الصورة السردية في الخيال العربي

المغربي شرف الدين ماجدولين يبحث في جماليات اللغة السينمائية

الصورة السردية في الخيال العربي
TT

الصورة السردية في الخيال العربي

الصورة السردية في الخيال العربي

يبدأ الكاتب المغربي الدكتور شرف الدين ماجدولين، مؤلف كتاب «الصورة السردية في الرواية والقصة والسينما - قراءة في التجليات النصية»، كتابه الصادر عن دار «رؤية» بالقاهرة، بالتساؤل التالي: ما الفرق بين أن تقرأ صورة وأن تؤولها؟ ويجيب عن السؤال بقوله إن قراءة صورة عمل تصنيفي تنصرف إلى البحث في الحدود، وتنشغل باستجلاء «المكونات» و«القيم» و«الوظائف». إنه عمل نظري، تمثيل لخبرات الوعي في تمييز الأثر الجمالي، وإفراغ له في مفاهيم وحدود.
أما التأويل فيتعلق بالمعنى، إنه تجاوز للآلة الناقلة إلى ما تنقله، وانشغال بالمعلول على العلة، فما العلة إلا حامل للقصد بمستوياته الرمزية والفكرية والدلالية. من هنا، كما يرى الكاتب، كانت القراءة «ضرورية» للناقد، بينما التأويل تجاوز غير لازم، وقيمة مضافة، تستمد قيمتها من قدرة المؤول على الفهم والتفسير والاستيعاب لمقومات الصور وأبعادها.
لكنه يؤكد أن انشغاله هنا سيتركز على قراءة اللغة السردية في أعمال الفن والأدب، باعتبارها «صورة» لا ترتبط بالضرورة بمسألة التأويل، لأنه يرى أن السرد «إنجاز غير بصري» يشكل صورته التجريدية ووسيلته في التخييل وتظهير المتخيل، ولا بد من أن يلجأ المتأمل لعالم الصور إلى سلوك تصنيفي عند الحديث عن تشكيلات الصور في فنون النثر المرتكز على قاعدة السرد، أي فرز صورة السرد الأدبي مثلا عما سواها في الشعر والنثر والمسرح، ولكن أيضا قدرة الصور السينمائية على استبطان الفعل واستدعاء المؤثرات البصرية.
يقع الكتاب في 151 صفحة (من القطع الصغير)، وينقسم إلى ثلاثة فصول: الأول - في الصورة الروائية، والثاني - في الصورة القصصية، والثالث - في الصورة السينمائية.
في الفصل الأول يعرض الكاتب للجيل الذي يطلق عليه جيل «بلاغة الانكسار» التي هي مزيج من سمات الواقعية والتسجيل والتمثيل الساخر والتكيف الشاعري والذهني في البناء الدرامي للنص الروائي. وهذا هو جيل جبرا إبراهيم جبرا وجمال الغيطاني وغالب هلسا وحنا مينا وعبد الرحمن منيف، أي الجيل الذي جاء بعد نجيب محفوظ، وأنتج - حسبما يرى الكاتب - شكلا شديد التجانس للاستبطان والكشف التغريبي يمتلك «سننا بلاغية» مميزة. ثم يتوقف الكاتب عند المنجز الروائي للكاتب حيدر حيدر الذي يرى أنه ينتمي إلى جيل ما بعد جيل «بلاغة الانكسار» الذي تتميز أعماله بهيمنة بتجربة الرحيل والمنفى عليها، لذلك يجد أن من الطبيعي أن ينفذ حيدر إلى أجواء شخصيات تقتسم في ما بينها سمات التوتر والتيه والفعل الهروبي.
ويقدم الكاتب تحليلا تفصيليا لرواية «موس الغجر» لحيدر حيدر، ويعود في نقده الجدلي المثير إلى الربط بينها وبين أعمال الكاتب الأخرى، ومستويات السرد عنده، وصور شخصياته وحواراتها الحسية، وينطلق بعد ذلك إلى تحليل رواية «إنانة والنهر» لحليم بركات، التي يرى أنها بحساسيتها وعمقها وعذوبتها الجارحة «توحي لقارئها منذ الوهلة الأولى بأن العمل الروائي، حين تكتمل فيه شروط الإبداع، يتحول إلى رؤية كاشفة، بغيابها يمحى وجه كبير من الحقيقة التي تهم حياتنا وسلوكنا ونظرتنا للأشياء، محكوما عليه بالغياب الأبدي في أطواء الذاكرة».
وهو يراها أيضا «شكلا نثريا بالغ الإتقان لتجليات الأنا الأعلى المثالي للأنثى العربية». ومن حيث الشكل السردي بنيت الحبكة الروائية بطريقة يطلق عليها الكاتب «الامتداد الدائري للأحداث والوظائف التخييلية، على نحو يجعل أفعال الشخصيات تدور في فلك حلقات سردية صغرى - تتصادم مع بعضها كي تؤلف في النهاية دائرة درامية موسعة، تختزل تماثلات الكون الروائي».
وبعد أن يتناول الكاتب بالتحليل روايات مثل «بريد بيروت» لحنان الشيخ، و«المصري» لمحمد أنقار، و«هذيان» للإيطالي أنطونيو تابوكي، ثم «الصور القصصية» عند محمد أنقار وعلي القاسمي، يخصص الكاتب فصله الأخير للصورة السينمائية، وهو أمر نادر في كتاب يتعلق بتناول تطور الشكل السردي الأدبي في الرواية والقصة.
هنا يرى المؤلف أن الصورة السينمائية تتجلى كإمكانية تمثيلية موازية للإمكانيات المتاحة في الصيغ المتعددة لفنون التصوير اللغوي والبصري، غير أنها تمتاز عنها بكونها تمتلك القدرة على التواصل بأكثر من لغة: أي أنها كما يذكر تحتوي على العناصر التكوينية للفنون البصرية، الخط والشكل والكتلة والحجم والتركيب، كما تستغل التفاعل الدقيق بين الظل والنور، وتتناول مثل فن النحت المكان بأبعاده الثلاثة، وتركز على الصور المتحركة شأن التمثيل الصامت، وهذه الصور لها إيقاع مثل إيقاع الرقص، وهذه الإيقاعات المركبة في الفيلم تشبه الكائنة في الموسيقى والشعر، كما أن الصورة السينمائية شأن الشعر خصوصا، تعبر من خلال التصور الذهني والاستعارة المجازية والرمز من خلال الفصل والإشارة، ولفظيا من خلال الحوار، وأخيرا على غرار القصة، يبسط الفيلم أو يضغط الزمان والمكان.
ومثالا على براعة التكوين الجمالي في الفيلم العربي يتخذ الكاتب من فيلم «سارق الفرح» للمخرج المصري داود عبد السيد نموذجا، فهو يرى أن مخرجه - الذي يستند هنا إلى نص روائي للكاتب خيري شلبي - يراهن على تقديم صورة فنية متجانسة عن السعي الإنساني الحثيث لاختلاس لحظات من الفرح والحبور من جوف الأسى والفقدان. و«لتحقيق هذا الرهان تم وضع صيغ التصوير في قالب من البدائل الموضوعية الجزئية التي تراوح بين حدين متقاطعين مثل: الفرح - الانكسار، الحب - الخيبة، الطموح - تبخر الآمال، بحيث تتخذ كل ثنائية من هذه الثنائيات وضع المحور الجزئي الذي تبنى عليه عدة مشاهد، ويتخذ عبر تقنية المونتاج وجودا متماهيا مع الكل المحبوك».
ميزة هذا الفصل أن المؤلف لا يتوقف عند حد إطلاق مقولات عامة مبهمة، بل يتمدد في بحثه في «جماليات الفيلم» صورة وسردا وتعبيرا وإخراجا، إلى تحليل مشاهد معينة يلتقطها ويتوقف أمامها دون أن يغفل علاقتها بالروح العامة لموضوع الفيلم وشخصياته وطبيعة المكان الذي تدور فيه أحداثه.
والكتاب أخيرا لا شك أنه بحث مكثف شيق يجيب عن الكثير من التساؤلات التي يطرحها الكثيرون حول قيمة وأهمية الصورة السردية في الخيال العربي الروائي والبصري.



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».