السرد بقوة الرمز

يبدو السرد بقوة الرمز مفتاحا رئيسا ومهما لفهم عوالم هذه المجموعة القصصية «سرير عنكبوت» للقاص عصام حسين، فلا تخلو قصة من قصصها، بقسميها الأول «حرائق الروح»، والثاني «سرير غريب» من دلالة رمزية ما، مباشرة أو مضمرة في نسيج القص، مفتوحة على براح الإيحاء والتأويل، بل إن الراوي نفسه بكل تقلباته في لعبة الضمائر يظل أسير العلاقة بين الرمز وظله، لا ينفك منها، بل يحاول دائما التواؤم معها، والعيش في تخومها.
فبالتوالي مع عناوين قصص القسم الأول من المجموعة يمكننا أن نرصد مستويات متشابكة ومتجاورة للرمز، بداية من رمزية الفراغ، والجسر، والذكريات، والمرض، والخوف، واللحظات المفاجئة، والعبور، والحلم، والصورة، والغربان، حتى رمزية التناص مع تشيكوف.
يوظف الكاتب الرمز - غالبا - بمنطق الواقع المعيش، فالشخوص تتحرك دخل أجواء القصص بانفعالاتها ومشاعرها، وكأنها تحاول للوصول إلى رمز ما، مفتقدٍ وغائب، ومضطربٍ ومشوش، وصدى لحركة حياة مبتورة وهشة وناقصة، تختلط فيها لحظات الألم بلحظات اللذة، هنا يصبح الرمز عاريا ومتوقعا، ويأخذ طابعا له سمت الحكمة بإيقاعها المعتاد المألوف. نلمح ذلك على نحو خاص في القصص التي تبرز فيها أجواء المرض، مثل قصة «الأنفاس الضيقة»، حيث تسود رمزية الأماكن المغلقة، وتنعكس على طبيعة الشخوص، وتصبح مرادفا لضيق التنفس وانقطاع الحياة ومجابهة الخوف من الموت... تكتسي هذه الرمزية بطابع الحكمة في استعادة البطل لحديث أمه وهو يرد على صديقه قائلا: «لم أجد ردا، غير أني تذكرت كلمات أمي لزوجتي بعد الزفاف: إياكِ أن تغلقي نوافذ الغرفة مهما كان، واحرصي على سريرك مهما تأخر الصباح. لكنها ظلت تغلق الأبواب والنوافذ صيفا وشتاء، ويجيء الظهر، وربما من بعده العصر، ولا يدخل الصباح».
في المقابل يصعد النص دراميا حين يقترب من تخوم الشعر، وتتراجع صدارة حكمة الرمز لصالح إيقاع المشهد وتداعياته بصريا ونفسيا، (الداخل والخارج)، يتجسد هذا على نحو لافت في قصة «الآخر»، حيث محاولة البطل ورفيقته اجتياز الجسر الشجري المتهالك، معا، لكن الرفيقة في نهاية المطاف تتركه معلقا في ظلال نصيحة أمه، بأن «خلاص روحه لن يكون فرديا، وأن عليه أن يعبر الجسر، ولا بد أن يمر بالآخر كشرط»... تعبر الرفيقة الجسر قائلة له: «سأسير وحدي، أحب اكتشاف الأشياء بمفردي، إذا تشابهت الجسور سأعود إليك».
هذا الدفق الشعري في ثنايا القص، يتكثف في شكل مناجاة داخلية شفيفة في قصة «مجرد أسئلة»... لا تتجاوز القصة الصفحة الواحدة، لكنها تتخذ من النافذة مرآة لاكتشاف الذات والحبيبة المفتقدة، وتتناثر في النص أصوات الريح والكمان ورائحة القهوة ورعشة الدموع، فيبدو كأنه مشهد من مشاهد الطبيعة الصامتة.
يتسع هذه المشهد بمناورة أعلى فنيا في قصة بعنوان «القصة في مغارة»، حيث يستعير الكاتب السارد من المسرح تقنية «كسر إيهام الخشبة»، ومحاولة مشاركة الجمهور في مسرحة اللعبة، وذلك بخلق حالة مجاورة داخل الحالة الأساسية، أو بمعنى آخر خلق نص على هامش النص الأصلي، وهو هنا نص تشيكوف، القصصي الشهير «موت موظف»، بينما نص الهامش المجاور يدور حول رجل يحاول أن يكتب حياته على أرصفة الحياة، لكنه يمزق الكثير من الورق تحت ضغط سؤال يلح عليه بقوة «من الذي يجب عليه أن يقدم اعتذارا لي عن سنوات عمري؟». وفي اللحظة نفسها الذي ينهي الراوي قصته على البطل، ينتقض الأخير واقفا كأنه على خشبة مسرح قائلا: «حان الآن أيها الأصدقاء أن أقدم اعتذارا طويلا لنفسي عن هذه الحياة»، لكن يبقى شاخصا في الخلفية مشهد بطل تشيكوف، الموظف الذي مات كمدا، لعدم قبول اعتذاره عن عطسة غير مقصودة، طال رذاذها رقبة رجل عجوز.
إن الرمز في قصص هذا القسم، رغم أنه يلون الأشياء ومناخات القص المتقلبة ما بين عالمي القرية والمدينة، لكنه يظل قاصرا عن مساءلة الأشياء، فهو يتعامل معها كوسيط عابر بين الذات الساردة والموضوع، مما يحد كثيرا من طاقة الحكي كبذرة أساسية لفعل القص.
حيث تبدو الكثير من النصوص أشبه بـ«الكبسولات السردية» أو الخاطرة القصصية التي ينحصر جل همها في تقطير الحكاية، وإيصالها عبر رمز ما، ودلالة ما، تظل الحكاية أسيرة لهما، بعيدا عن إمكانية تفتحها على رموز ودوال شتى ربما أكثر طزاجة وعمقا.
يشكل القسم الثاني من المجموعة انقلابا على الرمز كإطار محدد، ويتسع بشكل فني ويكون مشرّبا بروح من الخرافة والأسطورة، فيما تلعب اللغة بإيقاع الحكي على وتر المصادفة والمسكوت عنه، المهمش، الهارب في تجاويف الماضي والحاضر... فشقة المصيف في قصة «سرير غريب»، تتحول تحت ضغط شعور حاد بالوحدة إلى سرير للعنكبوت، لا يجد البطل حيلة لكسر هذا الشعور الضاغط، سوى محاولة نسج حوارية مع العنكبوت، وجره إلى منطقة الأنسنة، كأنه صديق قديم، أو عين الحياة المجردة، الأكثر تماثلا في نسيجها مع واقعه الإنساني المضطرب، لكن لطشة النهاية تأتي مفارقة لهذا الشعور حيث يقول: «شيء ما يهاتفه بأن رغبته في أن يجرب الوحدة لن تتحقق، عندما لامست أصابعه إحدى الأرجل الثماني للعنكبوت».
هذا التماثل بين سرير العنكبوت وعين الحياة في واقعها الراهن المعيش، يصبح أكثر حضورا حين يطل من الماضي، من شرفة الفقد والحنين، فالبطلة المخدوعة التي تتأهب للحظة الزفاف في قصة «وجه آخر للغواية»، سرعان ما تجد تبريرا لهذه الخديعة، حين تفتح غرفة والدها التي ظلت موصدة منذ رحيله قبل عشر سنوات على أشيائه الخاصة. لتفاجأ «بأن عنكبوتا نسج خيوطه في السقف المقابل لسريره، وحشرة قذرة وحيدة عالقة به». تغلق الغرفة عازمة على تنظيفها فيما بعد، وحين تطل من الشرفة على البحر ترى خطيبها متأبطا ذراع امرأة أخرى على حافة الشاطئ، تلقي بنفسها على سرير أبيها، وهي تنظر من خلال دموعها لسرير العنكبوت، وكأنه سرير الحياة، المتخفي تحت أقنعتها السمجة السميكة.
لا يتوقف اللعب على مفارقات الخرافة عند هذا التماثل، بل يمتد إلى الموروث الشعبي خاصة في بيئة القرية المصرية، حيث تكثر الحواديت عن الجن والغيلان والشياطين، التي تسلب أعمار الناس وتغتالهم ليلا في أماكن موحشة... يطالعنا هذا العالم في قصة «العائدون ليلاً»، مقترنا بالبطولة الشعبية أيضا، في مواجهة الخرافة ودحض أوهامها، ويتم ذلك عبر حوار خاطف شيق بين الجن والبطل: «هنداوي» بحمارته الصبور، يكلل بالانتصار على الجن وحرقه وتخليص القرية من شروره.
تبقى قصة «من النافذة أحكي» درة هذا القسم فنيا - برأيي -، فالقصة تحيل الواقع المادي الحي إلى شكل من أشكال الفانتازيا، يصبح في ظلالها محتملا وأكثر رشاقة وخفة من خلال كذب يشبه الحقيقة، وحقيقة تشبه الكذب، لا فواصل بينهما ولا عقد، الأمر طبيعي جدا، الرجل المسيج جسده كله بالشاش والجبس ولا يظهر منه سوى عينيه وفمه، يطلب من البطل الذي يجاوره بغرفة المستشفى، أن ينقل له صورة ما يجري في الخارج من خلال النافذة... فيفعل ذلك بقوة اللعب والحلم معا، لينتشي بلحظة استثنائية أعلى من الواقع نفسه، تصورها القصة بمشهدية رائقة في الختام، قائلة: «انفرجت أسارير الرجل، ودبت حركة ما في معظم جسده، وابتسم، ثم قال: ألم تر شيئا آخر؟ قلت: طائرات الأطفال الورقية التي زينت سماء العمارات، أنقذت العصافير المجهدة، ومدت لها ذيلها فتعلقت به، وطارت بعيداً بعيدا عن سيارة الشرطة».