«الباحثات اللبنانيات» مشغولات بلعبة «تسريع الزمن»

كتاب التجمع السنوي صدر بمشاركة ثلاثين باحثاً

عزة سليمان من {تجمع باحثات}  -  نهوند القادري من محررات الكتاب
عزة سليمان من {تجمع باحثات} - نهوند القادري من محررات الكتاب
TT

«الباحثات اللبنانيات» مشغولات بلعبة «تسريع الزمن»

عزة سليمان من {تجمع باحثات}  -  نهوند القادري من محررات الكتاب
عزة سليمان من {تجمع باحثات} - نهوند القادري من محررات الكتاب

عندما يكتب ثلاثون باحثاً/ ة عربياً عن «الزمن»، في مؤلف واحد، مع كل ما يشوب هذا الموضوع تحديداً من مشكلات وارتباكات، فإنه لأمر يستحق الاهتمام والتمعن. إذ ليس أكبر من أزمة تعاطي العربي مع «زمنه» القديم منه والحديث، بل ثمة إحساس دائم، بأن كل ما يلحق بنا هو سوء تفاهم مزمن مع «الزمن»، ومحاولة للحاق به دون جدوى.
الميزة هذه المرة، وفي هذا الكتاب بالذات، الذي يصدره بشكل دوري، «تجمع الباحثات اللبنانيات»، إنه مهجوس بالفعل بسؤال الإخفاق والنجاح، بإعادة فهم علاقتنا بالأحداث، بالأمكنة، بالعمارة، الألم، الشعر، الخبر، المسرح، المهنة، الرغبة، المحرمات، السلطة، الأنوثة، القانون، وحتى الاقتصاد والإنتاج من خلال ماهية علاقتنا بالزمن. غالبية الدراسات تقول في النهاية، مهما اختلفت الأسئلة والمعالجات «فإن كيفية تعاملك مع الزمن، هو الذي يحدد مسارك ومن ثم مآلك».
طبعاً السؤال الذي سيتبادر إلى الأذهان للتو، هو كيف؟
«الثقافة العربية في علاقتها مع الزمن تصادمية، عدائية، لأنها ترى فيه مصدر كل شر، والفراق والمرض والشيخوخة، الفناء، المستقبل مخيف (والله يستر من الجاية). الماضي مصدر حنين وبكاء على الإطلال (رزق الله على أيام زمان)» وكأنما الماضي هو الشيء الوحيد الجميل لكنه انتهى. والحاضر يجب ألا يستغرق فيه الإنسان كي لا ينسى الآخرة». بينما في ثقافة العولمة التي نريد أن نلحق بقطارها فإن «الزمن هو الوقت، هو إدارة الوقت والتخطيط واستشراف المستقبل» تقول فاديا حطيط في معرض دراستها لديوان الشاعر حسن عبد الله المعنون باسم «فرح» الموجه للأطفال. إذ حتى في الكتابة للطفولة ترى الباحثة أن ثمة فرقاً في التعاطي مع الزمن عند حسن عبد الله كشاعر عربي وما نراه في الثقافة الغربية. فهو يكتب للطفولة بمعناها التقليدي ببعدها الرومانسي، كرمز للبراءة والسعادة بحيث «يصبح التفاؤل أمراً جوهرياً» بينما النظرة الغربية تضع صعوبات الطفولة نصب عينيها، وتنشغل بوضع حلول لمعضلات الصغار من أجل مستقبل أفضل.
ليس جديداً أن العربي انشغل طويلاً بالماضي ولا يزال، ولافت المحور المخصص للشهادات الشخصية التي كتبتها كل من إيفلين حمدان، ونازك سابا يارد، وحسام عيتاني، وخاتون سلمى، وكذلك مي جبران، حيث جاءت في غالبيتها متوغلة في العودة إلى ذاكرة عتيقة بحثاً عن الذات. لعل ذاكرتنا كعرب تنحو دائماً باتجاه الأكثر قدماً ولا تجازف في التعاطي مع ما هو أقرب وقد يكون أقل وضوحاً. لسبب ما تذكر ظاهرة حب العودة إلى الماضي البعيد في هذه الشهادات الذاتية، بإصابات ألزهايمر، التي تجعل الإنسان أشد صلة بطفولته وشبابه الأول منه بما هو لصيق به.
فهل نحن أمة مصابة بألزهايمر لشدة ما نحب الماضي ومع ذلك تبقى علاقتنا معه مضطربة. يبدو أننا في المسرح أيضاً كثيرو العودة إلى استرجاع الأحداث حيث تعتمد وطفاء حمادة في دراستها على ثلاثة نصوص وعرضين اثنين، بحيث أن هذه النصوص جميعها «زمنها استرجاعي» وإن كنا بعد اكتمال العرض نرى أزمنة أخرى تدخل على الخط مثل التعاقبي والتكراري والمستقبلي، نتيجة العمل الإخراجي على النص.
حتى في المحور الشيق المخصص لدراسات حول «تسارع الزمن» نجد الباحث محمد الحداد يقول وهو يتحدث عن الانتفاضات العربية في وجه السلطة إن «المسار الثوري سار في اتجاه تسريع التاريخ في تونس ثم مصر فليبيا واليمن، وتوقف بغتة في سوريا، وارتد هذا التراجع وأصبح مساراً عكسياً، إذ أثر سلباً في اليمن، ثم في ليبيا، فمصر، وتونس. كأن الزمن رجع بنا القهقرى». لا بل أخطر من ذلك، يرى الحداد أنه لا يبدو ممكناً تسريع حركة التاريخ من دون عنف. وكما في غالبية دراسات الكتاب، ونظراً للمعارك الكثيرة - وفي كل اتجاه - التي نعيشها، تبقى الأسئلة كثيرة والإجابات مفتوحة، والمستقبل ضبابي. بعد قراءة ممتازة لأحداث «ثورة الياسمين» وامتداداتها العربية، يسأل الحداد: «هل الثورات العربية فاتحة ما بعد الحداثة أم هي استمرار لمعارك داحس والغبراء وصفين والجمل والفتنة الكبرى» مع استحالة الوصول إلى جواب موضوعي بالنسبة له. كذلك يسأل: «هل كان الحراك العربي تسريعاً للزمن أو شللاً مؤقتاً عمّق أزمات المجتمعات العربية ودفعها إلى حركة تدمير ذاتي؟» ويكمل بالقول: «قناعتي الوحيدة هي أن المستقبل مفتوح على أكثر من احتمال، بل على احتمالات قد تكون عسيرة التصور في الوقت الحاضر».
هكذا نفهم أننا حين نخرج من مأزق «الإقامة في الماضي» الذي أدمناه، ونحاول أن نسرع الزمن ونلحق بالقطار فإن الدراسات تتحدث عن اضطراب وقلق وربما عنف كما شهدنا سابقاً. فالدراسات التي حاولت رصد الإعلام مثلاً تأخذنا إلى إجابات متناقضة تعكس صعوبات في التعامل مع الوقت وارتباكاً في السلوك اليومي. ففي الأجوبة على استبيان لدراسة أجرتها نهوند القادري على 55 طالبا وطالبة، في كلية الإعلام، ماستر بحثي، يقول الطلاب في إجابة على طريقة استخدامهم لوسائل التواصل إن 27 في المائة يستخدمونها للمعلومات و23 في المائة للأخبار، و15 في المائة للعمل، و19 في المائة للتسلية و15 في المائة للتواصل. أي عملياً 65 في المائة من الاستخدام يصب في خانة العمل. ومع ذلك فإن أكثر من نصف هؤلاء يفكرون دائماً أو أحياناً في التوقف عن استخدام الإنترنت. وحين يسألون عن السبب فإن نصف الذين أجابوا على الأسئلة قالوا لتجنب هدر الوقت. والمثير أيضاً أنهم حين يسألون هل يجدون في استخدامهم للإنترنت انعكاساً إيجابياً على أدائهم الأكاديمي فإن 30 في المائة فقط تجيب إلى حد كبير، و49 في المائة إلى حد ما، و31 في المائة لا يرون انعكاساً. حين يتعلق الأمر بطلاب كلية الإعلام الذين يبنى عملهم في الأساس على الخبر، تواتر الأحداث، والراهنية بعد أن أصبحت المواقع الصحافية موضة تفوق الصحف وتنافسها، فإن التفكير في الاستغناء عن الإنترنت بنسبة نصف الطلاب المستبينين وعدم إيجاد جدوى بنسبة الثلث في بقاء الاتصال مع العالم، يدل على خلل ما إما في التعاطي مع شبكة الإنترنت أو إدارة الوقت، أو في فهم المهنة التي يفترض أنهم يستعدون لمباشرتها. والمعضلات الثلاث معاً يعتبر عبد الله الزين الحيدري في دراسته «الزمن الاجتماعي والزمن الميدياتيكي» أنها تتسبب في أزمة. ويقول إن مبحث الزمن في الإعلام لم يدرس بالقدر الكافي كما هو الحال في الدراسات العربية النقدية والأدبية والفلسفية. فهل الزمن الإعلامي، الذي نعتمده لنفهم ما يدور حولنا مضطرباً أيضاً، هذا أمر في غاية الخطورة. للاستزادة من هذا الموضوع نجد عند لمى كحال في دراستها «الإنسان المعاصر بين الزمن الاتصالي والزمن الواقعي، أزمنة متداخلة ومتقاطعة» بعض الإيضاحات. فمن خلال دراسة ما يزيد على عشرين حالة، تخلص إلى أننا «نعيش هنا وهناك، في كل مكان في آن معاً، نعيش الآن والأمس، والغد في اللحظة نفسها، وبالتالي نستخلص أن العالم الافتراضي يحتوي بداخله على الأزمنة كلها، وإن كان هناك تحليل مناقض يقول إننا نعيش في اللامكان ونعيش سطوة اللحظة». خلاصتان رئيسيتان مفيدتان عند لمى كحال: أن الوسائل الحديثة أقحمت الواقعي بالافتراضي ووضعت الفرد أمام سيل من اللحظات الحاضرة المتدفقة التي تسير جميعها بموازاة بعضها البعض من دون أن توقف إحداها الأخرى. والخلاصة الثانية هي على عكس ما يقول البعض فإن وسائل التواصل ردمت الهوة بين الأجيال في العالم الافتراضي، بينما لا تزال المسافة كبيرة بين الجيلين في العالم الواقعي. وهو ما يخلق نوعاً من الخلل بين العالمين.
النتائج تبدو موضع إثارة أيضاً في دراسة محمد علي شكر عن تسارع الزمن وتأثر السلطة إذ يجد أن دور وسائل الاتصال في بلادنا من الناحية الإعلامية، لعبت دوراً أسرع بكثير من الذي رأيناه في الدول التي اخترعتها، بسبب ما أحدثته من انتفاضات وتغيرات على مستوى السلطة الحاكمة، وبسبب الاهتمام الشديد من الجيل الشاب بالتقنيات الحديثة، التي أعتقته من «عبودية الإعلام التقليدي الذي فشل في ترويضه». إذا كان من استنتاجات عامة لهذه الدراسات فهي أنها تفسر لماذا يبدو الزمن الماضي أكثر دفئاً وجمالاً وأقرب إلى الهدوء والدعة، فيما خوض غمار حياة تكنولوجية شديدة الحداثة، تبدو فيها الأزمنة مركبة، متداخلة، متصارعة، هو نوع من الجنون.
بيسان طي تقرأ كتاب هارموت روزا «التسارع نقد اجتماعي للوقت» لنكتشف معها ليس فقط أهمية السيطرة على الوقت من أجل عيش أكثر هناءة، وإنما أيضاً أن العالم مشغول بـ«اقتصاد الوقت». الوقت هو المال، هو المحرك وأن «ثقافة الحداثة عنيدة في معارضتها لأساليب تضييع الوقت». ومع روزا وبيسان طي، نلحظ أننا نعاني في العالم العربي من أعراض ضغط الحياة، وشح الوقت وتسارع الإيقاع اليومي، دون أن نلمس عملياً آثاراً إنتاجية فعلية. وهو ما كتبت عنه رفيف صيداوي أيضاً في «الزمن وتقاطعاته من خلال عالم العمل»، وعن أن المهن «تفقد ديمومتها واستقرارها، بخلاف فترة الحداثة، حيث كانت لا تزال المهن تنتقل من الآباء إلى الأبناء. صارت بنى العمل داخل المؤسسة وفي فترة قياسية تشهد تحولات وبإيقاع سريع، بل التغير يطاول شكل العمل نفسه، ونوع المهن، وماهيتها. تأخذنا الدراسات في الكتاب، إلى محاولات فلسفية وسيكولوجية واجتماعية لفهم الزمن، ويغيب في أحيان كثيرة، الزمن بمعناه اليومي الأولي وما يعانيه من فوضى. فأسوأ ما نعاني منه ربما، هو اختلال خط التاريخ، معرفتنا لتتابع الأحداث. إدراكنا لمعنى التعاقب الصحيح للأحداث، ما الذي جرى قبل، وما الذي حدث بعد، وفي أي سياق، وما هي الملابسات. تكفي إعادة توثيق المعلومات حول أي حدث، وقراءته من جديد لتتغير نظرتنا إليه. فغالبية الطلاب الجامعيين العرب لم يكونوا قبل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، يعرفون «نكبة» ولا «نكسة»، ولا يعرفون شيئاً عن اتفاقيات السلام. مع أنه لا هوية لإنسان لا يعرف خط زمنه الشخصي والجماعي. كثيرون كي لا نقول غالبيتنا لا نمتلك رؤية واضحة وحقيقية لخط الزمن الجماعي، لذلك نبقى في الأفكار الهلامية والاختلاقات السياسية، والافتراءات الإعلامية. الزمن أولوية وخط الزمن الذي يوازي الهوية هو جوهر المعرفة.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!