د. سامي الجمعان: المسرح السعودي يتحرك ويشاغب ولا يراوح مكانه

هناك ظلم لتجربتنا المسرحية.. ومسرحنا يفعل ما يفوق ظروفه وبيئته الصارمة

د. سامي الجمعان
د. سامي الجمعان
TT

د. سامي الجمعان: المسرح السعودي يتحرك ويشاغب ولا يراوح مكانه

د. سامي الجمعان
د. سامي الجمعان

بدأ الكاتب المسرحي السعودي د. سامي الجمعان حياته الثقافية من المسرح، وحصل في عام 1987 على أول جائزة تمثيل في المسرح السعودي على مستوى الخليج، وذلك في مهرجان مسرح الشباب الخليجي في الشارقة. وشهدت خشبة المسرح صعوده نحو الإخراج المسرحي وكتابة النص. ثم تفرغ لدراسة المسرح أكاديميا، فكانت رسالة الماجستير التي حصل عليها بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف في السرديات والدراما. أما الدكتوراه فكانت عن دراسته «خطاب الرواية النسائية السعودية وتحولاته».
وحققت الأعمال التي أخرجها حضورا على المسرح، وفازت بجوائز محلية وخليجية (حاز على أكثر من تسع جوائز في مجال الإخراج والتأليف المسرحي). وقد حققت النصوص المسرحية التي كتبها نجاحا ملحوظا، بينها نصه «والقافلة تسير» الحائز على جائزة أفضل نص في مهرجان مسرح الشباب الخليجي عام 1993. ونصه «حدث في مكة» الحائز عام 2011 على المركز الثاني، في مسابقة تأليف وزارة الثقافة والإعلام. كما فاز نصه «موت المؤلف» في مهرجان المسرح السعودي الرابع عام 2007 بجائزة أفضل نص.
وللجمعان عدد من الدراسات النقدية، بينها دراسة بعنوان «حضور ألف ليلة وليلة في المسرح العربي»، وأخرى بعنوان «المسرحية في الأدب العربي». وله كتاب بعنوان: «موت المؤلف.. نص وبيانات مسرحية». كما أصدرت له وزارة الثقافة والإعلام مجموعته المسرحية الثانية بعنوان «حدث في مكة ومسرحيات أخرى». وصدر له كتيب بعنوان «الظاهرة التمثيلية عند العرب». وحرر كتاب «في المسرح السعودي» الصادر عن كرسي الآداب السعودية بكلية آداب جامعة الملك سعود بالرياض عام 2013. واختير نصه عن الشاعر الجاهلي الأعشى للمسرحية الرئيسة في مهرجان سوق عكاظ 2013.
لدى الجمعان مشروع تأليف مسرحي يحمل عنوان «مسرحة الرموز والتجارب المسرحية العربية»، يمثل تجربته الكتابية في مجال المسرح، ويتضمن الجانب النظري لهذا المشروع واستراتيجياته.
«الشرق الأوسط» التقت الدكتور سامي عبد اللطيف الجمعان، الباحث والكاتب المسرحي، وأستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك فيصل في الأحساء، وعضو مجلس إدارة جمعية المسرحيين السعوديين، ومدير فرع جمعية الثقافة والفنون بالأحساء سابقا، في الأحساء شرق السعودية حيث يقيم، وأجرت معه الحوار التالي.

المسرح والأحكام المسبقة

> أين يقف المسرح السعودي اليوم؟ لماذا لا نلحظ تراكما في التجربة المسرحية على الرغم من مرور كل هذه السنوات؟
- إن أردت جوابا حاسما فموجزه أن مثل هذا السؤال ينتمي إلى فئة الأحكام المقولبة عن المسرح السعودي. والمقولبة هي التي تتبنى منظور الحكم المسبق / الجاهز، وهو حكم يظلم كثيرا تجربتنا المسرحية السعودية، بل في اعتقادي ان أصحاب هذه الرؤية هم أبعد ما يكونون عن المسرح السعودي ومشهده، لأن الواقع مغاير ومختلف. نحن حيال تجربة تتنامى وتتطور وتتكرس بشكل لافت، ونحن كعاملين في هذا الحقل نمتلك أدلة قاطعة على ثراء التجربة وتفرع أغصانها.
> ما هذه الأدلة؟
- من تلك الأدلة، ما تقوله الإحصاءات والأرقام التي تشير إلى حراك مسرحي سعودي يزيد سنة عن الأخرى. أيضا المنافسة الخليجية والعربية التي بدأت التجربة المسرحية السعودية تقتحمها بجدارة، على المستويين الخليجي والعربي. أضف إلى هذا وذاك التنوع الفني المنتمي إلى التجربة، من حيث المدارس المسرحية المعمول في إطارها، ناهيك بتجربة النص المسرحي السعودي التي بدأت تبلغ حد الاحترافية عبر أسماء لامعة.
> على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على تأسيس أحمد السباعي (عام 1961) لأول تجربة للعرض المسرحي، حملت اسم «دار قريش للتمثيل القصصي»، فإن المسرح السعودي لا يزال يراوح مكانه. مَن يتحمل المسؤولية عن ذلك؟
- سأكررها في كل محفل، وسأقول بأعلى ما أوتيت من قوة: المسرح السعودي لا يراوح مكانه، وحكمي هذا يتكئ على الموضوعية لا على الانفعالية أو العاطفية والارتجال. مسرحنا ينجز، يتحرك، يشاغب، يصمد، يغامر، يفعل ما يفوق ظروفه المحيطة وبيئته الصارمة. ولكن دعني أُرِحْكَ من هذه الدوامة بتحديد مكمن مشكلة المسرح السعودي ومعضلته الأساسية، المتمثلة في موقف ثقافتنا المجتمعية من فن المسرح، وتوجسنا الاجتماعي منه، وترددنا الرسمي في دعمه وتكريس حضوره، مما أدى إلى أن يصبح المسرح هامشيا في حاجتنا الاجتماعية إليه، بينما المسرح له خاصية التأثير الاجتماعي المستمر، بحيث يصبح تفاعل الناس معه تفاعلا يوميا وعادة متواترة. ومتى ما وصلنا إلى هذه الحالة الثقافية الاجتماعية في فهمنا لدور المسرح، سنسحب تهمنا تلك ونلقي بها عرض البحر.

> لماذا تنجح «الممانعة» الاجتماعية في إعاقة المسرح السعودي، ويفشل المسرحيون في الدفاع عن قضيتهم؟
- ببساطة شديدة، لأن تيار الممانعة يدرك موقف مجتمعنا المتوجس من الفنون عامة، ويلعب على هذا الوتر، بينما لم يحسن المسرحي السعودي تسويق بضاعته الفنية، ولا تسويق إبداعه. وفي ظني، إن السبب في هذا هو عدم جديتنا كمسرحيين في صنع موقف اجتماعي مغاير للسائد في الوعي بدور المسرح وأثره. فنحن نصنع المسرح كمنتج، ولا نصنع آليات تسويقه اجتماعيا، وهو ما أدى إلى نخبوية جماهيرية خانقة.

من يدعم المسرح؟

> أين تقف جمعية المسرحيين؟ هناك من يرى أنها لم تسهم في دفع الحركة المسرحية للأمام وحسب، بل أضرت بها أيضا. كيف تراها أنت؟
- أيضا هو اتهام باطل بكل المقاييس، فجمعية المسرحيين المتهمة دائما من دون وجه حق، وقعت في إشكالية تنظيمية شأنها شأن الجمعيات الأخرى، على الرغم من أن بداياتها الأولى كانت رصينة ومنظمة، فضلا عن المنجز الذي حققه مجلس إدارتها الحالي بالتعاون مع أعضائها، الذي يحاول البعض طمسه أو تجاهله. ولا أدري هل يستطيع أحد مسح تاريخ مثبت وموثق، فعلى الرغم من الإمكانات الضعيفة من جانب، والهجوم الإعلامي الكاسح على المجلس منذ البدايات من جانب آخر، أود من كل منصف العودة إلى ما سعيت لإنجازه، وهذا ليس من باب الدفاع إنما من باب إحقاق الحق. وصدقني كان الطموح أكبر والتطلعات أجمل لولا العثرات التي وقفت في الطريق ويصعب تجاوزها، لأن المال مثلا هو عصب النشاط والحركة، وهذا غير متوفر. فالإدارة الحالية على أقل تقدير تطالب بدعم مادي لعقد جمعيتها العمومية وترشيح المجلس الجديد، ولكن لا مجيب، وستبقى إشكالية الدعم المالي بُعْبُعاً لكل مجلس حالي أو مقبل.
> كيف تقيم مساهمة القطاع الخاص، والشركات، وخصوصا مساهمة «أرامكو» في إثراء التجربة المسرحية؟
- «أرامكو» ضربت مثالا حيا وحقيقيا على دعمها للمسرح. ودربت المواهب السعودية، ودعمت المهرجانات المحلية، وأتاحت الفرصة للمسرحيين للعمل في مهرجاناتها. ولكنني أقول ما زال المنتظر من هذه الشركة السعودية العملاقة أكبر، والطموح في دعمها أكثر. قبل أيام قليلة، دعتنا الشركة إلى معرض إثراء المعرفة الذي تنظمه من أجل حضور عرض مسرحي. وقد سرني أن النسبة الأكبر من الطاقم من الشباب السعودي المتدرب، الذي خضع في بريطانيا لورش عمل كثيرة في مجال المسرح. أما القطاعات الأخرى فيبدو أنها حتى الآن غير مقتنعة بالمسرح.

المسرح ووسائط الإعلام المتعددة

> لماذا لا يوجد عرض مسرحي سعودي امتدت به الحياة، أسوة بالتجارب المسرحية العربية والخليجية مثلا؟
- عروض جميلة ومتقنة بالفعل كان مصيرها التلاشي. وهذه مسألة أوافقك عليها إن كنت تقصد بامتداد الحياة به إطالة أمد عرضه. وهي إشكالية حقيقية تواجه المسرح السعودي والكثير من المسارح العربية، وهي قصر حياة العروض، على الرغم من الفترات الزمنية الطويلة التي نهدرها في التحضير. ويعود هذا إلى قلة الدعم المادي، ثم القاعات غير المتوفرة وغير المجهزة، والنفَس المسرحي القصير لدى المسرحي السعودي. وهذا ينسحب أيضا على المسرح الخليجي، فهو يواجه أيضا إشكالية قِصَر النفَس المسرحي نفسها، وصغر حياة العروض.
> برأيك، هل يمكن للمسرح كموقع إبداعي أن يحظى بمكانة في وسائط الإعلام المتعددة المعاصرة؟
- المسرح الآن يناضل من أجل هذا، فالهجوم الكاسح للحركة السينمائية، وتطور دور السينما، فضلا عن برامج التواصل الاجتماعي، وقوة حضور الإنترنت، سرق جميعه الضوء من المسرح. وهذه حقيقية علينا أن نعترف بها، ولكن يجب أن نعرف بأن المسرح يمتاز بنكهته «الفرجاوية» الخاصة، فلفرجته ومشاهدته متعة لا يحققها غيره، على اعتبار الأداءات الحية، والنبض التواصلي الوجداني المباشر، والأثر الذي يتركه المسرح في نفوس الجماهير. وبالتالي فالمسرح رغم قوة منافسيه سيبقى بذلك الوهج الخاص الذي لا يمتلكه سواه.

> كيف ترى وسائل التواصل الاجتماعي كـ«تويتر» التي تستخدم اليوم لصناعة حالة حوارية ذات قوالب مسرحية؟ هل يمكن أن نلجأ إلى العالم الافتراضي بعد أن عجزنا عن صناعة واقعنا المسرحي على الأرض؟
- لكل نوع جمالياته وطقوسه. وأنا أرى أن نستبدل الفكرة التنافسية بين المسرح والعوالم الفنية والإلكترونية الأخرى بفكرة أكثر حضارية، هي الفكرة التفاعلية، بحيث نستثمر التكنولوجيا في فن المسرح. ونستثمر منتج وسائط التواصل الاجتماعي في صناعة أفكار المسرح، وهي مشاريع قائمة على مستوى العالم حاليا، حيث صناعة المسرحية «الفيس بوكية» مثلا، وتشكيل نصوص مسرحية من تغريدات الـ«تويتر»، وهكذا. لا ننسى أن الفنون والعلوم تراكمية وتفاعلية، يأخذ بعضها من البعض الآخر ومن هنا يفترض أن ننطلق.

المشروع المسرحي

> اشتغلت أكاديميا على مسرح التراث من خلال كتابك «حضور ألف ليلة وليلة في المسرح العربي». ألا تعتقد أن الاشتغال بالتراث استهلك الكثير من المسرح الخليجي الجاد؟
- لأن الصلة وثيقة بين التراث وفن المسرح، فهذا الأمر طبيعي للغاية. ومنذ أن نشأ المسرح على أيدي اليونانيين وغيرهم وهو يتكئ على التراث ويتعاطى مع صيغه. فالمسرح اليوناني في بواكيره نهل من الأساطير، واستوحى التاريخ، وجسد الرموز والأبطال. فوجد فن المسرح في تراث الأمم كنزا لا ينضب ومصدرا لا ينتهي. وكتابي الذي أشرت إليه هو في الأصل رسالة ماجستير جمعت بين حقلين: حقل المسرح وحقل السرديات القديمة، ممثلة في الكتاب القصصي العظيم «ألف ليلة وليلة»، في محاولة مني لتقصي تلك الفاعلية وقياس مدى تأثير «ألف ليلة وليلة» في المسرح العربي عامة. وانتهيت إلى أن المسألة لا تقتصر على التأثير، بل تبلغ مرتبة «الحضور»، والحضور هنا بمعناه الفلسفي العميق يعني «الهيمنة»، هيمنة قصص «ألف ليلة وليلة» في حضورها على الكتاب وقدرة موتيفاتها السحرية على جذب أقلامهم.
> ماذا بعد كتابك «موت المؤلف وبيانات مسرحية»؟ إلى أين تحمل قضية المسرح؟
- قيمة هذا الكتاب الذي صدر عام 2009 في حمله توثيقا لثلاث تجارب مهمة أصدرتها على شكل بيانات مسرحية. الأولى تجربة أحمد السباعي المسرحية التي لم تكتمل، وخوضي في القضايا الدائرة حولها. ثم واقع المسرح السعودي وإشكالية القبضة الاجتماعية المحيطة به. ثم مشروعي التأليفي الذي عنونته بـ«مسرحة الرموز والتجارب المسرحية العربية». وهذا المشروع هو خلاصة ما انتهت إليه تجربتي الكتابية في مجال المسرح، فضمنته الجانب النظري لمفهوم المشروع واستراتيجياته، ثم نصا مسرحيا يعتبر بمثابة التطبيق على المشروع، وهو نص «موت المؤلف». ما أود الإشارة إليه، وهذا ما يحبطنا، هو أن نقادنا لا يطلعون على تجاربنا ولا يتأملونها. لك أن تتصور أن بعض النقاد العرب على اطلاع على هذا الكتاب والمشروع، وكتبوا عنه أكثر من نقادنا ومسرحيينا. فنحن تنقصنا جدية التأمل في التجارب السعودية والتعامل معها نقديا.
> أصدرت مجموعتك المسرحية «حدث في مكة.. ترنيمة إلى أحمد السباعي». ماذا تقول للسباعي أبي التجربة المسرحية السعودية؟
- أقولها بفخر: كم أعتز بك أيها السباعي الأديب المغامر. أيها المتطلع لواقع أجمل. فليرحمك الله لأنك كنت تصنع المسرح في زمن لم يعرف المسرح. وسامح الله من أحبطك ووقف في وجه مشروعك الثري. وأقول للسباعي: كم أعجبتني جديتك وعنايتك بالتفاصيل. كم كنت حضاريا في إعطائك الأدوار لأصحابها. فالمؤلف تركته للكتابة، والمخرج للإخراج، من دون أن تستأثر بكل شيء كونك صاحب المشروع والقائم عليه. رحمك الله، ولو كان مشروعك اكتمل ربما كنا نتحدث الآن عن واقع مسرحي سعودي مغاير.
> لك دراسة بعنوان «خطاب الرواية النسائية السعودية وتحولاته». كيف رأيت تحولات هذا الخطاب؟
- بداية، كان لي هدف من التوجه إلى الرواية بصورة عامة في أطروحة الدكتوراه، الإحاطة بالسرديات قديمها وحديثها، ضمن مشروع نقدي متكامل، حيث خصصت الماجستير للجمع بين جنسي القصص القديم والمسرح. وفي الدكتوراه اتجهت إلى القص الحديث ممثلا في الرواية، وكانت تطلعا للجمع بين الحقلين مسرحا وسرديات، وهذا بحد ذاته ثراء وليس انتقالا غير مبرر، كما يعتقد البعض. أما عن كتاب «خطاب الرواية النسائية السعودية» فتحركت فيه باتجاه رصد منعرجات وتحولات خطاب الكاتبات السعوديات عبر نافذة الرواية، وانتهيت إلى أن الكاتبة السعودية أنجزت خطابا متباينا في حيله ومقولاته وآلياته، حسب المرحلة التي كانت تعبرها. وبالتالي فالانكسارات في الخطاب حدثت مرتين بعد عام 1980 وبعد عام 2001 أيضا، إلا أن الانكسار الثاني في توجهات الخطاب كان قويا وحادا وملحوظا ومن دون مواربة، علما بأنني أعيد هذا التحول السريع والقوي إلى ما واكب المرحلة من أحداث ذات مرجعية سياسية ودينية وثقافية واجتماعية، يوجد لها تفضيل في الدراسة.

خلافات

> كيف تطور الخلاف داخل جمعية الثقافة والفنون في الأحساء، خصوصا بينك وبين عبد العزيز السماعيل، مدير عام جمعية الثقافة والفنون، إلى خصومة مستحكمة رغم تاريخكما الطويل في التعاون والتبادل المسرحي؟
- بداية، أعترض على كلمة «خلاف»، لأن أخلاقياتي ترفض شخصنة القضايا والمسائل. وعبد العزيز السماعيل أخ عزيز وقريب من النفس. كل ما في الأمر أنني أختلف معه في آلية إدارته لجمعية الثقافة والفنون، كونها تقوم على التنظير أكثر من الفعل، وتبنى على الطموحات والأحلام المتجاوزة أكثر من الواقع ومعطياته. وهذه الطرق عفى عليها الزمن، وبات التعاطي الآني والفعلي مع الواقع في حدود معطياته هو الوسيط الناجع لمشروعاتنا. ولكي أكون أكثر موضوعية، أشير إلى مثال بسيط. عد إلى تصريحات الزميل السماعيل بعد تعيينه مباشرة كمدير عام للجمعية، واقرأ الوعود العريضة التي تحدث بها، وهي موجودة وموثقة. ثم لاحظ كيف تحدث عن أحلام وردية وطموحات لم يستطع بعد السنة الرابعة له تحقيق شيء منها. على سبيل المثال، تحدث عن الانتخابات وها هو يتناساها. وتحقق عن الفترة المحددة لمديري الفروع، وهي فترتان، وها هو يتناساها. تحدث عن رؤساء اللجان والمدة الزمنية المحددة لهم، وتناساها. وتحدث عن البنى التحتية وتناساها. تحدث عن التحولات الجذرية في مسار الفعاليات، وها هي الفروع تقدم ما قدمناه قبل ثلاثين عاما، والشريط يعيد نفسه إلا من المهرجانات المسرحية التي هي في أصل مشروعات فروع لا مشروعات كيان واستراتيجيات إدارة. ثم إن أكثر شخص كان ينادي بتجديد الدماء في الفروع هو الزميل السماعيل، ولكنه ضعف أمام هذا البرنامج لأسباب غير معلومة، ما أدى إلى تكلس بعض الفروع وبقاء الحال على ما هو عليه. تلك هي القضية ولا غير، اختلاف في وجهات النظر من أجل مصلحة جمعية لا شخصية. وهذا حق مشروع لنا، لأننا أبناء جمعية الثقافة، ومنجزها أخذ من أعمارنا وجهدنا الكثير. وقد اعتبرناها كمنتمين إليها مشروع حياة. تلك هي الفكرة التي يجب أن يعيها كل من يعتقد أن الجمعية حكر عليه وملك خاص له، فهي مؤسسة باقية بصفتها الرسمية والأفراد كلهم إلى زوال.



سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية
TT

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

حين نشر الناقد البريطاني ويليام إمبسون William Empson كتابه المرجعي في النقد الأدبي سبعة أنماط من الغموض Seven Types of Ambiguity عام 1930، كان في الرابعة والعشرين من عمره؛ لكنّه مع ذلك وضع واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في النقد الأدبي الحديث. لم يكن إمبسون يتعامل مع الغموض بوصفه عيباً في التعبير بل بعدّه قلب الشعر النابض. رأى أنّ اللغة حين تبلغ أقصى درجاتها الفنية لا توضّح بقدر ما تلمّح، ولا تفسّر بقدر ما تُثير، وأنّ الجمال يكمن في المسافة بين ما يُقال وما يمكن أن يُقال. من هنا جاءت فكرته الجريئة: يمكن تصنيفُ الغموض ذاته في سبعة أنماط، تتدرّج من البسيط إلى المركّب، ومن الغموض اللغوي إلى الغموض الوجودي. جعل إمبسون من الغموض (أو التعقيد بلغة الأدب التقنية) متعة جمالية في ذاته؛ فالقصيدة عنده ليست معادلة لغوية تقود إلى استجابة موحّدة لدى القرّاء بل كائن متعدد الطبقات، وكلُّ قراءة تكشف عن جانب من نسيج ذلك الكائن.

منذ أن قرأتُ كتاب إمبسون لم أُبْطِل التفكير بالكيفية التي نستلهم بها أفكاره وننقلها من الشعر إلى الرواية: اذا كان للغموض الشعري أنماطُهُ السبعة؛ فلماذا لا تكون للمتعة الروائية أيضاً أنماطُها؟ لماذا نظنُّ أنّ مُتعة القراءة حالةٌ واحدة موحّدة في وقتٍ تدلُّنا فيه خبرتُنا على أنّ هذه المتعة طيفٌ واسعٌ من تجارب التلقّي والانفعالات الشخصية؟

لا بأس من مثال تطبيقي حقيقي. أفكّرُ كثيراً في روايات عديدة من أمثال رواية قوس قزح الجاذبية Gravity’s Rainbow التي كتبها الروائي الأميركي توماس بينتشون Thomas Pynchon. هذه الرواية تدور وقائعها في أواخر الحرب العالمية الثانية، وتستكشف موضوعات معقدة مثل جنون العظمة والفساد والتقنية، وتركّز على تصميم صواريخ V-2 الألمانية وتأثيرها. الرواية مشبعة بالغموض؛ لكنّه غموض إبداعي من درجة رفيعة يبدأ من عنوان الرواية ذاتها حيث إنّ مسار الصاروخ يشبه قوس قزح. هذه الرواية غير مترجمة إلى العربية، وكثيراً ما تساءلت: لماذا الإحجامُ عن ترجمتها؟ هل يستشعر المترجمون أنّها تفتقرُ إلى المتعة المفترضة في القراءة الروائية؟ سيكون تعسّفاً خطيراً أن نفترض متعة جمعية في هذه الرواية كما يحصل مثلاً مع روايات دوستويفسكي؛ لكن مع هذا سيجد قليلون ربما متعة عظيمة فيها. سيقودنا الحدسُ إلى أنّ تلك القلّة المخصوصة هي لقرّاء لهم شيء من معرفة بالرياضيات والفيزياء وتواريخ الحروب وتداخلات السلطة وضغوطها. لا يمكن في النهاية التصريحُ بمتعة شاملة مطلقة للعمل الروائي. هذا مدخل يوضّحُ التمايز الحتمي بين أنماط المتعة الروائية بين القرّاء.

*****

منطلقةً من كتاب إمبسون أعلاه، سأحاولُ الإشارة إلى سبعة أنماط من المتعة الروائية، لا بوصفها تصنيفاً نهائياً بل بوصفها خريطة أولى في جغرافيا اللذة السردية.

أولى المتع السردية هي متعة الانغماس. إنّها المتعة الأولى التي يتذوقها القارئ منذ طفولته، حين يفتح كتاباً ويجد نفسه فجأة في مكان آخر.

إنها متعة الغياب الطوعي عن الواقع: أن نذوب في العالم الروائي حتى ننسى أننا نقرأ. في هذه اللحظات لا نكون خارج النص بل داخله، نعيش مع شخصياته ونتنفس هواءه. نقرأ موبي ديك فنشعر برائحة البحر، أو آنا كارينينا فنرتجف أمام قطارها القادم. الانغماس هو نوع من الحلم الواعي، تجربة بين الخيال والوجود، فيها يتحوّل القارئ من متلقٍ إلى مشارك. إنها متعة لا تبحث عن المعنى بقدر ما تبحث عن الإقامة المؤقتة في عالم آخر، موازٍ، بحثاً عن ذلك النسيان الجميل الذي يُعيد إلينا براءة الخيال.

المتعة الثانية هي متعة التركيب. في هذا النمط، القارئ لا يستسلم للنص بل يتحدّاه. إنه القارئ الذي يتعامل مع الرواية كما يتعامل عالم الآثار مع نقش قديم: يحلّلُهُ، يربط بين أجزائه، يبحث عن رموزه ومفاتيحه. هنا تتحوّل اللذة إلى فعل فكري، إلى شغف ببنية السرد لا بوقائعه فقط. روايات مثل اسم الوردة لأومبرتو إيكو، أو قوس قزح الجاذبية لتوماس بينتشون تُجسّد هذا النمط: أعمال تُبنى كإنشاءات فكرية رفيعة يشارك القارئ في رسم خريطتها. المتعة هنا لا تأتي من الحكاية بل من الذكاء البنائي، ومِنْ شعور القارئ أنه شريك في صناعة المعنى، لا مستهلك له فحسب.

النمط الثالث من المتعة الروائية هو متعة الاعتراف. ليست كل الروايات مرآة للعالم؛ فبعضها مرآة للذات. حين نقرأ عملاً مثل الغريب لألبير كامو أو البحث عن الزمن المفقود لبروست، فإننا لا نبحث عن حكاية بقدر ما نبحث عن أنفسنا. الرواية هنا مساحة اعتراف مؤجلة، نرى فيها ما لا نجرؤ على قوله في الحياة اليومية. القارئ في هذا النمط يجد لذّته في التعرّف إلى ذاته عبر الآخر. كل سطر يذكّره بجراحه الصغيرة، وكلُّ شخصية تعيد إليه ظلّه المفقود. إنها المتعة التي تولد من الحميمية، ومن الإحساس بأن النصّ يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

النمط الرابع هو متعة اللغة. في هذا النمط تتراجع الحكاية إلى الخلف وتتقدّم اللغة إلى المقدمة. هنا لا تتجسّدُ المتعة في (ماذا يحدث؟) بل في (كيف يُقال؟). الكاتب لا يسرد فقط بل يعزف بالكلمات. يحوّل الجمل إلى موسيقى. المتعة هنا جمالية خالصة، متعة الإصغاء إلى اللغة وهي تُعيدُ اكتشاف نفسها، وحيث تصبح القراءة نوعاً من الإصغاء اللذيذ لصوت داخلي يحدّثك من غير وسيط.

النمط الخامس هو متعة القلق. ليست كل المتع الروائية مقترنة بطمأنينة راسخة. أحياناً يهبنا الأدب لذة مقلقة كمن ينظر في مرآة تكشف له عما لا يريد أن يراه. روايات مثل 1984 لجورج أورويل أو الطاعون لكامو تمنحنا هذا النمط: متعة القلق المفضي إلى المواجهة، لا الهروب. القلق هنا ليس سلبياً بل لحظة وعي. إنه الارتجاف الجميل أمام الحقيقة، والمتعة التي تنبع من الخطر المعرفي حينما يفتح النص باباً نحو المجهول الأخلاقي أو السياسي أو الوجودي. إنها المتعة التي تُشبه المأساة الإغريقية: الألم الذي يطهّر؛ لأنّ القارئ يخرج منها أكثر معرفة وإن كان أقل راحة.

النمط السادس هو متعة الدهشة. كل قارئ يحمل في داخله توقاً إلى الدهشة، إلى تلك اللحظة التي تتجاوز فيها الرواية كل توقّع. الدهشة ليست مجرد مفاجأة في الحبكة بل توافقٌ خفيٌّ بين ما لم نتوقّعه وما يبدو، رغم ذلك، منطقياً إلى حد الجمال. حين نقرأ رواية المسخ لكافكا ونجد إنساناً يستيقظ ليجد نفسه حشرة، أو ندلف أجواء رواية مائة عام من العزلة لماركيز فنرى الواقع يمتزج بالسحر، ندرك أننا أمام متعة من نوع نادر: متعة أن يُعاد ترتيب العالم في وعينا. الدهشة هي لحظة تولد فيها لغةٌ جديدةٌ للحياة، تجعل القارئ يشعر أنه يرى العالم الذي طال عهده به بعيون جديدة.

النمط السابع هو متعة الغياب. هذه هي المتعة الوحيدة التي لا تحدث في أثناء القراءة بل بعدها. تتحقق هذه المتعة حين نغلق الكتاب، ونكتشف أن شيئاً منه ما زال يعمل فينا بصمت. إنها المتعة التي تنبع من النقص، من الإحساس بأنّ الرواية لم تُغلق العالم بل فتحته على احتمالاته. روايات كثيرة تعيش فينا بهذه الطريقة، وعندما نغادرها في المحطّة الأخيرة، فكلها تترك فينا شيئاً ناقصاً، فراغاً صغيراً يواصل التمدّد فينا ويترك بصمة شاخصة في ذاكرتنا. الغياب هو ذروة المتعة الناضجة: حين نكتشف أنّ القراءة ليست لحظة بل أثر طويل الأمد، وأنّ النص العظيم لا يُقرأ مرة واحدة بل يسكن الذاكرة كوشم لا فكاك من مفاعيله المستقبلية.

*****

ما أودُّ التأكيد عليه أن ليست المتعة الروائية واحدة؛ بل هي مُتعٌ عديدة تتخالف شكلاً وآلية مع تبدّل القارئ والزمن والمزاج. في العادة المتواترة يجد القارئ الشاب لذّته في الانغماس، والمفكّر يجدها في التركيب، والمكلومُ في الاعتراف، والعاشق للجمال في اللغة، والمتوتّر في القلق، والمغامرُ في الدهشة، والحكيم في الغياب. إنها ليست طبقات متنافسة بل مستويات متداخلة. قد نبدأ بالانغماس وننتهي بالغياب، أو نمرّ من بوّابة الدهشة إلى القلق ثم نعود إلى الاعتراف. الرواية الحقيقية لا تُشبِعُنا من الخارج؛ بل تُوقظ فينا القارئ من الداخل. وحين ندرك ذلك نفهم أنّ إمبسون كان محقاً: الجمال يكمن في التعدّد، في الغموض، في أن تكون التجربة الأدبية قابلة لأن تُقرأ بسبعة أنماط على الأقل.

إذا كان الغموض في الشعر هو تعدّد المعنى؛ فإنّ المتعة في الرواية هي تعدّد سبل التلقي. كلاهما دعوة غير مقيّدة للحرية؛ حرية الكاتب في أن يكتب، وحرية القارئ في أن يجد لذّته الخاصة، لا تلك التي أعدّها له المؤلف.

أعظمُ خواص الرواية الحقيقية هي أنها تمنحنا هذا الحق الجميل: أنْ يحبّها كلٌّ منّا بطريقته ووسائله ومقاربته الفكرية الخاصة.


الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»
TT

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

يتناول كتاب «إدراك العالم... الصور النمطية المتبادلة بين الأنا والآخر» للدكتور زهير توفيق، التصورات المتبادلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الحديثة والوسطى، لا سيما الشرق الفارسي والغرب الكنسي. وقد صدر الكتاب عن «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن في 420 صفحة.

يقول المؤلف في المقدمة معرِّفاً بالكتاب: «يُمثِّل هذا الكتاب دراسة استقصائية تاريخية وتحليلية لجدل الأنا والآخر، من خلال رصد التصورات المُتبادَلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الوسطى والحديثة، كون العرب المسلمين مثَّلوا ذاتاً لتعيين الآخر، وتخيُّله على المستوى الديني والإثني والسياسي؛ خاصةً الفرس والأسود واليهودي والمسيحي، بفرعيه اللاتيني والبيزنطي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كونهم موضوعاً للآخرين؛ أي صورتهم في المخيال الفارسي الشرقي (الشعوبية) والغربي الأوروبي؛ الرومي البيزنطي واللاتيني في القرون الوسطى، وتحولات تلك الصورة في أوروبا العصور الحديثة».

ويرى المؤلف في المقدمة أن نظرة كلا الطرفين للآخر هي ثابتة، فلم «يخرج لا الشرق العربي الإسلامي، ولا الآخر في الشرق والغرب قديماً وحديثاً، عن مُسلَّماته وطرائق تفكيره في فَهْمِ الآخر، فقد بقيت ثوابتُه الحضارية والدينية والإثنية سُلطةً مرجعيةً في فهم الذات والآخر، وتمييز الأنا عن الآخرين من فُرسٍ ويهود وبيزنطيين ولاتين، ومهما تغيَّرت الصورة وتحوَّلت لأسباب داخلية وخارجية، فإن الثابت البنيوي فيها هو الآخرية وعُمق الغيرية؛ أي تصعيد الخلاف والاختلاف، فالذات هي المركز الذي تدور حوله الأطراف، والأفضل والمعيار الأمثل، والآخر أو الآخرون مجرد أطراف، هوامش وبرابرة وكفاراً ومنحرفين، ولا يستحقون أكثر مما تمنحه لهم الذات المتعالية».

ويأتي المدخل التمهيدي للكتاب مستشهداً بالعلاقة بين الأنا والآخر (الشرق والغرب)، على اعتبار أن الشرق حين يُذكر يتبادر إلى الذهن الشرق المسلم على وجه الخصوص، والغرب يُراد به الغرب الأوروبي بالأساس قديماً وحديثاً.

يقول: «تفترض قراءتنا للموضوع استمرار الصور النمطية للعرب والمسلمين، وهي الصور التي تشكَّلت في العصور الوسطى، ودخلت معجم الغرب بشكل نهائي كما هو في الاستشراق السياسي والأنثروبولوجي الحديث (الواعي لذاته) الذي نشأ في نهاية القرن الثامن عشر مع حملة نابليون بونابرت على المشرق العربي سنة 1798م».

وعن وضوح رغائب الغرب من الشرق (المسلم)، يقول: «لم ولن يتلطّف الغرب مع الشرق إلا إذا تواطَأ معه على ذاته، وتماهى في خطاب الغرب ومسيرته ورطانته من خلال نُخبةٍ فكرية وسياسية وكيلة، نجح الغرب في خَلْقِها ورفعها إلى سدَّة السُّلطة، واستمدت مشروعيتها ومرجعية وجودها مِن دعمه المطلق على جميع المستويات، ومقابِل ذاك الدعم سوَّقت خطابه في ثقافتها العالمة والشعبية على حدٍّ سواء، وهذا دليل نجاح الغرب في اختراق الشرق الذي وصل إلى طاعة الوكلاء، وامتثالية التابعين».

ويفصِّل المؤلف القول حول أعلام الغرب البارزين الذين تبنوا أفكاراً تنويرية، ومنهم جيبون: «يبدو جيبون منسجماً مع التنوير، ويقدم رؤية مستقلة نقدية خاصة لأحكام الغرب المتحاملة والسلبية عن الإسلام حتى ذلك الوقت، ففي عرضه لأخلاق العرب ودياناتهم قبل الإسلام يقول: (غير أنه في الدولة العربية، وهي أكثر بساطة [من الرومان واليونان] فإن الأمة حرة لأن كل فرد من أبنائها يستنكف أن يُطأطئ الرأس في خضوع وذلة لإرادة سيد ما، ولقد حصَّن العربي نفسه بفضائل صارمة من الشجاعة والصبر والاعتدال، ودفعه حبه للاستقلال إلى ممارسة عادة ضبط النفس، وحفظته خشية العار من أن يذل بالخوف من الألم والخطر والموت، وإن رجاحة عقل العربي وضبط نفسه واضحان في مظهره الخارجي)».


رحيل محمد هاشم مؤسس دار «ميريت» بعد رحلة عطاء استثنائية

رحيل محمد هاشم مؤسس دار «ميريت» بعد رحلة عطاء استثنائية
TT

رحيل محمد هاشم مؤسس دار «ميريت» بعد رحلة عطاء استثنائية

رحيل محمد هاشم مؤسس دار «ميريت» بعد رحلة عطاء استثنائية

رحل في الساعات الأولى من صباح اليوم الجمعة الناشر المصري محمد هاشم، مؤسس ومدير دار «ميريت للنشر»، عن عمر يناهز 68 عاماً، بعد رحلة كبيرة مع صناعة الكتاب، فقد كان نموذجاً للناشر المثقف، صاحب الموقف الطليعي ثقافياً وسياسياً، وجعل من «ميريت» أحد أهم المنافذ الثقافية في القاهرة، وأحدث طفرة في صناعة النشر، وفتح من خلالها نافذة كبيرة للعديد من الأجيال ليروا إبداعاتهم منشورة بين دفتي كتاب، بعد أن كان النشر عقبةً كبيرةً تواجه كل مبدع مصري، ويضطر للوقوف سنواتٍ على أبواب دور النشر الحكومية.

أسس الراحل «دار ميريت» في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، لتشكل هي و«دار شرقيات»، التي تأسست في الفترة نفسها تقريباً، رئة ثقافية أسهمت في احتضان جيل التسعينات في الرواية والشعر والنقد، وتقديمهم للحياة الثقافية والأدبية، ودشنت كثيراً من التجارب الطليعية التي لم تكن حصلت على الاعتراف الأدبي بعد، فكانت فضاءً للاحتفاء بكل إبداع جديد ومختلف، وظلت تمارس الدور نفسه في العقدين الأولين من الألفية الجديدة، فكثير من الأجيال الراهنة الذين أصبحوا نجوماً في الشعر والرواية والقصة، بدأوا مشوارهم الإبداعي من «ميريت» أو من «شرقيات».

لم تكن «ميريت» مجرد دار نشر، فقد تحول مقرها الأول الشهير في شارع قصر النيل بوسط العاصمة المصرية إلى منتدى ثقافي دائم، وكان له رواد من مشاهير الثقافة المصرية والعربية، فعندما كنت تدخل تجد الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم جالساً بأريحية وكأنه في بيته، وكان من ضمن رواد الدار أيضاً الروائيان الراحلان خيري شلبي و إبراهيم أصلان، والناقد محمد بدوي، والروائي الراحل حمدي أبو جليل، والشاعر الراحل أسامة الديناصوري، وغيرهم كثيرون من رموز الحركة الثقافية المصرية، وكان كل شاب يريد أن يبدأ مشواره الإبداعي لا بد له أن يمر يوماً على «ميريت»، ليتعرف على «مطبخ» الثقافة المصرية، ويتقرب من رموزها، يسمعهم، ويتعلم منهم، ويحصل على فرصة أن يسمعوه ويتعرفوا إلى إبداعه، فيُمنح صك الاعتراف.

فازت «ميريت» بجائزة نادي القلم الدولي «هيرمان كيستن» (kesten PEN الفرع الألماني)، وتمنحها وزارة «هسه» للعلوم والفنون، وقدرها 10.000 يورو، وتمنح لكتاب المقالات والروائيين فى جميع أنحاء العالم لمن يتصدون للاضطهاد والقمع ويدافعون عن الحق والحرية، كما تمنح للناشرين لتقديمهم الدعم والرعاية للكتاب المضطهدين في نشر فكرهم ويؤمنون بالحق فى الحرية والتعبير عن الرأي.

لم يتوقف دور محمد هاشم عند حدود العمل الثقافي وصناعة الكتاب، فقد كان ناشطاً سياسياً، حتى أصبح مقر الدار ربما أكثر صخباً وحيويةً من مقرات بعض الأحزاب السياسية. وأثناء ثورة 25 يناير، وبسبب قرب الدار من ميدان التحرير، مركز الحراك الثوري آنذاك، كانت ملاذاً لكثير من أبناء الثورة، خصوصاً من المثقفين، سواء لالتقاط الأنفاس، أو متابعة الأخبار، أو حتى المبيت في الدار التي فتحت أبوابها على مصاريعها. كما كان هاشم ناشطاً في ثورة 30 يونيو ضد جماعة الإخوان، وشارك في الوقفات الاحتجاجية والاعتصامات التي أقيمت ضدهم، بل إن لافتات كثير من الوقفات ضدهم كانت تخرج من مقر الدار.

عن الراحل يقول الروائي والقاص محمد محمد مستجاب: «رغم أنني لم أكن من (شلة دار ميريت) التي اشتهرت في بداية الألفية، حيث كان يحضرها والدي رحمه الله (الروائي الراحل محمد مستجاب)، فإن علاقتي بعمنا محمد هاشم كانت بعد رحيل والدي في 2005، خصوصاً في إرسال أعمالي لإبداء الرأي فيها، ثم طلبه عملًا لي ليصدر عن (ميريت) لكن هذا لم يتحقق. لكن (ميريت) التي تنقلت من شارع قصر النيل ثم شارع صبري أبو علم ثم باب اللوق ظلت ظهراً حامياً للثقافة المصرية، وليس لي على المستوى الشخصي، وقد خرجت منها عدة مظاهرات تحمي مكتسبات ثورة يناير».

يضيف مستجاب: «محمد هاشم كان يرعى كثيراً من المواهب، ويحزن عندما يجدها انحرفت عن مسارها، واتجهت لشيء آخر بعيداً عن الكتابة. وسيظل اسمه غالياً على جميع الكتاب المصريين والعرب، ومنبراً طالما أحببناه وتعاركنا واختلفنا معه، لكنه كان دائماً مثل آبائنا؛ يعلم أننا سنعود كي نجد في حضرته الابتسامة، وفي جيبه النقود التي تدفئ أيامنا، والكتب التي تشعل خيالنا بالإبداع. برحيل (أبو ميريت)، خسرنا صرحاً ثقافياً حقيقياً في زمن العبث الثقافي».

ويقول الروائي سامح الجباس: «قدم محمد هاشم للثقافة المصرية والعربية أهم الأسماء التي تملأ الساحة الأدبية المصرية الآن، كلهم كانوا مجرد كتاب شبان هواة خرجوا من عباءة (ميريت)، وانطلقوا بعدها نجوماً في ساحة الأدب، وأنا منهم. ففي عام 2005 حملت في يدي أول مخطوط لكتاب أرغب في نشره، وذهبت مباشرة إلى (ميريت)، أهم وأشهر دار نشر خاصة وقتها، واستقبلني صاحب الدار محمد هاشم بحفاوة كأنني كاتب معروف. وحتى نهاية 2010 كنت زائراً شهرياً للدار، ومنها قرأت لكل هذا الجيل من الكتاب، فقد كانت ملتقى الكتاب، فيها كنت تقابل أحمد فؤاد نجم وخيري شلبي وحمدي أبو جليل وعلاء الأسواني والسيد ياسين وغيرهم من الصحافيين والفنانين. وكانت أبوابها مفتوحة دائماً للشباب روائيين، وشعراء، ومطربين، وموسيقيين. وفيها ندوات يومية تقريباً».

ويكمل الجباس: «مرت السنوات، وتعرضت (ميريت) لهزات زلزالية حتى أوشكت الدار على التوقف. وانتقلت الدار من مكان إلى آخر في نطاق وسط البلد. وكنت حتى بداية هذا العام حريصاً على أن أزورها كلما انتقلت من مكان إلى آخر ولو مرة واحدة في العام، تقديراً لموقف هاشم معي في بداياتي، فقد نشرت في الدار عام 2006، ثم انتقلت للنشر بعدها في أكثر من دار نشر، لكني كنت أدين بالفضل والامتنان لهذا الرجل. فتح محمد هاشم الباب لعشرات الكتاب ونسي نفسه، نسي أنه نشر رواية وحيدة بعنوان (ملاعب مفتوحة)، وقلت له في آخر زيارة منذ شهور إنه يجب أن يعيد طباعتها. سيظل اسم محمد هاشم، وتجربة (دار ميريت)، وستظل أفضاله تحيط بالكثيرين، مهما تنكروا له، وقد حان دور اتحاد الناشرين لتكريم اسم هذا الرجل. الكلام والذكريات عن محمد هاشم ودار ميريت يحتاج إلى صفحات وصفحات من الحب والامتنان، والكثير من الحزن والأسف».

ويروي الشاعر سمير درويش، رئيس تحرير مجلة «ميريت» التي كانت تصدر عن الدار، تجربته مع الناشر الراحل، قائلاً: «كان رجلاً جريئاً كريماً، طيِّباً بشوشاً محبّاً للحياة والناس. ذهبت له بمشروعي لإصدار مجلة ثقافية تنويرية، فوافق دون قيد أو شرط، وطوال خمس سنوات لم يتدخل ولا مرة، رغم أنه كان يصدُّ عنَّا ويحمينا».

محمد هاشم في «ميريت»، مع حسني سليمان في «شرقيات»، صنعا طفرة كبيرة في عالم النشر الثقافي منذ منتصف التسعينيات، سارا الخطوة الأولى التي فتحت طريق التحديث حتى اليوم.