محمد المُبشر: عسكرة الدولة أخّرت الحل في ليبيا

رئيس مجلس أعيان ليبيا قال لـ«الشرق الأوسط» إن بلاده تعاني من توجهات الإعلام والمال السياسي

محمد المُبشر: عسكرة الدولة أخّرت الحل في ليبيا
TT

محمد المُبشر: عسكرة الدولة أخّرت الحل في ليبيا

محمد المُبشر: عسكرة الدولة أخّرت الحل في ليبيا

بقدر ما في ليبيا من تشكيلات مسلحة لا تتوقف عن الاقتتال، وجماعات تنتهز «فوضوية» الوضع الراهن لتحقيق مكاسب ضيقة، توجد هناك في هذا البلد، الغني بالنفط، شخصيات وهيئات مدنية وقبلية تبذل جهوداً كبيرة «لإطفاء الحرائق» التي تشتعل من آن لآخر، وتسعى لـ«لم الشمل» الذي فرّقته الحسابات السياسية والمكاسب الجهوية... من بين هؤلاء، مجلس أعيان ليبيا للمصالحة، الذي يترأسه الشيخ محمد المُبشر، والذي يرى «عدم إمكانية تشكيل حكومة دائمة في البلاد، أو الاستفتاء على الدستور، أو إجراء انتخابات، إلاّ بعد المصالحة الشاملة، وتوزع السلطة والثروة بشكل عادل بين الليبيين».
المُبشر قال في حوار مع «الشرق الأوسط»، إن كثيراً من وسائل الإعلام الليبية لا تخدم الاستقرار في البلاد، منتقداً حكومة الوفاق الوطني، وقال: «رغم أنها حققت نجاحاً محدوداً في طرابلس، لكنها فشلت في توحيد الوطن تحت سلطاتها». وتطرق المُبشر، ابن قرية نسمة (جنوب طرابلس)، إلى الحديث عن «دعم بعض الدول للأطراف المتحاربة بالسلاح، دون تدخل من البعثة الأممية»، التي قال إنها «تغض الطرف» عن ذلك، وتحدث عن الجدل الدائر حول «مدنية وعسكرة» الدولة، وقال: «لا نظن أن مشروعاً عسكرياً سيحكم ليبيا مستقبلاً».
> بدايةً... أطلِعنا على مهام مجلس أعيان ليبيا للمصالحة، وممن يتكون؟
- أولاً، مجلس أعيان ليبيا يُعنى بفض المنازعات، ويضم في عضويته وسطاء مهنيين وخبراء في هذا المجال، بالإضافة إلى أساتذة في الجامعات المختلفة، وأعيان مدن وقبائل؛ وتعود نشأته إلى عصر الحكم العثماني، الذي بدأ عام1551. ومنذ ذلك التاريخ وهو يمارس مهامه في البلاد، إلى أن اندلعت ثورة 17 فبراير (شباط) عام 2011، فتنادى عدد كبير من الشخصيات الليبية لتفعيله، والدفع باتجاه إعادة إحيائه من جديد كسلطة أدبية لتعويض غياب سلطة الدولة وأجهزتها، ويهدف -كما ذكرت- إلى فض المنازعات، والمساعدة في بناء الدولة العادلة، ولهذا يدعو المجلس، الذي انتُخبتُ رئيساً له في عام 2012، إلى تشكيل حكومة محايدة لا تنتمي إلى التيارات السياسية، والأطراف المتناحرة، لتقود البلاد إلى فترة انتقالية، وصولاً إلى المرحلة الدائمة بشفافية وعدل، والعمل على ضبط السلاح المنتشر في البلاد، ودعم خطط مجلس الأعيان لجمعه من أيدي المواطنين.
> وماذا عن حكومة الوفاق الوطني المدعومة دولياً؟
- حكومة الوفاق الوطني، الموجودة في العاصمة طرابلس، ليست فاعلة إلاّ في نطاق محدود من البلاد، ورغم نجاحها النسبي في طرابلس فإنها فشلت في توحيد الوطن تحت سلطاتها، وبالتالي لا يوجد اتفاق عليها في الداخل الليبي، فضلاً عن أن أعضاء المجلس الرئاسي مختلفون فيما بينهم.
> لماذا يربط مجلسكم بين تشكيل «الحكومة المحايدة» وإنجاح مسار المصالحة في البلاد؟
- نحن لا نرى إمكانية تشكيل حكومة دائمة في البلاد، أو الاستفتاء على دستور دائم، أو إجراء انتخابات نيابية ورئاسية، إلاّ بعد المصالحة الشاملة، مع ضرورة أن تقوم البعثة الأممية بتوزيع دوائر السلطة والثروة بشكل عادل بين الليبيين، بما لديها من تعداد سكاني للبلاد، كي لا يُهضم حق منطقة على حساب أخرى، وكل ذلك يتطلب حكومة محايدة تعمل على الأمن أولاً، ودون ذلك نظن أنه لن تستقر البلاد إلاّ إذا رأى المجتمع الدولي فرض الاستقرار بالقوة!
> وما الموقف من حكومة عبد الله الثني المؤقتة في البيضاء؟
- منذ انقسام ليبيا ودخولها في حروب، نتعامل مع كل الحكومات المتعاقبة شرقاً وغرباً بمقياس واحد، ونقف على الحياد من جميعها، وكل منسق يتبع مجلس أعيان ليبيا في منطقة يتعامل مع الحكومة الموجودة في مدينته بما يخدم الأمن والاستقرار في البلاد، ولا يؤيد موقف هذه أو تلك، فيما يتعلق بالقضايا السياسية إلا بعد التشاور معنا.
> هل يدعم مجلسكم خيار إجراء انتخابات في البلاد في ظل تخوف البعض من عدم نجاحها؟
- المجلس يرى أن الانتخابات في الوضع الراهن دون مصالحة شاملة، ودستور دائم، أو قانون، لن تنجح في حل الأزمة الليبية، وتصلنا ملاحظات من عديد الشخصيات الاجتماعية والناشطين في المجتمع المدني، يقولون إن الانتخابات ستكون مجرد إعادة إنتاج للمشكلات، ويرون ضرورة إجراء الاستفتاء على الدستور أولاً.
> ما موقفكم من «المؤتمر الوطني الجامع» الذي دعا إليه المبعوث الأممي؟
- مجلس أعيان ليبيا للمصالحة، سبق وأعلن دعم خطة السيد سلامة منذ البداية، لأنها كانت نتاج أفكار وملاحظات كنا ننادي بها في المجلس منذ بداية المشكلة في بلادنا، ولا نزال على موقفنا، لكن هناك بعض الملاحظات على (خطة سلامة)، وتحتاج إلى توضيح أكثر، خصوصاً في ما يتعلق بالمؤتمر الوطني الجامع، ونعمل على استيضاحها منه، مع ذلك نتوقع أن يحل ذلك المؤتمر جزءاً كبيراً من المشكلة الليبية، ونشير إلى ضرورة دعم كل المسارات دون استثناء، وننبّه هنا إلى ملاحظات الليبيين، بأن الدول المتداخلة في الأزمة لا تزال تعرقل عمل الوسيط الدولي، ويجب وضع حد لذلك.
> لكن البعض يتخوف من أن يكون «المؤتمر الجامع» بوابة لعودة النظام السابق للحكم؟
- أنصار النظام السابق ليبيون، ومن حقهم المساهمة في بناء وطنهم مثل غيرهم، ويجب ألا يبقوا بعيداً عن المشاركة في استقرار البلاد وأمنها وسلامتها وسيادتها، أمّا نظام جماهيرية معمر القذافي فلن يعود للحكم مرة ثانية.
> كيف تقرأ الجدل بين (مدنية وعسكرة) الدولة... وإلى أي منهما تتجه ليبيا خصوصاً بعد إعلان المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش تأييده إجراء انتخابات؟
- بصراحة، مشروع عسكرة الدولة موجود، وله أنصاره، وأعتقد أنه أحد أسباب تأخّر الحل في ليبيا إلى الآن، ومجلس الأعيان للمصالحة يعمل على مدنية الدولة لا عسكرتها، وأخبرك أن أكثرية المواطنين يفضّلون انضواء المؤسسة العسكرية تحت السلطة المدنية، وما صرح به السيد حفتر يصب في هذا الاتجاه، ولا نظن أن مشروعاً عسكرياً ممكن أن يحكم ليبيا مستقبلاً.
> فائز السراج وعد بإعادة مواطني تاورغاء مطلع فبراير المقبل... ما احتمالية تحقق ذلك؟
- يدرك الجميع أن موضوع المصالحة بين مدينتي تاورغاء ومصراتة (شرق العاصمة) كان قراراً من الطرفين، ولا دخل لأي حكومة به، لكن لكون حكومة الوفاق تمارس عملها في طرابلس، رعت هذا الاتفاق لتنفيذ بنوده المتعلقة بالأمور التي تحتاج إلى سلطة الدولة، ونحن لمسنا من الطرفين تصميماً على تنفيذ هذا الاتفاق الذي قطع خطوات مهمة، ونظن أن عودة مواطني تاورغاء إلى ديارهم سيتحقق في الموعد المحدد، وسنكون حاضرين مع باقي الأطراف لمباركته ودعمه، ونرجو أن ينتهج الجميع نهج المصالحة أفضل من نهج الانتقام والثأر.
> وماذا عن إعادة نازحي بنغازي؟
- هذا الموضوع ليس سهلاً حله... يحتاج إلى فهم وعمل كبيرين من أطراف عدة، فإعادة نازحي بنغازي يحتاج إلى معالجات أمنية واجتماعية وسياسية، ونحاول وضع هذا الملف على أول الطريق في القريب العاجل، وسيكون من أولويات المجلس الفترة المقبلة، ولا يمكن ترك الأمر هكذا دون علاج جذري، وأكرر أن وجود حكومة موحدة محايدة سيعالج مثل هذه الأمور.
> هل سعيتم لدى أهالي مصراتة لإصلاح ذات البين وتأمين عودة مواطني تاورغاء؟
- لم ندّخر جهداً في السعي لدى أي مدينة من أجل المصالحة، ومجلس أعيان مصراتة تحديداً لا يتوقف عن معالجة كل ما يتعلق بالأزمة، وهم أكثر فهماً للمشكلات المتعلقة بمدينتهم، ونحن ندعم دورهم بكل قوة ونساعدهم بما يلزم من خبراء في هذا المجال، بجانب مساندة الأعيان، متى لزم الأمر، وأقول إن مشكلات من هذه النوعية تحتاج إلى وقت حتى يتم احتواؤها وحلها، ونرجو أن يكون العام الجاري أفضل من سابقه لكل أبناء وطني.
> هيئة الأوقاف بالحكومة المؤقتة تتهم المفتي السابق الصادق الغرياني بالتحريض على هجوم مطار معيتيقة... ما تعليقك؟
- كل طرف في ليبيا يتهم الطرف الآخر بتهم عدة، ولو أبدينا رأينا في هذا الموقف أو ذاك، سنخرج عن دورنا المحايد الذي يستهدف محاولة الحد من تفاقم الأزمات، ومواقف الوسطاء في مثل هذه الظروف بالغة الحساسية، فلا يجب التعاطي مع اتهام بعض الأطراف لبعضها إعلامياً، ونستعين بالنائب العام، لمعرفة نتائج التحقيق في أي مشكلة، ولا يمكن التغاضي عن أن الهجوم على مطار مدني خطأ كبير يجب عدم تكراره.
> وما جهودكم للتصدي للاقتتال بين الميليشيات في طرابلس؟
- نحن الآن نعمل مع عديد من الأطراف المحلية، وندعم البلديات في طرابلس لاحتواء المشكلات، وندفع باتجاه حل الأزمة من جذورها، ولا يمكن شرح ذلك الآن لأسباب عدة، نتحفظ على ذكرها.
> هل تتوافقون مع من يقول إن الجماعات المسلحة لها نفوذ دولي في ظل أجندات تستهدف إثارة الفوضى في البلاد؟
- إلى حد ما، وليس في المطلق، فالجماعات المسلحة في شمال ليبيا تختلف في تركيبتها عن الوسط أو الجنوب، والصراع الدولي والمحلي أنتج مجموعات مسلحة عدة مختلفة الانتماءات، وترغب كل منها في السيطرة على الأرض بالاقتتال، وهناك مجموعات مسلحة وُجدت لإثارة الفوضى في البلاد، وأخرى تسترزق بالبندقية، وهذا ما نعمل على التصدي له، وتحديد نوعية السلاح المستخدم في الاقتتال، وتبعيته لأي جهة، ونجحنا إلى حد كبير في ذلك.
> ألا توجد مبادرات يطلقها المجتمع المدني لجمع السلاح من أيدي المواطنين؟
- كانت هناك مبادرة من مجلس أعيان ليبيا في اللقاء الكبير الذي دُعي إليه الليبيون من مجلس الأعيان في نالوت (جنوب غرب العاصمة) عام 2016، وكانت الدعوة تنص على تدمير بعض الأسلحة، في رمزية على أن المجتمع لا يريد شراء السلاح، أو رفع الحظر عنه، والمجلس يريد تدمير جميع الأسلحة كلما أمكن، والجزء الثاني من المبادرة تحديد تبعية السلاح وتصنيفه، بحيث تتم معرفة تبعيته لأي مدينة أو قبيلة، وعند انتهاء الخلاف حول توحيد المؤسسة العسكرية وتفعيلها يتم تسليم الأسلحة الثقيلة كخطوة أولى، ثم تأتي خطوات أخرى تباعاً.
> سبق للمبعوث الأممي القول إن ليبيا بها أكثر من 20 مليون قطعة سلاح... إلى أي مدى تعيق هذه الترسانة خطط السلام ونشر الأمن في البلاد؟
- بجانب عدم وجود إرادة سياسية وقدرة لتحقيق السلام، فضلاً عن انقسام البلاد وتعدد الانتماءات، يعد انتشار السلاح أهم كوارث ليبيا وأكبرها، وما نسمعه من البعثة الأممية لدى ليبيا مجرد كلام، ونرى أنها أحد أهم أسباب عدم الاستقرار بقراراتها التي أوصلت ليبيا إلى ما هي عليه الآن، فهناك قرارات واضحة بحظر شراء السلاح، رغم ذلك تغض البصر عن الدول التي تصدره للأطراف المتحاربة في ليبيا دون عقاب، وتكتفي بنشر التقارير فقط. وتلك الدول منقسمة، فمنها من يدعم هذا الطرف بالسلاح، ومنها من يساند ذاك أيضاً، ليستمر الاقتتال في البلاد، وما إن يتوقف في مكان حتى يندلع في منطقة أخرى، لهذا نرى أن البعثة الأممية تتحدث فقط دون فعل، وبالتالي فإن تحقيق السلام في البلاد يحتاج إلى قدرة وقوة ضامنة لتحقيقه، ونحن نسير الآن بخطى ثابتة نحو ذلك، ولدينا مشروع متكامل، ممكن أن يطول، لكن سنصل حتماً.
> وما تقييمكم لأداء الإعلام الليبي في ظل وجود اتهامات لبعض المحطات بأنها إحدى أدوات المال السياسي؟
- الإعلام يسهم عادةً في استقرار البلاد أو العكس، وليبيا تعاني من استخدامات المال السياسي، واختلاف توجهات الإعلام، فالكثير منها لا يخدم ليبيا باستثناء بعض القنوات. وفي ظني، معاناتنا ستستمر بسبب هذه التوجهات إلى أن نصل إلى وحدة البلاد، لكن نرجو من الإعلام دعم السلام في البلاد... يجب أن يكون السلام هدفاً مشتركاً من الإعلام المحلي والدولي أيضاً.
> انتهت الورشة التي نظمتها الأمم المتحدة وحضرها 60 شخصية ليبية تحت عنوان «الوسطاء المحليون» إلى إنشاء شبكة وطنية للوسطاء... ما طبيعة عمل هذه الشبكة، وما الفارق بينها وبين مجلسكم؟
- هذه الورشة التي دُعيتُ إليها شملت عديداً من الوجهاء والنشطاء والوسطاء الداعين للمصالحة والعاملين عليها، والأمم المتحدة تحاول فهم كيف تعمل الوساطة المحلية، وما الدعم الذي يمكن تقديمه لها، وأظن أن الورشة لم تأتِ بجديد. ويمكنني القول إن الحضور كان جيداً، والتوصيات التي خرجت بها الورشة تصب في التطلعات التي يرغب فيها الوسيط المحلي، ولا فرق بينها وبين عملنا، غير أن هذه الشبكة تُدعم لوجستياً من البعثة، ونحن نأمل أن تعمل الأمم المتحدة على حل المشكلة الليبية جذرياً، وليس بإنشاء شبكات وسطاء جديدة، وما سبق يوحي لنا بأن الاشتباكات في البلاد مستمرة لفترة طويلة، فالأمم المتحدة عاجزة، أو لا ترغب في إنهائها أو معالجة أسبابها بتشكيل حكومة قوية تسهم في استقرار ليبيا، ولهذا تريد استمرار الوسطاء المحليين في فض النزاعات، ونرجو أن يكون الأمر غير ذلك.
> أخيراً... هل هذه الحلول ستصمد أمام المطالبين بجبر الضرر والمطالبة بالحقوق عما لحقهم من الحروب السابقة؟
- الحل الآن بات مفوضاً لليبيين عن طريق الأمم المتحدة، وقرارات مجلس الأمن الدولي، بمقتضى الاتفاق السياسي الذي وقِّع في مدينة الصخيرات المغربية نهاية ديسمبر (كانون الأول) عام 2015، ونرى في مجلس الأعيان أنه الإطار الوحيد للحل، ولن نخرج عن ذلك، كما ندرك أيضاً أن القضية الليبية تم تدويلها، ورغم ذلك لن نترك العمل من أجل بلادنا ولن ندع التدويل يثنينا عن استقراره، لهذا أعددنا رؤية كاملة وواقعية للحل في ليبيا تبدأ بعقد اجتماعي أو ميثاق تتفق عليه المدن والقبائل، ويتضمن في أول بنوده تأجيل الخصومة أو المطالبة بالحقوق لفترة زمنية معينة حتى يتحقق الأمن والاستقرار، عقب ذلك يتم التعداد السكاني برعاية الأمم المتحدة، والاستفتاء على القضايا الخلافية، والاستفتاء على دستور دائم للبلاد، يحدد شكل الدولة ونظام حكمها، دون إقصاء أحد، على أن تكون هذه الخطة محددة زمنياً بمدة لا تتجاوز سنة ونصف السنة، وبعدها سينتصر الوطن بعون الله.



القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
TT

القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)

تراهن الحكومة المصرية على القطن المشهور بجودته، لاستنهاض صناعة الغزل والنسيج وتصدير منتجاتها إلى الخارج، لكن رهانها يواجه تحديات عدة في ظل تراجع المساحات المزروعة من «الذهب الأبيض»، وانخفاض مؤشرات زيادتها قريباً.

ويمتاز القطن المصري بأنه طويل التيلة، وتزرعه دول محدودة حول العالم، حيث يُستخدم في صناعة الأقمشة الفاخرة. وقد ذاع صيته عالمياً منذ القرن التاسع عشر، حتى أن بعض دور الأزياء السويسرية كانت تعتمد عليه بشكل أساسي، حسب كتاب «سبع خواجات - سير رواد الصناعة الأجانب في مصر»، للكاتب مصطفى عبيد.

ولم يكن القطن بالنسبة لمصر مجرد محصول، بل «وقود» لصناعة الغزل والنسيج، «التي مثلت 40 في المائة من قوة الاقتصاد المصري في مرحلة ما، قبل أن تتهاوى وتصل إلى ما بين 2.5 و3 في المائة حالياً»، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الذي أكد عناية الدولة باستنهاض هذه الصناعة مجدداً، خلال مؤتمر صحافي من داخل مصنع غزل «1» في مدينة المحلة 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أشار مدبولي، حسب ما نقله بيان مجلس الوزراء، إلى أن مشروع «إحياء الأصول» في الغزل والنسيج يتكلف 56 مليار جنيه (الدولار يعادل 50.7 جنيها مصري)، ويبدأ من حلج القطن، ثم تحويله غزلاً فنسيجاً أو قماشاً، ثم صبغه وتطويره حتى يصل إلى مُنتج سواء ملابس أو منسوجات، متطلعاً إلى أن ينتهي المشروع نهاية 2025 أو بداية 2026 على الأكثر.

وتكمن أهمية المشروع لمصر باعتباره مصدراً للدولار الذي تعاني الدولة من نقصه منذ سنوات؛ ما تسبب في أزمة اقتصادية دفعت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ مرتين أولاهما عام 2016 ثم في 2023.

وبينما دعا مدبولي المزارعين إلى زيادة المساحة المزروعة من القطن، أراد أن يطمئن الذين خسروا من زراعته، أو هجروه لزراعة الذرة والموالح، قائلاً: «مع انتهاء تطوير هذه القلعة الصناعية العام المقبل، فسوف نحتاج إلى كل ما تتم زراعته في مصر لتشغيل تلك المصانع».

وتراجعت زراعة القطن في مصر خلال الفترة من 2000 إلى عام 2021 بنسبة 54 في المائة، من 518 ألفاً و33 فداناً، إلى 237 ألفاً و72 فداناً، حسب دراسة صادرة عن مركز البحوث الزراعية في أبريل (نيسان) الماضي.

وأرجعت الدراسة انكماش مساحته إلى مشكلات خاصة بمدخلات الإنتاج من بذور وتقاوٍ وأسمدة، بالإضافة إلى أزمات مرتبطة بالتسويق.

أزمات الفلاحين

سمع المزارع الستيني محمد سعد، وعود رئيس الوزراء من شاشة تليفزيون منزله في محافظة الغربية (دلتا النيل)، لكنه ما زال قلقاً من زراعة القطن الموسم المقبل، الذي يبدأ في غضون 3 أشهر، تحديداً مارس (آذار) كل عام.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «زرعت قطناً الموسم الماضي، لكن التقاوي لم تثمر كما ينبغي... لو كنت أجَّرت الأرض لكسبت أكثر دون عناء». وأشار إلى أنه قرر الموسم المقبل زراعة ذرة أو موالح بدلاً منه.

نقيب الفلاحين المصري حسين أبو صدام (صفحته بفيسبوك)

على بعد مئات الكيلومترات، في محافظة المنيا (جنوب مصر)، زرع نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، القطن وكان أفضل حظاً من سعد، فأزهر محصوله، وحصده مع غيره من المزارعين بقريته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن أزمة أخرى خيَّبت أملهم، متوقعاً أن تتراجع زراعة القطن الموسم المقبل مقارنة بالماضي (2024)، الذي بلغت المساحة المزروعة فيه 311 ألف فدان.

تتلخص الأزمة التي شرحها أبو صدام لـ«الشرق الأوسط» في التسويق، قائلاً إن «المحصول تراكم لدى الفلاحين شهوراً عدة؛ لرفض التجار شراءه وفق سعر الضمان الذي سبق وحدَّدته الحكومة لتشجيع الفلاح على زراعة القطن وزيادة المحصول».

ويوضح أن سعر الضمان هو سعر متغير تحدده الحكومة للفلاح قبل أو خلال الموسم الزراعي، وتضمن به ألا يبيع القنطار (وحدة قياس تساوي 100 كيلوغرام) بأقل منه، ويمكن أن يزيد السعر حسب المزايدات التي تقيمها الحكومة لعرض القطن على التجار.

وكان سعر الضمان الموسم الماضي 10 آلاف جنيه، لمحصول القطن من الوجه القبلي، و12 ألف جنيه للمحصول من الوجه البحري «الأعلى جودة». لكن رياح القطن لم تجرِ كما تشتهي سفن الحكومة، حيث انخفضت قيمة القطن المصري عالمياً في السوق، وأرجع نقيب الفلاحين ذلك إلى «الأزمات الإقليمية وتراجع الطلب عليه».

ويحدّد رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن التابع لوزارة الزراعة، الدكتور مصطفى عمارة، فارق سعر الضمان عن سعر السوق بنحو ألفي جنيه؛ ما نتج منه عزوف من التجار عن الشراء.

وأكد عمارة أن الدولة تدخلت واشترت جزءاً من المحصول، وحاولت التيسير على التجار لشراء الجزء المتبقي، مقابل أن تعوض هي الفلاح عن الفارق، لكن التجار تراجعوا؛ ما عمق الأزمة في السوق.

يتفق معه نقيب الفلاحين، مؤكداً أن مزارعي القطن يتعرضون لخسارة مستمرة «سواء في المحصول نفسه أو في عدم حصول الفلاح على أمواله؛ ما جعل كثيرين يسخطون وينون عدم تكرار التجربة».

د. مصطفى عمارة رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية (مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري)

فرصة ثانية

يتفق المزارع ونقيب الفلاحين والمسؤول في مركز أبحاث القطن، على أن الحكومة أمامها تحدٍ صعب، لكنه ليس مستحيلاً كي تحافظ على مساحة القطن المزروعة وزيادتها.

أول مفاتيح الحل سرعة استيعاب أزمة الموسم الماضي وشراء المحصول من الفلاحين، ثم إعلان سعر ضمان مجزٍ قبل موسم الزراعة بفترة كافية، وتوفير التقاوي والأسمدة، والأهم الذي أكد عليه المزارع من الغربية محمد سعد، هو عودة نظام الإشراف والمراقبة والعناية بمنظومة زراعة القطن.

ويحذر رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن من هجران الفلاحين لزراعة القطن، قائلاً: «لو فلاح القطن هجره فـلن نعوضه».

أنواع جديدة

يشير رئيس غرفة الصناعات النسيجية في اتحاد الصناعات محمد المرشدي، إلى حاجة مصر ليس فقط إلى إقناع الفلاحين بزراعة القطن، لكن أيضاً إلى تعدد أنواعه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن القطن طويل التيلة رغم تميزه الشديد، لكن نسبة دخوله في المنسوجات عالمياً قليلة ولا تقارن بالقطن قصير التيلة.

ويؤكد المسؤول في معهد بحوث القطن أنهم استنبطوا بالفعل الكثير من الأنواع الجديدة، وأن خطة الدولة للنهوض بصناعة القطن تبدأ من الزراعة، متمنياً أن يقتنع الفلاح ويساعدهم فيها.