«داعش» الصومالية... تنظيم يواجه الفشل بالانتماء القبلي

مجموعة منشقة نتجت من خلافات داخلية «لحركة الشباب» إثر مقتل زعيمها في غارة جوية أميركية

آثار تفجير انتحاري وسط العاصمة بسيارة مفخخة في مقديشو منتصف أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)
آثار تفجير انتحاري وسط العاصمة بسيارة مفخخة في مقديشو منتصف أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)
TT

«داعش» الصومالية... تنظيم يواجه الفشل بالانتماء القبلي

آثار تفجير انتحاري وسط العاصمة بسيارة مفخخة في مقديشو منتصف أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)
آثار تفجير انتحاري وسط العاصمة بسيارة مفخخة في مقديشو منتصف أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)

ظهر فرع «داعش» الوليد في الصومال سنة 2015 إثر خلافات داخلية لـ«حركة الشباب»، تفاقمت بعد اغتيال الزعيم أحمد عبدي غوداني، في غارة جوية شنتها طائرة أميركية، في سبتمبر (أيلول) 2014، ورغم أن الساحة الصومالية كانت تعج بالأفكار الدينية المتطرفة، فإن الثقل الروحي لغوداني، ورمزيته التنظيمية؛ ساعدت على تهميش الطروحات المتشددة التي لا تتماشى وذهنية «تنظيم القاعدة». غير أن وفاة زعيم «حركة الشباب»، وما صاحبها من ظهور قوي لتنظيم البغدادي في العراق، والانتصارات التي حققها هناك، عجّلا بانشقاق مجموعة صغيرة عن التنظيم الأم.
قاد عبد القادر مؤمن هذه الانفصال، ونجح في الحفاظ على حياة تنظيمه الوليد، رغم كثير من الاغتيالات التي نفذتها الشباب ضد المجموعة المنشقة منذ سنة 2014 إلى 2017، والتي نجحت في قتل بعض قيادي فرع «داعش» الوليد. وهو ما أثر بقوة على مسار رفاق عبد القادر مؤمن، وجعله يحتمي بجبال «عيل مدو»، الواقعة في منطقة تابعة لقبيلته الجبرتين. التحق بعبد القادر مؤمن بعض القيادات من الصف الثاني للشباب، جراء استمرار الصراع الداخلي للتنظيم الأم، وخسارته مناطق واسعة جراء المواجهات مع القوات الحكومية والقوات الأفريقية بالصومال. وهكذا وجد فرع «داعش»، نفسه أمام وضع صعب، يتمثل في شح الموارد المالية والبشرية؛ وفي الوقت نفسه، مكّنته التحولات العسكرية الجديدة على الأرض، من استقطاب بعض الكوادر العسكرية للشباب، وإخضاع الكثير من المراهقين للتدريب في معسكرات، بعيداً عن أعين الحكومة و«حركة الشباب»، ولم يعرف مكان هذه الأنشطة، إلا بعد نشرها إعلامياً من طرف تنظيم عبد القادر مؤمن. ورغم ذلك، يرى وزير الدولة للإعلام في حكومة إقليم «بونتلاند» عبد الفتاح نور، في تصريح صحافي له، أن «وجود (داعش) في الصومال يشكل تهديداً أمنياً للمنطقة، وبخاصة الصومال؛ إذ إن ثقله القتالي لا يقل خطورة عن الجماعات المتشددة الأخرى، كـ(حركة الشباب)، التي أربكت أمن الصومال ودول الجوار». كما أشار الوزير لصعوبات القضاء على التنظيم رغم عدم تمرسه، بحكم وعورة التضاريس الجبلية؛ أما عن تمويل «داعش» بالصومال، فلا يعلم الوزير «تحديداً مصدر دعمهم المالي واللوجيستي، لكن التنظيم الموجود في مناطق شمال شرقي الصومال ليس تنظيماً جاء إلى المنطقة، بل مقاتلين بايعوا «داعش» بعد خلافهم مع (حركة الشباب) الإرهابية».

الزعيم والقبيلة
يتزعم تنظيم داعش الصومالي شيخ خمسيني من عمره، وكان عضواً سابقاً بحركة الاتحاد الإسلامي (1983 - 1996). هاجر عبد القادر مؤمن في التسعينات إلى بريطانيا، ومارس الوعظ والخطابة فيها منذ عام 2007، غير أنه تعرض لمضايقات وملاحقة من المخابرات البريطانية؛ مما دفعه للفرار عائداً إلى الصومال سنة 2010. ونظم الشيخ إلى «حركة الشباب». ينتمي عبد القادر المؤمن قبليا لقبيلة مجيرتين التي تعيش منذ زمن طويل في أقصى الشرق الصومالي، في مناطق معروفة تاريخياً بممارسة الرعي والتجارة، مستغلة الموقع الجيوستراتيجي الساحلي لمدينة بوصاصو وحافون خاصة.
كما تقطن هذه القبيلة مناطق أخرى من داخل الصومال خاصة، مدينة ووأيل وقرطو وجرووي وجالكعيو، وتمتد إلى الداخل الإثيوبي، وتنزانيا وزيمبابوي، وسلطنة عمان؛ ويستقرون خاصة في محافظة ظفار، حيث تصاهروا تاريخياً مع القبائل المقيمة بالمنطقة.
ويبدو أن عبد القادر مؤمن، واعٍ بالدور التاريخي الذي لعبته قبيلة المجيرتين، حيث كان لها دور كبير جداً في زعامة الدولة الصومالية المعاصرة، عن طريق الدور الدينامي للنخب السياسية والدينية والتجارية الجيرتية.
أما اليوم، فالقبيلة تسيطر على إقليم بونتلاند وتدير شؤونه بشكل تام. في هذا السياق، يمكن القول كذلك إن ولادة فرع تنظيم داعش سنة 2015، مستنداً إلى الرمزية الدينية التي يتمتع بها عبد القادر مؤمن في قبيلة مجيرتين، تزيد من احتمالية التطور السريع للتنظيم على مستوى الموارد البشرية والمالية، إضافة إلى أن السلاح منتشر في الصومال ودول الجوار.
من الجانب السياسي، لا بد من استحضار ثقل قبائل الدارودية التي تعتبر قبيلة المجيرتين أكبرها على الإطلاق. فعبد القادر مؤمن يحاول استغلال النزوع التاريخي لقبيلته للسيطرة على قيادة الصومال؛ وينطلق من السيطرة الحالية شبه التامة على حكومة بونتلاند، وهو يقاتل الحكومة المركزية ويعتبرها موالية للغرب الكافر، وفي الوقت نفسه يحاول استغلال زعامته الدينية وانتماءه القبلي لاسترجاع المجد السياسي للجبرتين في قيادة الصومال.
ونشير في هذا الإطار أن الانتماء للجبرتين كان وراء وصول كل من عبد الرشيد شرماركي إلى رئاسة الصومال 1967 – 1969، وعبد الله يوسف أحمد سنة 2004 – 2008، كما ترأس قيادات جبرتية حكومات عدة للصومال، آخرها ترؤس عبدولي قاس الحكومة المشكلة سنة 2011.
يعمل زعيم تنظيم داعش على استغلال الصراعات العشائرية، وعجز الحكومة المحلية لبونتلاند برئاسة عبد الولي غاسعلى عن الاستجابة للمطالب الأساسية، الاقتصادية والاجتماعية، والأمنية؛ ويحاول مؤمن حالياً الظهور بمظهر الممثل لعشيرته في الصراع مع الحكومة المحلية، بعد المصالحة التي أجرتها مع عبد الصمد محمد غالان المنتمي إلى نفس عشيرة مؤمن. غير أن نجاح المصالحة لحد الآن يعرقل من أطماع مؤمن في بسط نفوذه على المنطقة، وضمان ولاء عشيرته كاملة، إضافة إلى أقليات الموجود في منطقة الحكومة المحلية لبونتلاند.
من جانب معاكس، قد يكون غياب «حركة الشباب» في المنطقة، وضعف الحكومة المحلية، مشجعاً لتنظيم مؤمن على الانتشار هناك، والتحرك بحرية أكبر على مستوى التجنيد، والتمويل؛ وبخاصة أن المنطقة معروفة بنزوعاتها الدينية السلفية، وعدائها الأجانب. إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة، أن التنظيم سيتقوى بسرعة، ذلك أن منطقة حكومة لبونتلاند، التي يوجد فيها حالياً، هي من المناطق الأكثر أمنا بالصومال. كما أن تجارب السكان الاجتماعية مع الحركات الإرهابية، يهيمن عليها الحذر، وعم الانجرار وراء آيديولوجيتها الدموية، الشيء الذي حد من توسع «حركة الشباب» في الشرق الصومالي.

عمليات محدودة
ويبدو أن هذا من العوامل الرئيسة المؤثرة في محدودية عمليات فرع «داعش» بالصومال؛ حيث بقي بعيداً عن العاصمة والمناطق المهمة، إلى أن نفذ أول اعتداء انتحاري في الصومال، يوم 24 مايو 2017، أسفر عن خمسة قتلى بمدينة بوساسو شمال شرقي البلاد. كما شن تنظيم عبد القادر مؤمن هجوماً إرهابياً في منطقة بونتلاند باستخدام سترة ناسفة، فبراير (شباط) 2017 استهدف فندقاً في المدينة نفسها المشار إليها (مدينة بوساسو)، الواقعة على خليج عدن؛ وأسفر الهجوم عن مقتل ستة أشخاص، بينهم اثنان من المهاجمين. وكانت «داعش» قد أعلنت مسؤوليتها عن هجوم استهدف شاحنة تابعة لقوات حفظ السلام الأفريقي، في ضواحي مقديشو عام 2016.
ويبقى إعلان تنظيم داعش في الصومال عن سيطرة مؤقتة دامت شهرين فقط، على مدينة قنْدلة التي تبعد 80 كلم من مدينة بوصاصو الساحلية بأقصى شرقي الصومال، في أكتوبر (تشرين الأول)؛ واحداً من المؤشرات التي تعبر عن أطماع للتنظيم الأكيدة في جعل منطقة الانتماء القبلي إلى زعيمها مجالاً جغرافياً للانطلاق وبناء دولة خاصة.
يمكن القول إن فرع تنظيم داعش بالصومال، ما زال هشاً، وشبه محاصر، وتجربته العسكرية في طور التشكل؛ وأن نجاحه في استثمار كثير من التناقضات والصراعات القبلية لبناء تنظيم قوي يؤثر على ما هو أمني واقتصادي تجاري في دول القرن الأفريقي ما زال ضعيفاً للغاية. ورغم أن جنينية التنظيم وهشاشة الدولة وانحصار قوتها في العاصمة ونواحيها، تشجع التنظيمات مثل «داعش» على استقبال الكوادر الأجنبية التي فرت من العراق وسوريا، بعد هزيمة «دولة الخلافة» المزعومة. فإن تدهور صورة تنظيم البغدادي، والصراع الدموي لفرعه بالصومال مع كل من «حركة الشباب» من جهة والدولة؛ والقوات الأفريقية مدعومة بالطيران الأميركي، يزيد من احتمال فشل هذا التنظيم الإرهابي، مقابل احتمال قوي لعودة للشباب المرتبط عضوياً بتنظيم «القاعدة».
كما أن فرضية التحالف والتعايش بين تنظيم عبد القادر مؤمن، والقاعدة، يبدو، على المدى القريب شبه مستحيل؛ ذلك أن تجربة الطرفين تشبه عملياً تجربة كل من النصرة سابقا، و«داعش» بسوريا؛ حيث كانت لغة السلاح والاغتيالات المتبادلة هي الفيصل، رغم الجهود الكبيرة، لبعض شيوخ التطرف، لوقف الاقتتال بينهما، وإيجاد مساحة للتقارب والتحالف بين الجانبين.
* أستاذ زائر للعلوم السياسية جامعة محمد الخامس الرباط



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.