«داعش» في ليبيا... ملابسات التعقيد السياسي وسيناريوهات محتملة

أصدرت دار النشر الفرنسية «سغنس» منذ بضعة أيام كتاباً تحت عنوان «الدولة الإسلامية في ليبيا، الجهات وعوامل الصراع» للكاتب الفرنسي أودي توماس في 190 صفحة من القطع المتوسط. ويبدأ الكاتب بالتأكيد على أن ليبيا تلك الدولة ذات المساحة الشاسعة بشمال أفريقيا لم تكن معلومة بالقدر الكافي للكثيرين حتى عام 2011، أي مع انتفاضة الشعب الليبي ضد معمر القذافي والتدخل الفرنسي - البريطاني موضع الجدل هناك تحت مظلة حلف الناتو؛ الأمر الذي جعل هذا البلد يتصدر المشهد الإعلامي الدولي.
الكتاب يمثل نتاج عمل يتسم بالموضوعية لتقديم صورة واضحة وخاصة للحالة الليبية مثل: الاقتصاد النفطي، النظام الاجتماعي السياسي القبلي، تاريخ وطبوغرافية ليبيا، كما يتعرض المؤلف كذلك بالوصف للبيئة التي ظهر فيها تنظيم داعش ليكشف لنا غموض وملابسات التعقيد السياسي لليبيا في قلب نظام قبلي متأصل. ويتعرض الكتاب أيضاً بالتحليل الدقيق للنظام السياسي لتنظيم داعش، مقارنة بنظام الخلافة الذي أعلن في سوريا والعراق، هذا بالإضافة إلى نهج وأسلوب عمل هذا التنظيم الإرهابي ونظمه السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ مما يتيح أكثر فهم العوامل التي سهلت ظهور هذا التنظيم الإرهابي، ويساعد على التفكير في السيناريوهات المحتملة لتطوره.
يؤكد الكاتب أن تنظيم داعش في ليبيا يمثل أحد أجنحة التنظيم الإرهابي المسلح ذي الآيديولوجية السلفية الجهادية الذي تعود نشأته الأولى إلى سوريا والعراق. وقد ظهر هذا الفرع المسلح في 4 أبريل (نيسان) 2014 تحت اسم «مجلس شورى شباب الإسلام». ومنذ ذلك الحين، بدأ هذا التنظيم في السيطرة على قطاعات ثلاثة تغطي معظم الدولة الليبية: ولاية طرابلس، ولاية فزان، ولاية بارسا، هذا بالإضافة إلى تواجد التنظيم بشكل قوى وفاعل في مدينة سرت.
ويشير الكاتب إلى إعلان جماعات إرهابية كثيرة ولاءها التام والمطلق لتنظيم داعش، وهي جماعات نشطة في العالم الإسلامي الأمر الذي أضفى على التنظيم مزيداً من القوة؛ ما جعله يمثل مركزاً لاتصالات بين مركز «داعش» في الشرق الأوسط والجناح الليبي المسلح.
وفى الواقع، فإن هذا الكتاب يكتسب أهمية خاصة ليس فقط لأنه تعرض لمنطقة شائكة إلى حد كبير، لكن أيضاً لأن مؤلف الكتاب توماس متخصص في هذه المنطقة، وتتركز أبحاثه ودراساته حول منطقة الساحل الأفريقي وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، التي تمرس فيها واكتسب خبرات مهنية وعملية متنوعة عن طريق وزارة الدفاع الفرنسية.
ويرى المؤلف أن سقوط نظام القذافي من جانب والطبيعة القبلية للمجتمع الليبي وما صاحبه من صراعات محلية على السلطة من جانب آخر قد أحدث فراغاً سياسياً كبيراً أدى بدوره إلى حدوث حالة من الفوضى وجد فيها تنظيم داعش ملاذاً جيداً وآمناً له إلى حد كبير، وكذلك الجماعات المرتبطة بالقاعدة، بل جعلت هذه التنظيمات وبخاصة تنظيم داعش من اتساع مساحة وجودها في ليبيا هدفاً استراتيجياً لها، وهي مهمة أضحت سهلة أمام التنظيم في ضوء اكتفاء حكومة الوفاق الوطني الليبية بالعمل على بسط نفوذها فقط على منطقة طرابلس.
ويؤكد توماس على أنه وفقاً للتقديرات، فإن عدد أعضاء تنظيم داعش في ليبيا يتراوح ما بين 6 و10 آلاف مقاتل يقاتلون هناك تحت عباءة التنظيم، لكن الشيء المؤكد أنه لا توجد إحصائية حول العدد الدقيق للتنظيم في ليبيا، غير أن هناك استراتيجية أساسية للتنظيم تكمن في الزحف نحو منطقة الهلال النفطي الليبي لزعزعة استقرار تمويل الدولة الليبية التي تعتمد كثيراً على عائدات الموارد النفطية
وفى سياق مختلف، يكشف المؤلف النقاب عن نوايا تنظيم داعش في ليبيا في استخدام الأراضي الليبية قاعدةً خلفية لزعزعة استقرار تونس ومصر من خلال تنفيذ عمليات إرهابية كثيرة في أماكن متفرقة، هذا بالإضافة إلى استهداف السياح هناك وما يمثله من رسالة مهمة مفادها «تهديد النطاق الإقليمي» والتأكيد على أن أوروبا ليست ببعيد عن مدى ونطاق عمل التنظيم الإرهابي. بالإضافة إلى ذلك، فنتيجة الفراغ الأمني والسياسي الذي تشهده الأراضي الليبية، فقد بدأ التنظيم بالفعل في استخدام الأراضي الليبية في تدريب العناصر الإرهابية وبخاصة المقاتلون الأجانب القادمون من أوروبا. ولذلك؛ يؤكد المؤلف على أن أهمية تكثيف المبادرات الدولية لإنهاء حالة الفوضى التي تحياها ليبيا من أجل محاصرة تنظيم داعش.
واستناداً إلى باتريك كالفر، رئيس جهاز الاستخبارات الفرنسية، يقول الكاتب إنه تم مؤخراً رصد ارتفاع ملحوظ في معدل أعداد المقاتلين الأجانب الذين يقصدون الأراضي الليبية، حيث أضحى التنظيم الإرهابي يسيطر هناك على مساحة تقترب من الـ300 كم، وبخاصة في المناطق الساحلية.
وبالتالي، فقد أصبحت بعض الأراضي الأوروبية تقع في مرمى نفوذ التنظيم الإرهابي مثل جزيرة لامبيدوسا الإيطالية التي أضحت لا تبعد عن نفوذ «داعش» سوى بـ350 كم فقط. وبالتالي، فإن هذا الوضع أضحى يمثل خطورة كبيرة على القارة الأوروبية وبخاصة في أوقات الطقس الجيد، حيث تكون حركة انتقال العناصر الإرهابية سهلة بين شطري المتوسط.
ويكشف الكتاب عن الحيلة التي لجأ إليها تنظيم داعش لنقل عناصره، ومن ثم نشاطه إلى القارة الأوروبية، وهي التي تكمن في دس عناصره الإرهابية في قلب صفوف المهاجرين غير الشرعيين الذين يقصدون أوروبا مقابل مبالغ مالية كبيرة يدفعها التنظيم لـ«وكلاء الهجرة» في مدينة طرابلس الليبية.