القصة القصيرة.. هل أصبحت من الماضي؟

كتاب بريطاني يرد الاعتبار لفن صعب وجميل

فرجينيا وولف
فرجينيا وولف
TT

القصة القصيرة.. هل أصبحت من الماضي؟

فرجينيا وولف
فرجينيا وولف

من الأقوال الشائعة في عصرنا هذا - شرقا وغربا - أن عصرنا الحالي هو عصر الرواية، وأن غيرها من الأجناس الأدبية قد تراجع إلى الخلف - بما في ذلك القصة القصيرة - وذلك لقدرة الرواية بحكم امتدادها في المكان والزمان على الإحاطة الشاملة بشتى جوانب الخبرة الإنسانية، وإمكانية استيعابها لغنائية الشعر ودرامية المسرح، وومضات الأقصوصة، واستطرادات المقال.
وممن روجوا لهذه المقولة في نقدنا العربي: علي الراعي وجابر عصفور وسامي خشبة وغيرهم. حتى أصبح ما يقولونه عن أفول نجم القصة القصيرة من المسلمات أو يكاد. والكتاب الذي نعرضه هنا محاولة لرد الاعتبار إلى القصة القصيرة، هذا الفن الجميل الصعب الذي بلغ به موباسان وادغار بو وتشيخوف وغيرهم ذرى رفيعة في القرن التاسع عشر. ولم يعدم في عصرنا قمما من طراز جويس وكاثرين مانسفيلد وهمنجواي. إنه كتاب «القصة القصيرة في اللغة الإنجليزية» لمؤلفه أدريان هنتر المحاضر بجامعة سترلنغ البريطانية (الناشر: مطبعة جامعة كمبردج).
ويمتاز الكتاب بجمعه بين النظرية والتطبيق، فهو يدرس القصة القصيرة شكلا وأسلوبا وتقنية في إطار حضاري أوسع ويسلط بؤرة اهتمامه على قرابة عشرين كاتبا وكاتبة مختلفي الجنسيات (جوزيف كونراد البولندي المولد، كاثرين مانسفيلد النيوزيلندية، أليس مونرو الكندية «الفائزة بجائزة نوبل للآداب لهذا العام»، مارجوري برنارد الأسترالية، تشنوا أتشيبي النيجيري، إلخ..)، وكلهم يشتركون في أنهم يكتبون باللغة الإنجليزية ومن ثم يعد أدبهم - على اختلاف أصولهم العرقية - جزءا أصيلا من الأدب الإنجليزي.
والدعوى التي يسعى الكتاب إلى إثباتها هي أن القصة القصيرة جنس أدبي قادر على البقاء في وجه أي منافسة، وقد أثبت فعلا هذه القدرة. إنه ليس من مخلفات الماضي ولا يمكن أن ينوب عنه أي جنس أدبي آخر. ومما يشهد بذلك صدور عدد من الكتب النقدية المهمة عن أصول هذا الفن وتطوره، في طليعتها «القصة القصيرة في اللغة الإنجليزية» لوالتر ألن، و«القصة القصيرة الحديثة» لـ«هـ.أ.بيتيس»، و«الصوت المنفرد» لفرانك أوكونر (ترجمة إلى العربية د.محمود الربيعي)، «القصة القصيرة» لألن ريد (ترجمة إلى العربية د.منى حسين مؤنس)، وغيرها.
وفي مقدمته للكتاب يورد المؤلف رأي القاصة الآيرلندية إليزابيث باون، التي تذهب إلى أن القصة القصيرة ابنة لعصر السرعة الذي نعيش فيه، وأنها تعكس إيقاعات الحياة الحديثة. إنها - كالسينما - من مواليد القرن العشرين. وهي كالفيلم تروى قصتها لا من خلال العرض المفصل - كما هو الشأن في فن الرواية - وإنما عن طريق سلسلة من الإيماءات المضمرة على نحو حاذق مستخف، واللقطات السريعة واللحظات الموحية، حيث إن القصة القصيرة - نظرا لطابع السرعة الغالبة عليها - فن أميركي بوجه خاص، حيث الناس «يتكلمون على نحو أسرع، ويتحركون على نحو أسرع، ويفكرون في ما يظهر على نحو أسرع». ينقسم كتاب هنتر المرتب زمنيا إلى مقدمة، فأربعة أقسام هي: القرن التاسع عشر، القصة القصيرة الحداثية، قصص ما بعد الحداثية، قصص ما بعد الكولونيالية وغيرها، وينتهي بهوامش، وقائمة مراجع لمن يرغب في المزيد.
ممن يتوقف عندهم المؤلف في حديثه عن القصة الحداثية الأديب الآيرلندي جيمز جويس (1882 - 1941) صاحب المجموعة القصصية «أناس من دبلن» (1914). في قصته المسماة «إيفلين» فتاة تتردد في أن تهجر حياتها الرتيبة المملة، وتهرب مع حبيبها الذي يريد الزواج منها إلى بلد آخر. لكنها في آخر لحظة - إذ توشك السفينة على الإقلاع - لا تواتيها الشجاعة على قطع جذورها بماضيها فتبقى. هذا نموذج للواقعية النفسية التي تضيف إلى الملاحظة المادية الدقيقة عنصرا جديدا هو تتبع خواطر الشخصية، مما يؤذن بأسلوب المونولوج الداخلي والأسلوب الانطباعي اللذين برع فيهما جويس، وبلغ بهما القمة في روايته «يولسيز» (1922).
ويتوقف هنتر عند رائدة أخرى من رواد المونولوج الداخلي هي فرجينيا وولف (1882 - 1941) في قصتها المسماة «رواية لم تكتب» (لها ترجمة عربية بقلم فاطمة ناعوت). تصور القصة مقابلة بين راوية لا تسميها الكاتبة وسيدة عجوز تجلس أمامها في عربة قطار. وتحاول الراوية أن ترسم في خيالها صورة لتاريخ هذه السيدة وما مرت به من خبرات، وكأنها شخصية في رواية تريد الراوية أن تكتبها. إنها تمنح السيدة اسما من عندها: ميني مارش.. وتدرس ملبسها وطريقتها في التصرف ووجهها وما تنتعله في قدميها ودبابيس قبعتها. وتنتهي الراوية - في ثقة - إلى أنها قد حلت لغز السيدة متخيلة عددا من السيناريوهات تكون فيها السيدة، مثلا، ارتكبت جريمة، وأصبحت موضوعا صالحا للتحليل النفسي. وحين تهبط السيدة من القطار ويكون ابنها في انتظارها ينهار السيناريو الذي رسمته الراوية. وتنتهي القصة بإقرار هذه الأخيرة أن المواضعات القصصية التقليدية تعجز عن النفاذ إلى أسرار قلب الإنسان. «من تراك تكونين؟ لماذا تسيرين في الشارع؟ أين ستنامين الليلة ثم غدا؟».. هذه كلها أسئلة تطرحها الراوية على ميني مارش ولا تجد لها إجابة. فالسيدة العجوز تظل فريدة، غامضة، تستعصي على تقنيات التحليل النفسي، أو الواقعية الاجتماعية، أو قصص الإثارة والترقب.
وكاثرين مانسفيلد (1888 - 1923) كاتبة أخرى حداثية وصفت بأنها تلميذة تشيخوف النجيبة، لكنها تمكنت من الخروج من إزاره ليكون لها صوتها الخاص. في أقصوصتها المسماة «سعادة» (نقلها إلى العربية د.رشاد رشدي في كتابه «فن القصة القصيرة») البطلة تدعي برثا ينغ سعيدة في زواجها من هاري المرح المملوء حماسة وحيوية، لكن سعادتها تتقوض حين تكتشف أنه يخونها مع إحدى المدعوات في حفلة تقيمها، وهي سيدة جميلة غامضة تدعي بيرل فولتون. وتظل الطبيعة - ممثلة في شجرة الكمثرى المزدهرة في حديقة بيتها - صامتة لامبالية بدرامات البشر، سعيدة كانت أو شقية.
وصامويل بيكيت (1906 - 1989) الذي اشتهر أكثر ما اشتهر بمسرحياته العبثية «في انتظار غودو» و«لعبة النهاية» وغيرهما، قد أدلى هو الآخر بدلوه في ميدان القصة القصيرة. لقد تأثر بجويس (وهو آيرلندي مثله) لكنه تميز برؤيته التشاؤمية للوجود الإنساني وفكاهته المريرة الأسيانة، بل السوداء. انظر مثلا إلى قصته المسماة «دانتي وسرطان البحر» أولى قصص مجموعته القصصية «وخزات أكثر مما هي ركلات» (1924). تبدأ القصة وبطلها المدعو بلاكوا يحاول أن يفهم بعض الأبيات من ملحمة دانتي «الكوميديا الإلهية» - أبيات تشرح فيها بياتريشي في الأنشودة الثانية من «الفردوس» السبب في أن القمر يضم بقعا مظلمة. وترد في القطعة كلمة «شفقة». وفي فترة لاحقة من اليوم يسأل بلاكوا معلمته في اللغة الإيطالية عن معنى القطعة فتقول له إنها مثيرة للخلاف، وإنها سترجع إلى مراجعها ثم ترد على سؤاله. وقرب نهاية القصة يتجه بلاكوا إلى بيت عمته ويصدم حين يجد أنها ستطهو سرطانا بحريا بأن تغليه حيا. وها هو ذا «صليبي الشكل على القماش المزيت.. ما زال أمامه نحو ثلاثين ثانية من الحياة». وتنتهي القصة على هذا النحو:
«حسنا - هكذا فكر بلاكوا - إنه لموت سريع. فليعنا الله جميعا. إنه ليس كذلك».
هكذا تكتسب كلمة «شفقة» - التي كان بلاكوا يفكر فيها - معنى جديدا أشبه بالتورية الساخرة. لا شفقة هنا، وإنما الوجود الإنساني لا يعرف الرحمة. القوي يأكل الضعيف، في عالم البشر كما في عالم الأسماك.
والخلاصة التي نخرج بها من كتاب أدريان هنتر هي أن القصة القصيرة لم تمت، ولن تموت. إنها جنس أدبي يظل محتفظا بجوهره الباقي: لحظة ذات دلالة تومض لبرهة قصيرة في ظلمة الوعي وتزيدنا بصرا بأنفسنا وبالآخرين.



إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر
TT

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

أعلنت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بـ«البوكر العربية») صباح اليوم القائمة الطويلة لدورة عام 2026. وتم اختيار الـ16 المرشحة من بين 137 رواية، ضمن 4 روايات من مصر، و3 من الجزائر، و2 من لبنان، ورواية واحدة من السعودية، والعراق، والمغرب، وسوريا، واليمن، وتونس، وعمان. وتنوعت الموضوعات والرؤى التي عالجتها هذه الروايات كما جاء في بيان اللجنة، وهي:

«ماء العروس» للسوري خليل صويلح، و«خمس منازل لله وغرفة لجدتي» لليمني مروان الغفوري، و«الاختباء في عجلة الهامستر» للمصري عصام الزيات، و«منام القيلولة» للجزائري أمين الزاوي، و«عمة آل مشرق» لأميمة الخميس من السعودية، و«عزلة الكنجرو» لعبد السلام إبراهيم من مصر، و«أيام الفاطمي المقتول» للتونسي نزار شقرون، و«البيرق» للعُمانية شريفة التوبي، و«فوق رأسي سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، و«في متاهات الأستاذ ف. ن.» للمغربي عبد المجيد سباطة، و«الرائي: رحلة دامو السومري» للعراقي ضياء جبيلي، و«غيبة مي» للبنانية نجوى بركات، و«أصل الأنواع» للمصري أحمد عبد اللطيف، و«حبل الجدة طوما» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، و«الحياة ليست رواية» للبناني عبده وازن، و«أُغالب مجرى النهر» للجزائري سعيد خطيبي.

وستُعلَن القائمةُ القصيرة للجائزة في فبراير (شباط) المقبل، والرواية الفائزة في التاسع من أبريل (نيسان) 2026 في احتفالية تُقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي.


متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»