هجّرت قوات النظام السوري آلاف العائلات من محيط دمشق، باتجاه الشمال السوري، خصوصا محافظة إدلب التي باتت تغص بالنازحين والمهجرين من مختلف المحافظات السورية.
مهجّرو ريف دمشق لم يعتادوا الظروف التي تعيشها إدلب؛ إذ كانوا محاصرين طيلة سنواتها الأخيرة، بل حتى إنهم لم يعتادوا ظروف المحافظة المعيشية وطبيعة القصف السوري والروسي الذي تتعرض له.
بعدما تركوا ديارهم رغماً عنهم، يعيش المهجرون في إدلب ظروفاً قاسية، حيث أجبرهم النظام على ترك مناطقهم وكل ما يملكونه خلفهم... جلبوا معهم ما حملت أيديهم، لتبدأ بعد ذلك رحلة البحث عن سكن مناسب في منطقة أصبح الحصول على سكن فيها من المستحيلات، نظراً للأعداد الكبيرة من المهجرين والنازحين الذين استقروا فيها، إضافة إلى أن الحصول على فرصة عمل يعول بها المهجرون أسرهم في بلد ذاق شتى أشكال القصف والدمار أصبح أمراً صعباً، حيث خرج معظم المرافق الحيوية من الخدمة جراء القصف الممنهج.
البعض استطاع التأقلم، ووجد فرصة عمل، في وقت لا يزال يبحث فيه آخرون عن مأوى يستقر به أو عمل يعول به أسرته. البعض لم يجد أماناً دائماً في إدلب فقرروا السفر خارج البلاد.
«أبو الخير»، شاب في الثلاثين من عمره كان يعمل في محل للحلويات في مدينة داريا، هُجر مع أخوته وأهله إلى محافظة إدلب بعد سيطرة قوات النظام على كامل داريا. لم يكن معه مال ليقوم بمشروع يدر عليه ما يكفيه شر العوز. باع إسوارة ذهبية كان قد قدمها هدية لأمه وكانت الأم ما زالت محتفظة بها. يقول: «أبو الخير» لـ«الشرق الأوسط» أمس: «بدايات الثورة الأولى وانتفاض أهالي داريا ضد النظام والمظاهرات السلمية الحاشدة، رد عليها النظام بإطلاق الرصاص وقتل المتظاهرين السلميين واعتقال الجرحى ومنعهم من الوصول للمشافي».
يقولـ«أبو الخير»: «بدأنا بالعمل المسلح ضد ميليشيات النظام وعناصر الأمن ولم نسمح لهم بدخول داريا وقاومناهم بكل قوتنا... تلك القوة التي نملكها مقارنة بعتاد وسلاح نظام الأسد لا تعادل واحدا في المائة، لكن نمتلك العزيمة والإصرار، وكنا نقاتل النظام، ويقف بعضنا إلى جانب بعض وقفة رجل واحد كوننا نحن أبناء داريا، ولم نسمح أبدا بدخول أحد بين صفوفنا من خارج داريا خوفا من الدسائس والاختراقات الأمنية... عانت داريا كثيرا من خلال الحصار الذي استمر لسنوات وسنوات. صمدنا رغم الحصار والجوع والقتل والتدمير».
الأمر الوحيد الذي ساعدهم على الصمود هو «قرب مدينة معضمية الشام إلينا، وكانت المسافة الفاصلة بيننا وبين معضمية الشام نحو 800 متر، كنا نهرب المواد الغذائية والأودية والذخيرة منها إلى داريا».
استطاع النظام فرض هدنة مع أهالي معضمية الشام وتمكن النظام من الاختراق والوصول للطريق الواصلة بين مدينة داريا ومعضمية الشام. ويقول: «حاولنا مرارا وتكرارا كسر الحصار، واستطعنا في بعض الأحيان الوصول لمدينة المعضمية، إلا أن النظام كان يشن حملة عنيفة جدا من أجل إعادة قطع الطريق. عاد الحصار مجددا، وبدأت المؤن تنفد من بيوت الناس، والذخيرة التي لدينا بدأت بالنفاد أيضا».
وأشار إلى أن المعارضة ناشدت «الفصائل في الغوطة وفي درعا وفي جميع محافظات سوريا، لكن لا حياة لمن تنادي، طلبنا التفاوض مع النظام، وبدأت المفاوضات، وطلبنا الخروج لمحافظة درعا، إلا أن النظام رفض هذا المقترح، واتفقنا وقتها على الخروج إلى الشمال السوري؛ إلى محافظة إدلب، بسلاحنا الفردي فقط».
وكان الاتفاق يقضي بالخروج على دفعتين. خرجت الدفعة الأولى باتجاه الشمال إلى إدلب و«أنا بقيت حتى خروج الدفعة الثانية بعد يومين». ويتابع: «خرجت مع الدفعة الثانية، وعبرنا وسط دمشق ونحن نهتف من داخل الباصات وأمام أعين عناصر نظام الأسد. وتوجهت بنا القافلة لرحلة مسير طويلة. لم نستطع خلال تلك الرحلة التوقف ولا على استراحة واحدة، أمضينا ما يقارب 28 ساعة سفر حتى وصلنا نقطة قلعة المضيق؛ أول مدينة بريف حماه الشمالي الغربي».
وتم لاحقاً استقبالهم في إدلب و«قام الأهالي باستقبالنا استقبال الأبطال، وقدموا لنا كل ما يستطيعون. منحونا البيوت للسكن، وتم نقل عائلات بأكملها لبعض المنازل الجاهزة والمفروشة في مدينة إدلب وبعضها في الأرياف»، بحسب «أبو الخير». ويضيف: «مكثت مدة 3 أيام أنا وعائلتي في مدينة إدلب، بعدها انتقلنا للسكن في بيت بالقرب من مدينة معرة النعمان، وأنا أسكن فيه حتى هذه اللحظة... فبعد مرور نحو الشهرين بدأت بالتفكير في العودة لمهنتي الأولى، وقررت افتتاح مشغل لصناعة الحلويات الدمشقية. هنا بدأت بالبحث عن محل وقبو للإيجار، وقد ساعدني أصدقائي الذين تعرفت عليهم مجددا في معرة النعمان، إلى أن وجدت ما أريد. قمت حينذاك بشراء معدات المشغل، وصناعة الحلويات الدمشقية الشهيرة بجميع أنواعها التي لاقت رواجا سريعا في تلك المنطقة».
ونتيجة نجاح محله في معرة النعمان بريف إدلب في صنع الحلويات، قرر «أبو الخير» أن يطلب من «مجموعة من شباب داريا العمل معنا، وافتتحنا فرعا ثانيا والحمد لله كانت انطلاقته مذهلة، حتى إننا افتتحنا أيضا مطعما للمأكولات الدمشقية من أكلة المندي الشهيرة».
حقق «أبو الخير» مكاسب لا بأس بها، مكنته من فرش منزله وتأمين احتياجاته الشخصية، وتأمين جميع المعدات التي تمكنه من افتتاح المحل بشكل أكبر وتلبية طلبات المحلات والبيع بالجمل... «وهذا جعل عدداً كبيراً من أصحاب البيوت القريبة يحددون طلباتهم قبل يوم أو أكثر وفي مواعيد محددة؛ في السهرة أو المناسبات الخاصة».
يختم «أبو الخير» في محله وسط معرة النعمان: «مهما بقينا مهجرين فسنعود من جديد إلى داريا، وسأسكن فوق بيتي المدمر، وسأبني خيمة فوقه... وأكمل بقية حياتي».
«أبو الخير» مقاتل سابق في داريا يعود إلى صنع الحلويات في إدلب
«أبو الخير» مقاتل سابق في داريا يعود إلى صنع الحلويات في إدلب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة