ولعل أجمل ما في الرواية هي القصص الرومانسية المُعبِّرة التي اجترحتها مخيلة باجي نادرة مثل قصة جوانا التي أحبّت ماندو، الفتى الوسيم الذي تراه في أحلامها فقط. وبما أنها لا تراه في الواقع فقد صنعت له تمثالاً من الثلج، وحينما وضعت اللمسات الأخيرة عليه قال لها: أحبكِ! ذهبت إلى البيت كي تجلب له الطعام وحينما عادت اكتشفت أن أشعة الشمس قد أذابت تمثاله الثلجي فسألت الشمس التي اقتربت من حافة الجبل: لماذا أخذت ماندو؟ فردّت عليها: «أنا لم آخذ ماندو، لكنه كان يُحبكِ كثيراً حتى ذاب من الحُب وصار جدولاً» (ص40).
تستعير شهد الراوي بنيتها التدوينية من رواية «مائة عام من العزلة» لماركيز فتفتح الراوية بمساعدة صديقتها الحميمة نادية سجلاً أزرق أسمتاه «ساعة بغداد - تاريخ المحلّة» ودوّنتا فيه عشرين صفحة عن كل عائلة من عائلات المحلّة كي تحفظ الذكريات من النسيان، وحينما باتت معهما بيداء دوّنت كل ما تعرفه عن أهالي المحلّة وقد تكون خيانة هيفاء لزوجها أسامة مع شابٍ جميل هي بمثابة تدوين للمسكوت عنه، وتعرية للقضايا المحجوبة، وبما أن بيداء لا تكذب أبداً فقد قررتا الاحتفاظ بالقصة في السجل التوثيقي لأن الجميع ليسوا ملائكة.
لا تنتهي قصص الحُب بالزواج، بل تخالف توقعات القرّاء تماماً، فلا تتزوج نادية من أحمد، ولا الراوية من فاروق، بينما تُقتل ميادة على يد شقيقها حسام الذي ينقلب رأساً على عقب حيث يُصبح معارضاً للنظام الديكتاتوري وحينما يعود مع المعارضة يتحول إلى رجل دين بلحية كثة ويصادر بيوت المسيحيين ويبيعها واحداً تلو الآخر من دون خوف أو خجل. وعلى الرغم من تشتت المراهقات اللواتي نضجنَ الآن فلا بد من إحاطة القارئ علما بأن نادية قد تزوجت من مهندس وسيم يعمل في شركة معروفة في دبي، وبعد أقل من عام سوف تتزوج الراوية من شاب في غاية اللطف تخرّج في جامعة عالمية ولعله قال لها نفس جملة فاروق: «أنا معجب بك» وحينما تتلعثم سيقول لها: «أنا أحبكِ» ثم ينتهي بها الأمر في دبي أيضاً، وحينها تُدرك بأنها سوف تعيد صداقتها بنادية، وتجتمع معها من جديد، فما يشتتهُ التاريخ، تجمعهُ الجغرافيا.
تحتاج الشخصيات الأخرى إلى قراءة نقدية واسعة مثل القبطان، والمشعوِذ، والعم شوكت الذي يمثل الطبقة المتوسطة التي اعتبرتها المؤلفة «الأرض الحرام لكل حرب» (ص107)، والكلب برياد الذي يودع كل أبناء المحلة إلى منافيهم البعيدة ثم يتعرّض للذل والركل والإهانة على أيدي القادمين الجدد فيندفع تحت إطارات شاحنة كبيرة ليواجه مصيره المحتوم.
ربما كان النسق السردي تصاعدياً فيما يخص فتيات المحلة اللواتي التقينَ في ملجأ محصّن ضد صواريخ التحالف الأنجلو - أميركي، لكن ذلك لم يمنع الروائية من العودة العكسية إلى الماضي والصعود إلى الجنة للقاء جدها الذي كانت تراه في الصورة المثبّتة على الجدار، أو مقابلة والد أحمد الذي استشهد في الحرب العراقية - الإيرانية.
«ساعة بغداد» هي رواية حداثية معنى ومبنى، وشخصياتها مدروسة، وهي تتحرك ضمن سلسلة الأحداث المفجعة في غالبيتها لكن بصيص الأمل كان موجوداً بين طيّات النص السردي الذي أنقذ الذاكرة الجمعية من الغرق والنسيان بالكتابة.


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.