منذ اللحظة التي فاز فيها دونالد ترمب بالرئاسة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، بدا واضحاً أن حالة الاستقطاب على الصعيد السياسي
الأميركي الداخلي سوف تستمر، بل تتفاقم. وهو ما حدث بالفعل خلال العام الأول من رئاسة ترمب.
شعر الديمقراطيون بصدمة بالغة إزاء الهزيمة غير المتوقعة التي منيت بها هيلاري كلينتون. ومثلما كشف كتاب «المحطّمة»، اعتمدت حملة كلينتون الانتخابية على محاولة إظهار أن ترمب غير ملائم للرئاسة. وبالفعل، بدت كلينتون على درجة عالية من الإقناع لدى أنصارها. أما على مستوى البلاد بوجه عام، فقد افتقرت إلى هذه القدرة على الإقناع. ومع أن ترمب لم يكن الخيار الأول أمام الكثير من الجمهوريين، إلا أن صفوف الحزب توحّدت خلفه بحلول يوم الانتخابات بشكل شبه طبيعي.
من جهته، قاد ترمب حملة انتخابية جرى تصميمها بحرص كي تجتذب الناخبين الذين كان في حاجة إليهم داخل ولايات أميركية محورية من أجل الحصول على غالبية الأصوات داخل المجمع الانتخابي. ورغم فوز كلينتون بالأصوات الشعبية، فإن الولايات المتحدة لم ولن تعقد أبداً انتخابات وطنية تعتمد على التصويت الشعبي. وعليه، كان هامش الأصوات الشعبية الذي تفوقت به دون معنى حقيقي على أرض الواقع.
ومع ذلك، شكّك الكثير من أنصارها البارزين، بما في ذلك بعض من يتولون إدارة دفة الحسابات الداخلية في الحزب الديمقراطي، الذي أصبح اليوم بعيداً عن السلطة داخل كل من البيت الأبيض ومجلسي النواب والشيوخ، في شرعية فوز ترمب وتعهدوا بالعمل كحركة «مقاومة». وأكدوا أنهم سيقفون متحدين في وجه ترمب بكل صورة ممكنة. وبالنسبة للديمقراطيين الذين يتقلدون مناصب بالانتخاب في واشنطن، عني ذلك إبداء معارضة قوية لترمب والأغلبية الجمهورية داخل الكونغرس على صعيد جميع المقترحات التشريعية الكبرى (ومعظم الصغرى). أما بالنسبة للديمقراطيين خارج الحكومة، فتعني هذه المقاومة الامتناع تماماً عن التعبير عن الموافقة تجاه ترمب أو أي من الإجراءات التي يتخذها. وبالنسبة لبعض النشطاء الديمقراطيين، عنيت هذه المقاومة الخروج إلى الشوارع لتنظيم مظاهرات. أما بالنسبة لمن يستسيغون العنف، فإن هذه المقاومة تعني التورط في أعمال عنف «أنتيفا»، وهي شبكة غير رسمية تستوحي اسمها من مناهضة الفاشية.
في هذه الأثناء، يرتاب الجمهوريون منذ أمد بعيد في أن وسائل الإعلام في مجملها تمارس تحيزاً ضد حزبهم. إلا أنه مع انتخاب ترمب، تحرّك الجزء الأكبر من وسائل الإعلام التقليدية، على رأسها «سي إن إن»، نحو المعارضة الواضحة لترمب. أما «ذي واشنطن بوست»، فقد اعتمدت شعاراً جديداً غريباً في صدر صفحتها الأولى يقول: «الديمقراطية تموت في الظلام». والمؤكد أن هذا لم يكن ليصبح شعار الصحيفة لو كانت كلينتون هي من فاز في الانتخابات.
مع ذلك، لا يزال ترمب يحظى في المقابل بدعم قوي من جانب «فوكس نيوز» والكثير من المواقع الإلكترونية الأخرى. كما أن وسائل الإعلام جلّها لم تتخل عن التزامها السابق بالتغطية الحيادية. ومع هذا، فإنه بوجه عام يبدو ترمب مصيباً في قوله إن وسائل الإعلام في معظمها معادية له.
في الحقيقة، أشعر بالأسف تجاه اضطراري إلى طرح هذه المراجعة الطويلة للوضع الحالي لمشاعر العداء تجاه ترمب داخل الولايات المتحدة. بيد أنه يبقى من الضروري على مستهلكي الأخبار المتعلقة بالولايات المتحدة، داخل البلاد وخارجها: «نظام التصفية» الذي تمر من خلاله المعلومات التي تُنشر في النهاية. إنها سلسلة من عمليات التصفية والتنقيح المناهضة لترمب، تحمل كل منها اختلافات دقيقة عن الأخرى. عبر إحدى مراحل التصفية، يظهر ترمب شخصاً يفتقر إلى الكفاءة، بينما يظهر عبر أخرى شخصاً لا يأبه سوى لإثراء نفسه. وعبر مصفاة ثالثة، يبدو رجلاً شريراً، بينما يظهر من خلال أخرى رابعة مجرد أداة في يد الكونغرس الذي تسيطر عليه أغلبية جمهورية محافظة. وتأتي صورته عبر مصفاة خامسة رئيساً غير شرعي فاز بالانتخابات عبر سبل غير مشروعة (مثل التدخل الروسي في العملية السياسية).
وعبر أنظمة التصفية تلك، يبدو من الصعب تجنب نتيجة مفادها أن ترمب أبلى بلاءً سيئاً للغاية خلال عامه الأول في الرئاسة.
هذه النتيجة خاطئة. الحقيقة أن ترمب أحرز نجاحاً كبيراً خلال عامه الرئاسي الأول. ومع أن مستويات شعبيته في إطار استطلاعات الرأي منخفضة على نحو قياسي، فإن ثمة نقطتين ينبغي الالتفات إليهما. أولاً: لا يزال الناخبون الجمهوريون مؤيدين له، ولا يزال يحظى بشعبية كبيرة في بعض أجزاء البلاد. ثانياً: تعتبر المشاعر السلبية إزاء ترمب في الجزء الأكبر منها نتاج حركة «المقاومة» سالفة الذكر ونظام التصفية الإعلامي، وكلاهما عنصران غير مسبوقين على الصعيد السياسي الأميركي.
وفيما يلي سأحاول استعراض سجله على الصعيد الداخلي، ودعونا نبدأ بظاهرة أثارت دهشة الكثيرين: ذلك أنه فور انتخاب ترمب بدأت سوق الأسهم الأميركية في الارتفاع، واستمرت على هذا النحو على مدار الشهور الـ15 الأخيرة لتصل إلى مستويات قياسية. وبالنظر إلى التوقعات السائدة بأن تفوز كلينتون في الانتخابات، لا يملك المرء سوى أن يخلص إلى أن السوق عكست تقييمها لفوز كلينتون على قيم الأسهم بحلول مطلع نوفمبر 2016، وأن الارتفاع الذي حققته سوق الأسهم منذ ذلك الحين يعود إلى ترمب والتوقعات بحدوث تغيير في سياسات واشنطن.
إلا أن التغيير الأكبر لم يأتِ سوى نهاية عام 2017، وتمثل الإنجاز التشريعي الوحيد لترمب في إقرار إصلاحات ضريبية كاسحة أُقرت في ديسمبر (كانون الأول). ومع أن هذه الإصلاحات تناولت ضرائب الدخل الشخصي، فإن العنصر الأهم فيها كان إقرار خفض كبير في معدل الضرائب على الشركات، من 35 في المائة إلى 21 في المائة، وكذلك بنود أخرى تشجع الاستثمار في معدات وتكنولوجيات جديدة.
وقد تراجع بذلك معدل الضرائب الأميركية على الشركات من كونه الأعلى على مستوى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى الثّلث الأدنى. ومثلما لاحظت بالفعل حكومات الكثير من الاقتصادات المتقدمة، فإن ثمة تحسناً ملحوظاً قد طرأ على الموقف التنافسي الأميركي. علاوة على ذلك، فقد تسبب القانون الضريبي الأميركي (قبل التعديل التشريعي الأخير) فعلياً في إبقاء التريليونات من أرباح الشركات خارج الولايات المتحدة. ومع استعادة هذه الأموال، من المتوقع حدوث طفرة كبيرة في الاستثمارات؛ الأمر الذي يشكل أولوية كبرى لدى ترمب.
ولم يكن الإصلاح الضريبي للشركات الأمر الوحيد الذي استجاب له الاقتصاد الأميركي على نحو إيجابي، وإنما يبدي ترمب كذلك التزامه ببيئة تنظيمية أميركية أكثر إيجابية تجاه المصالح التجارية. ويطرح ترمب هنا أيضاً مبادرة إصلاحية واسعة النطاق ترمي إلى تقييد الأذرع البيروقراطية الضخمة للدولة التي تطرح تنظيمات على نحو يكاد يكون مستقلاً عن إرادة الكونغرس أو البيت الأبيض. وقد أثمر تصمم ترمب على استعادة السيطرة على هذه الأذرع بالفعل فوائد كبرى حتى الآن بالنسبة للشركات، تمثلت معظمها في إعاقة إقرار تنظيمات جديدة.
وأخيراً، لا يمكن طرح تقييم للعام الأول لترمب من دون الإشارة إلى المحاكم التي نجح ترمب في إطارها في أن يحل قاضٍ أصغر سناً محل قاضٍ آخر محافظ بالمحكمة العليا. كما أنه في طريقه لإجراء سلسلة من التعيينات بالسلك القضائي ستعيد صياغة شكل المحاكم لجيل قادم.
موجز القول، إن ترمب خرج فائزاً من عامه الأول بالرئاسة، رغم أن الكثير من خصومه لا يروق لهم الإقرار بذلك. من ناحية أخرى، من المتوقع أن يبلي الديمقراطيون بلاءً حسناً في انتخابات الكونغرس عام 2018، وربما ينجحون في اقتناص السيطرة على مجلسي الشيوخ والنواب من أيدي الجمهوريين.
نجاحات لترمب وسط استقطاب حاد
نجاحات لترمب وسط استقطاب حاد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة