التفكير والمشي... الجسد والكتابة

نيتشه  -  ايمانويل كانط  -  جان جاك روسو
نيتشه - ايمانويل كانط - جان جاك روسو
TT

التفكير والمشي... الجسد والكتابة

نيتشه  -  ايمانويل كانط  -  جان جاك روسو
نيتشه - ايمانويل كانط - جان جاك روسو

هناك ظاهرة تستحق الانتباه والاهتمام هي: العلاقة بين التفكير والمشي، أو كما يقول بعضهم بين الجسد والكتابة. فالمفكر يفكر بعقله ووجدانه من دون شك. ولكنه يفكر أيضاً بجسده وكل كيانه. وقد توقف بعض النقاد الفرنسيين عند ظاهرة الجسد والكتابة، أو العلاقة بينهما. وخصصت «مجلة الفلسفة» الفرنسية الرصينة محورها الأخير لهذه الظاهرة التي لا ينتبه إليها أحد عادة. وكان عنوانها: «المشي مع كبار الفلاسفة». والواقع أنه إذا ما استعرضنا تاريخ الفلاسفة وجدنا أشياء مدهشة ومثيرة. فمعظمهم كان يحب عادة المشي أو النزهة للترويح عن النفس، وتخفيف التوتر الذهني، وزيادة التأمل والتفكير بحرية. وسوف أضرب على ذلك ثلاثة أمثلة شهيرة في تاريخ الفكر والكتابة.
الأول يتعلق بمؤسس العقل الأوروبي وربما العالمي الحديث كله: إيمانويل كانط. فقد كان رجلاً غريب الأطوار، كرس حياته المديدة كلها للفكر والفلسفة، فلم يتزوج ولم ينجب الأطفال، لكيلا يشغله ذلك عن التفرغ لأبحاثه وكشوفاته المعرفية. وأكثر ما كان يزعجه أن يسأله أحدهم: لماذا لم تتزوج يا أستاذنا الكبير؟ وفي معظم الأحيان كان يتجاهل السؤال، ويحرف المحادثة في اتجاه آخر لكي يصرف الأنظار عن هذه النقطة التي تحرجه، ويروي أشياء أخرى. ولكنه أجابهم مرة قائلاً: «عندما كنت شاباً وراغباً في النساء كنت فقيراً لا أستطيع أن أتحمل مسؤولية العائلة. وعندما أصبحت قادراً على ذلك كنت قد كبرت في السن، وما عدت راغباً في النساء». ولكن الشيء الذي اشتهر به أكثر من غيره هو نزهته اليومية بعد الظهر، وبالتحديد الساعة الخامسة من مساء كل يوم. ولم يكن يتخلف عنها أبداً. كانت موعداً شبه مقدس بالنسبة له. كان يضع قبعته على رأسه ويمسك بعصاه ثم يخرج من منزله في هذه الساعة بالتمام والكمال. وكان الناس يعيّرون ساعتهم على لحظة خروجه لمعرفتهم بأنه لا يمكن أن يتأخر دقيقة أو يتقدم دقيقة. ولم يخلْ كانط بنزهته الشهيرة هذه إلا مرة واحدة أو قل مرتين طوال عمره المديد: المرة الأولى عندما سمع بصدور كتاب جان جاك روسو عن التربية «إميل» عام 1762. وكان يحب روسو إلى أقصى الحدود، بل ويضع صورته على مكتبه، لكي يستأنس بحضوره، ويستضيء بنوره. والمرة الثانية بعد ربع قرن من ذلك التاريخ عندما اندلعت الثورة الفرنسية. كان ينبغي أن يحدث زلزال سياسي في حجم هذه الثورة التي غيرت مجرى التاريخ، لكي يغير الأستاذ كانط من عاداته الروتينية! في الحالة الأولى غاص في كتاب روسو حتى نسي نفسه. وفي الحالة الثانية اضطر للذهاب إلى بيت الجرائد للاطلاع على آخر الأخبار الآتية من جهة فرنسا.
هل يعني ذلك أن صدور كتاب روسو لا يقل أهمية عن الثورة الفرنسية؟ بالطبع لا، ولكني أبالغ بالكاد... وعلى أي حال فلولا هذا لما كانت تلك. روسو هو أبو الثورة الفرنسية التي رفعت صورته عالياً على رؤوس الأشهاد. وقد أصبحت هذه الحادثة نكتة يرويها الناس، وتسجلها كتب الأدب والسير. ومن المعروف أن كانط، مثل فيخته وهيغل وشيلنغ وهولدرلين فيما بعد، كان معجباً جداً بالثورة الفرنسية، ويعلّق عليها أكبر الآمال، على الأقل في البداية، وقبل أن تنحرف في اتجاه مرحلة الرعب الثوري المعروف... كان يعتبر الثورة الفرنسية بمثابة العلامة الفارقة على أن عصراً بأكمله قد انتهى، وأن عصراً آخر جديداً قد ابتدأ في تاريخ البشرية. وقد أمضى حياته كلها في التنظير والتحضير لهذا العصر الجديد: عصر الحريات الحديثة والانعتاق من أسر العصر الإقطاعي الأصولي الاستبدادي القديم. لذلك يعتبر بعضهم أن الثورة الفكرية التي دشنها كانط لا تقل أهمية عن الثورة السياسية التي دشنها الفرنسيون. وهما مرتبطتان على أي حال ومتزامنتان. وهذا يعني أنه لا ثورة سياسية من دون ثورة فكرية تحتضنها وتمهد لها الطريق.
وهنا يكمن الفرق الأساسي بين الثورة الفرنسية وثورات ما يدعى بـ«الربيع العربي» التي حصلت مؤخراً، وأدت إلى ازدهار غير مسبوق للحركات «الإخوانجية الداعشية». ثم يستغرب الناس ذلك في حين أنه لا داعٍ للاستغراب على الإطلاق. فأين هي الثورة الفكرية التي حصلت مسبقاً داخل الإسلام لكي تكون الأمور مختلفة؟ الوعاء ينضح بما فيه أيها السادة. أين هو التنوير الديني أو الفلسفي الذي سبق الانتفاضات العربية، واحتضنها، ومهد لها الطريق؟ أين هم أمثال ديكارت وسبينوزا وفولتير وروسو وديدرو وكانط وسواهم في جهة المثقفين العرب؟ لا شيء تقريباً... الثورة السياسية من دون ثورة فكرية عمياء، أو قل تخبط خبط عشواء. لهذا السبب أقول بأن الانتفاضات العربية قد تكون عملاقة جماهيرياً أو تعبوياً، ولكنها قزمة فكرياً وسياسياً... وما كان بالإمكان أن تعطي أكثر مما أعطته أو غير الذي أعطته... وبالتالي فالثورة الحقيقية أقصد الثورة الفلسفية - التنويرية التي ستخلع جذور الاستبداد اللاهوتي - وتالياً السياسي - من أساساته لم تحصل بعد في العالم العربي. ولا يبدو أنها ستحصل في المدى المنظور.
أما المفكر الثاني الذي اشتهر بعادة المشي وحب النزهات والجولات فهو جان جاك روسو بالذات. لكن روسو كان يمشي أكثر بكثير من كانط، وكان حبه للطبيعة يفوق الوصف. روسو هو الذي دشن الرومانطيقية. فأجمل لحظات حياته قضاها وهو يمشي بلا سبب ولا هدف في أحضان الطبيعة الغناء. وهل هناك أجمل من تلك المنطقة الساحرة الواقعة بين سويسرا وفرنسا؟ وكثيراً ما كان يتوقف أمام منظر طبيعي خارق، ويتأمل ببديع صنع الخالق بنوع من النشوة الروحية التي تكاد تذهله عن نفسه... وأحياناً كان ينام في البرية متوسداً الأرض وملتحفاً قبة السماء المرصعة بالنجوم. وعندما يستيقظ تكون قطرات الندى قد بللت جبينه وخديه. فقد عاش شريداً ومات شريداً... ويحكى أنه عندما تهيأ لكتابة رد على سؤال الأكاديمية عن سبب اللامساواة بين البشر أخذ صاحبته وأمها معه إلى منطقة الغابات خارج باريس في منطقة «السان جرمان أن لي» من أجل التأمل والتفكير بعيداً عن ضجيج العاصمة وصخب الناس. ولم ينس أن يضع في جيبه قلم رصاص وورقة بيضاء لكي يسجل انطباعاته وأفكاره مباشرة قبل أن تفلت منه وتتبخر في الهواء.
وكانت هذه هي عادته دائماً. ولكن هذه المرة كان يعرف أنه مقبل على أمر عظيم. كان يشعر بأنه سيكتب نصاً عاصفاً يزلزل التاريخ الأوروبي. وعندما وصل إلى الغابة ترك المرأتين تمشيان بهدوء أو تستريحان على أحد المقاعد، وراح هو يصعد ويهبط في جنباتها بنوع من العصبية الزائدة عن الحد. راح جسده يختلج يميناً وشمالاً، وفي كل الاتجاهات لكي يساير توتر فكره وروحه، ولكي يتطابق توتر الجسد مع توتر الذهن فينصهران في حركة إبداعية واحدة. وكان الفكر يغلي في رأسه غلياناً فلا يتركه يهدأ أو يستقر على حال. وبالتالي فقد كان المشي السريع والبطيء، الصاعد والهابط، هو الوسيلة الوحيدة لتخفيف التوتر وإنجاب الفكر. ويبدو أنه قد دخل عندئذ في مرحلة الحسم الفكري لقضايا مهمة كانت تعتمل في نفسه منذ زمن طويل دون أن يتجرأ على خوضها. وهكذا قرَّر للمرة الأولى أن يدخل في صدام مباشر ومكشوف مع القوى الجبارة المهيمنة على المجتمع الفرنسي القديم من إقطاعيين وأثرياء فاحشين وأصوليين مزمجرين. كان روسو قد ابتدأ عندئذ يحضر نفسه للمعركة الكبرى. وكان أن نتج عن ذلك خطابه الشهير عن أصل الظلم واللامساواة بين البشر.
وهو أحد الخطابات التي أدت بعد أقل من ثلاثين سنة إلى اندلاع الثورة الفرنسية! وقد دفعوه ثمنه غالياً أثناء حياته. فقد احمرت عليه الأعين من عدة جهات، ولاحقوه في كل مكان، ونغصوا عيشه حتى مات... ولكن ما همَّ! فهو قد زرع لكي يحصد الآخرون... وقد حصدوا. لقد كتب لكي يهدم عالماً ويدشن عالماً جديداً على أنقاضه أكثر عدالة وإنسانية.
أما عن نيتشه فحدث ولا حرج! فهو قد أمضى معظم حياته سائراً على الأقدام، يجوب دروب أوروبا طولاً وعرضاً. وكان توتره الذهني من الكثافة والحدة إلى درجة مخيفة حقاً. فلم يكن يستطيع أن يهدأ في مكان واحد أكثر من ساعة أو ساعتين، على الرغم من مرضه، أو بالأحرى أمراضه العديدة. وكان من عادته ما أن يصل إلى منطقة ما ويخلع عن نفسه وعثاء السفر حتى يخرج فوراً لاستكشاف الدروب والمسالك الصغيرة الضيقة المحيطة بالمنطقة. وكان يجد لذة كبيرة في هذا الاستكشاف لا تعادلها إلا لذة اكتشاف دروب الفكر ومسالكه العويصة نفسها. وما الفرق بينهما في نهاية المطاف؟ أليس الطريق المسدود يشبه بشكل ما خطاً فكرياً مسدوداً؟ لكم انسدَّت أمام نيتشه دروب الفكر، ولكم انفتحت أيضاً! وبانفتاحها تجلى كون بأسره. ولكم حاول أن يفتحها عن طريق التجوال والغوص في مجاهل الطبيعة ودهاليز الفكر! كان المشي يساعده على التفكير، ويروّح عن ذهنه آلام التوتر النفسي الهائج الذي لا يكاد يفارقه لحظة واحدة. وكان وحيداً يسافر مع ظله فقط. من هنا نتج كتابه الصغير المعروف باسم «المسافر وظله». فظله يلاحقه أو يرافقه أينما ذهب. وربما لو استطاع لتخلص حتى من ظله! فنيتشه كان يحب الوحدة والحرية المطلقة. أو قل فرضت عليه فرضاً نتيجة ظروف عديدة لا حيلة له بها، تماماً مثل روسو، وإن لأسباب مختلفة. وكان يعتبرها شرطاً أساسياً لممارسة الفكر والتفرغ للفلسفة. أما أولئك الذين لا يستطيعون أن يكونوا وحيدين ثلث نهارهم على الأقل، فلا يمكن أن يصبحوا فلاسفة! نيتشه كان وحيداً ليلاً- نهاراً فقط! وفي صحراء الوحدة الشاسعة والمترامية الأطراف كان يحلو له أن يغوص في أعماق الفكر فلا يكاد يرجع. وقد غاص مرة وما عاد... يضاف إلى ذلك أن نيتشه كان يحب الدروب الجبلية الوعرة فيتسلقها على الرغم من مرضه تسلق الهواة حتى يصل إلى أعلى قمة فيها. ومن الأعالي الشاهقة كان ينظر إلى البشر تحته بستة آلاف قدم! وهناك كان يتنفس هواء الأعالي في جبال الأنغادين الساحرة بسويسرا: جنة الله على الأرض. وهناك أيضاً جاءته، لأول مرة، فكرة العودة الأبدية للأشياء ذاتها إلى ما لا نهاية فخر صريعاً على الأرض. لقد كسرتْ ظهره! وهي من أعمق الأفكار التي توصل إليها، وربما كانت تشكل لب فلسفته. وقد جاءت على هيئة إلهام صاعق... لم يكن نيتشه قادراً على تحمل وجود البشر حوله أو أمامه أو حتى على مستواه عندما يفكر.
فالآخر، حتى لو كان بعيداً، كان يمثل جداراً أو حصاراً يمنعه من التنفس والانطلاق. الجحيم هو الآخرون كما يقول جان بول سارتر... لطالما مشى نيتشه وتاه! نيتشه أكبر مشاء في تاريخ الفكر... ويحكى أن أحد المعجبين زاره مرة في منطقة الجبال بسويسرا، لكي يحظى برؤيته، ويسلم عليه، ويسمع كلامه، فلم يجده في غرفته. فغاب ساعة من الزمن ثم عاد فوجده مطروحاً على الفراش وهو يئن ويتوجع، فسأله عما به؟ فأجاب: لقد «وضعْت» أو «خلَفت»! وكان قد سطَّر آخر صفحة من كتابه الشهير: «هكذا تكلم زرادشت». وعلى هذا النحو «يحبل» الفلاسفة الكبار بالفكر، ويعانون الآلام المبرحة قبل الولادة السعيدة والمخاض العسير.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر
TT

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

هي رواية تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، تحمل اسم «عورة في الجوار»، وسوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر والتوزيع، وتقع في 140 صفحة.

عن عوالمها وفضائها السردي، يقول تاج السرّ لـ«الشرق الأوسط»: «تروي هذه الرواية التحولات الاجتماعية، وحياة الريف المكتنز بالقصص والأساطير، وانتقال البلد إلى (العصرنة) والانفتاح ورصد التأثيرات الثقافيّة التي تهبّ من المدن إلى الأرياف، لكنها ترصد أيضاً تأثير الأوضاع السياسية المضطربة في السودان على حياة الناس العاديين وما تسببه الانقلابات العسكرية من معاناة على السكان المحليين، خاصة في الأرياف... إلى جانب اهتمامها بتفاصيل الحياة اليومية للناس، في سرد مليء بالفكاهة السوداء».

حمل غلاف الرواية صورة الكلب، في رمزية مغوية إلى بطل الرواية، الذي كان الناس يطلقون عليه لقب «كلب الحرّ» كتعبير عن الشخص كثير التنقلّ الذي لا يستقرّ في مكان. كان كثير التنقّل حيث يعمل سائق شاحنة لنقل البضائع بين الريف والعاصمة وبقية المدن، والزمان هو عام 1980، وفي هذا الوقت يلتقي هذا السائق، وكان في العشرينات من عمره بامرأة جميلة (متزوجة) كانت تتبضع في متجر صغير في البلدة التي ينحدرُ منها، فيهيمُ فيها عشقاً حتى إنه ينقطع عن عمله لمتابعتها، وتشمم رائحتها، وكأنها حلم من أحلام الخلود.

وعن الريف السوداني الذي توليه الرواية اهتماماً خاصاً، ليس كرحم مكاني فحسب، إنما كعلاقة ممتدة في جسد الزمان والحياة، مفتوحة دائماً على قوسي البدايات والنهايات. يتابع تاج السر قائلاً: «الريف السوداني يلقي بحمولته المكتنزة بالقصص والأساطير حتى الفانتازيا في أرجاء الرواية، حيث ترصد الرواية ملامح وعادات الحياة الاجتماعيّة... لتنتقل منها إلى عالم السياسة، والانقلابات العسكرية والحروب الداخلية، حيث تسجل صراعاً قبلياً بين قبيلتَين خاضتا صراعاً دموياً على قطعة أرض زراعية، لا يتجاوز حجمها فداناً واحداً، لكنّ هذه الصراعات المحلية تقود الكاتب إلى صراعات أكبر حيث يتناول أحداثاً تاريخيّة كالوقائع العسكريّة والحروب ضدّ المستعمِر الإنجليزي أيّام المهدي محمد أحمد بن عبد الله بن فحل، قائد الثورة المهديّة، ومجاعة ما يعرف بـ(سنة ستّة) التي وقعت عام 1888، حيث تعرض السودان عامي 1889 – 1890 إلى واحدة من أسوأ المجاعات تدميراً».

وعلى الصعيد الاجتماعي، ترصد الرواية الغزو الثقافي القادم من المدن إلى الأرياف، وكيف استقبله الناس، خاصة مع وصول فرق الموسيقى الغربية، وظهور موضة «الهيبيز»، وصولاً إلى تحرر المرأة.

رواية جديدة تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، سوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر.

يشار إلى أن أمير تاج السر روائي سوداني ولد في السودان عام 1960، يعمل طبيباً للأمراض الباطنية في قطر. كتب الشعر مبكراً، ثم اتجه إلى كتابة الرواية في أواخر الثمانينات. صدر له 24 كتاباً في الرواية والسيرة والشعر. من أعماله: «مهر الصياح»، و«توترات القبطي»، و«العطر الفرنسي» (التي صدرت كلها عام 2009)، و«زحف النمل» (2010)، و«صائد اليرقات» (2010)، التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2011، تُرجمَت أعماله إلى عدّة لغات، منها الإنجليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والإسبانيّة والفارسيّة والصينيّة.

نال جائزة «كتارا» للرواية في دورتها الأولى عام 2015 عن روايته «366»، ووصلتْ بعض عناوينه إلى القائمتَين الطويلة والقصيرة في جوائز أدبيّة عربيّة، مثل البوكر والشيخ زايد، وأجنبيّة مثل الجائزة العالميّة للكتاب المترجم (عام 2017 بروايته «العطر الفرنسي»، وعام 2018 بروايته «إيبولا 76»)، ووصلت روايته «منتجع الساحرات» إلى القائمة الطويلة لجائزة عام 2017.

صدر له عن دار «نوفل»: «جزء مؤلم من حكاية» (2018)، «تاكيكارديا» (2019) التي وصلتْ إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (دورة 2019 – 2020)، «سيرة الوجع» (طبعة جديدة، 2019)، «غضب وكنداكات» (2020)، «حرّاس الحزن» (2022). دخلت رواياته إلى المناهج الدراسيّة الثانويّة الإماراتيّة والبريطانيّة والمغربية.