يبدو الحساب الختامي لمجمل التحركات في السياسة الخارجية المصرية خلال عام 2017 محدداً في 10 ملفات رئيسية أحرزت خلالها القاهرة ما يمكن وصفه بـ«قفزات استراتيجية» تنوعت بين تأكيد صحة موقفها في بعض الأزمات الدولية وبالتالي تعزيز نفوذها، أو إحراز مكاسب في بعض المحاور التي بدت عصية على الحلحلة. وفي ما يلي محاولة لرصد وتحليل واستشراف أبرز تلك الملفات.
علاقات ناضجة مع السعودية
لا شك أن العلاقات بين مصر والمملكة العربية السعودية، اتسمت خلال 2017 بالنضج والمناعة ضد أي تقلبات، وبات التنسيق الاستراتيجي بين البلدين يطفو فوق أي اختلافات في الرؤى التكتيكية والملفات الفرعية نتيجة الطبيعة الخاصة للمنطقة التي تشهد تطورات مفاجئة وسريعة.
ونتيجة للتفاعل والتلاحم الكبير بين الدولتين في «الرباعي العربي» الداعي إلى مكافحة الإرهاب الذي يتصدى لدعم قطر للجماعات المتطرفة، أصبح مجال التشاور المستمر على مستويات مختلفة أكثر وضوحاً وفاعلية، وأكد كذلك صحة الرهان الرسمي والشعبي، على أن مستقبل العمل العربي والإقليمي المشترك وتطويره يعتمد في المقام الأول على مصر والسعودية.
وخلال العام المقبل، أتوقع أن تكون القضية الفلسطينية، وتحديداً قرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، العنوان العريض للعلاقات بين البلدين، وذلك لسببين، أولهما الاهتمام الخاص لكليهما بملف القدس ووضعه على رأس أولويات السياسة الخارجية لهما، وثانيهما أن القاهرة والرياض ترتبطان بعلاقات ذات طبيعة خاصة مع واشنطن تجعل لكلمتهما صدى في الأوساط الأميركية، إضافة إلى أنه وفي حال اللجوء إلى إجراءات تصعيدية في المحافل الدولية، سيكون موقف البلدين جداراً صلباً يستند إليه العمل العربي.
إنجاز المصالحة الفلسطينية
سيضع أي مراقب محايد، أو غير محايد، للشأن الفلسطيني، قضية المصالحة أحد أهم منجزات السياسة المصرية خلال عام 2017، وذلك بصرف النظر عن اختلاف التقييمات لسرعة النتائج، وانطلاقاً من الشعور بالمسؤولية القومية تجاه القضية وسعياً إلى حفظ الأمن على الحدود الشرقية لمصر، إضافة إلى رغبة القاهرة في تحقيق السلام العادل. تمكنت أجهزة الدولة السيادية المتمثلة في الاستخبارات العامة من إقناع حركة «حماس» بحل لجنتها الإدارية في قطاع غزة، ما فتح باباً أمام التفاوض المباشر مع «فتح»، وأثمر مصالحة موسعة، ينتظر أن تؤتي ثمارها بتمكين كامل للحكومة الفلسطينية في القطاع خلال الشهور الأولى من العام الجديد.
وسيكون ذلك مدفوعاً بالضغط الشعبي الفلسطيني الذي يواجه قضية الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، بما يمثله ذلك من خرق واضح للقواعد القانونية والقرارات الأممية كافة، ولن يكون بمقدر الفلسطينيين أن يخوضوا تلك المعركة بينما ظهورهم إلى العراء ومهددة بالانقسام.
انخراط فعلي في سوريا
ظل الموقف المصري الدائم من الأزمة السورية منذ بدأت قبل 6 سنوات هو الدعوة إلى الانخراط في عملية سياسية بين جميع الأطراف، ورفض دعم الجماعات المسلحة ومحاولات «تفكيك الدولة الوطنية»، ورغم ما جلبه ذلك من انتقادات، فإن القاهرة تعتبر أن حقائق الواقع الآن في سوريا أكدت صحة توجهها.
ويمكن القول إن مصر لم تكتف فقط بطرح نظري للتسوية، بل إنها انخرطت فعلياً في الأزمة وتمكنت من إعلان للهدنة وخفض التصعيد بين الأطراف المتصارعة ومنها ما تم تنفيذه في جنوب دمشق في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
«صبر أخلاقي» على «الصديق الروسي»
أظن أن مصر أدارت العلاقات السياسية مع «الصديق الروسي» في إطار من «الصبر الأخلاقي»، إذ كانت المبررات الروسية في التباطؤ في إعادة الطيران المباشر في غير محلها بل وغير متوقعة، ولكن القاهرة استطاعت بحنكة شديدة أن تتجنب هذا الأثر السلبي على الرأي العام في مصر، وأدارت المسألة بكفاءة تضمن الاستمرار في العلاقة الاستراتجية بين البلدين. وأعتقد أن التضحية بمستقبل العلاقة غير وارد، خصوصاً أن المشكلات التكتيكية في السياحة والطيران في طريقها إلى الحل، ولعل أبرز دليل على ذلك زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى مصر أواخر 2017.
وارتباطاً بالعمل المصري في الملف السوري، فإنه يمكن التعويل على أن القاهرة لم تنظر إلى الدور الروسي في سوريا بشكل سلبي، وأعتقد أنه سيكون عاملاً إيجابياً، ليكون ذلك بداية لتنسيق أكبر على المستوى الإقليمي والثنائي.
وعلى مستوى آخر، أتوقع أن يشهد العام المقبل دخول روسيا بوصفها أحد الضامنين لعملية السلام، إذا استمر الحشد العربي للرأي العام العالمي للوقوف أمام القرار الأميركي في شأن القدس.
رفض النفوذ الإيراني في اليمن
المسألة اليمنية بالنسبة إلى مصر ترتبط بلا شك بجذور تاريخية وجغرافية مختلفة، جميعها وضعت ضوابط للحدود القصوى للتدخل المصري. وأظن أن هذا ساعد في أن يكون التحالف العربي متماسكاً وأن يحظى بدرجة ملائمة من توزيع الأدوار بشكل متناغم وفاعل. ولم يمنع ذلك القاهرة من دعم ومساندة وتأييد جهود الحفاظ على الشرعية كافة، وإعلان الموقف المعادي للتدخلات الإقليمية لإيران في شؤون اليمن، وتهديداتها للأمن القومي العربي. واتضح ذلك في موقف مصر خلال المؤتمر الوزاري العربي الطارئ الذي دعت إليه المملكة العربية السعودية لوقف التدخلات الإيرانية.
ومن المؤكد أن مصر ستكون قلقة جداً خلال العام الجديد من استمرار الاقتتال الداخلي في اليمن، ولن تقبل بزيادة النفوذ الإيراني، بما يتضمنه من تأثيرات محتملة على أمن المياه الإقليمية المصرية في باب المندب.
عثرات على مسار النيل
أثبتت مصر حسن نياتها في المعادلة التي وضعها الرئيس عبد الفتاح السيسي للتعامل مع ملف «سد النهضة» الإثيوبي، التي تقوم على «الحق في التنمية مقابل الحق في الحياة». لكن يبدو أن هناك عثرات تصادف المسار التفاوضي حتى الآن، ورغم كل المخاوف من عامل الوقت، فإن إثبات حسن النيات سيكون بلا شك من دعائم موقف مصر الدولي في تحركاتها لحماية أمنها المائي.
وبناء على ما سبق، فإنه يجب على الدبلوماسية تجنب الدخول في شرك استنزاف الوقت، والتأكيد الدائم أن حوض النيل سيكون للتعاون وليس المواجهة، وأن تلك الاستراتيجية هي التي تحكم الأداء المطلوب في هذا الملف. وأستشعر أن العام المقبل، سيشهد تحركاً على المسار الدولي استناداً إلى مبادئ عدم الإضرار بحصة مصر من مياه النيل بما تمثله كأساس للحياة للمصريين.
جسر إلى أوروبا
في أعقاب «ثورة 30 يونيو (حزيران)» كانت هناك كتلة أوروبية تنظر بقلق وعدم تفهم لمجريات الأمور داخل مصر، وتمكنت الدبلوماسية المصرية من عمل مقاربة استراتيجية واعية، وأن تتبع سياسة القضمات، عن طريق إقامة «رأس جسر» على الضفة الأخرى من المتوسط عند نقطتي قبرص واليونان، ما سهل تدعيم ونفاذ وجهة النظر المصرية إلى عواصم مهمة مثل برلين وباريس وروما، إضافة إلى تعزيز التفاهمات بين الثلاثي حول المشروعات الاقتصادية واكتشافات الغاز.
تقدم هنا وتباطؤ هناك مع واشنطن
العلاقات المصرية - الأميركية ذات طبيعة خاصة ومتشابكة ومتعددة الأوجه والمستويات، وبالتالي لا نستطيع وضعها في خانة واحدة، ومن الممكن أن نرى أن هناك تقدماً على مستوى معين كما جرى في الموقف المشترك من الحرب على الإرهاب، مقابل التباطؤ والتعثر في مجال آخر مثل مسألة تخفيض المعونة.
ويجب أن يكون في ذهن المتابع لشؤون البلدين أن السمة الأساسية هي الصعود والهبوط، فمحددات السياسة الأميركية تجعلنا أحياناً نشعر ببعض التناقض مثلما حدث في نقل السفارة إلى القدس، فواشنطن تدرك موقف مصر وبقية الدول العربية من الأمر، ورغم ذلك أقدمت على خطوتها. لذلك يجب أن يكون مستقبل العلاقات في هذا الإطار، وهو الخلاف الحاد في مسار القدس، وأن تسير الأمور بشكل طبيعي في متطلبات الأمن القومي بين البلدين.
توسيع التواصل في ليبيا
بتواصل مصر مع أطراف العملية السياسية والعسكرية الليبية كافة، واستضافتها قائد الجيش المشير خليفة حفتر، وكذلك رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج، على ما بينهما، أثبتت القاهرة قدرتها على التواصل مع مختلف التكتلات في ليبيا، وأنها مؤهلة للقيام بدور في علمية سلام بين الأطراف. وهناك شبه اعتراف دولي بهذا الدور المصري وأهميته، ولكن النتائج المرجوة لم تظهر حتى الآن للأسف. وليس واضحاً ما إذا كان العام المقبل سيحمل تسوية سياسية في ليبيا، لأن هناك من يرى ضرورة الإبقاء على فراغ السلطة لتكون البلاد ملاذا آمناً للجماعات الإرهابية الآتية من سوريا، ما يمثل خطورة على الأمن القومي المصري.
مقاطعة قطر
«أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي»، يمكن الاستناد إلى تلك المقولة عند الحديث عن التعامل مع الدوحة. وأعتقد أن شيم العرب المتمثلة في الصبر هي التي أخرت اتخاذ موقف من قطر، حتى أصبحت الأزمة ملفاً صعباً يمثل ثغرة في الجسد العربي. لكن وعلى أي حال فالمحصلة جيدة بالموقف الجماعي الذي جرى التوافق عليه، ومن شأنه أن يضع النظام القطري تحت ضغط كبير. ومع العام الجديد يجب الحرص على تماسك موقف «الرباعي العربي» من ذلك الملف المهم، وتجاوز كل التأثيرات الالتفافية التي تلجأ إليها الدوحة باستخدام الإغراءات الاقتصادية لبعض الدول.