البشرية لا تزال تعاني من أزمة معنى

سارت الأمور عكس ما بشّرت به «حركة الأنوار»

هربرت ماركيوز
هربرت ماركيوز
TT

البشرية لا تزال تعاني من أزمة معنى

هربرت ماركيوز
هربرت ماركيوز

تروج، منذ مطلع القرن العشرين، فكرة مفادها أن الحضارة الحديثة، وإن وفرت رخاءً وازدهاراً لم تعهده البشرية من قبل، فهي تحمل أمراضاً مزمنة: كالتشيوء والاغتراب، وضياع مكانة الفرد، والأخطر من كل ذلك أزمة المعنى، التي ازدادت استفحالاً في القرن الواحد والعشرين. وطبعاً اختلف الباحثون في طريقة تشخيص هذه الأمراض، وفي الحلول المقدمة لها. وهذا ما حاول أن يعالجه هربرت ماركيوز في وقت مبكر.
وماركيوز ينتمي إلى الجيل المؤسس لمدرسة فرانكفورت الألمانية بزعامة مجموعة من الرواد، على رأسهم: ماكس هوركهايمر، ثيودور أدورنو، إريك فروم. وهو الجيل الذي ألقى على عاتقه نقد «عصر الأنوار» بصرخة ترجع مصائب الإنسان المعاصر إلى منظومة التفكير الحداثي القائم على بنية مفاهيمية من قبيل: العقلانية والحرية والتقدم والنظرة العلمية الصارمة بما هي تكميم وقياس، والتي كذبها راهن القرن العشرين، حيث سارت الأمور عكس ما بشرت به «الأنوار» تماماً، لتختفي الحرية ويغيب صوت العقل وينقلب التقدم إلى انحطاط، وقلق على الإنسانية. لقد أصبح الإنسان المعاصر - حسب هذه النظرية النقدية - مسيطَراً عليه وبطريقة سلسة وذكية، خاضعة لنفس منطق العقلنة والترشيد، أي القياس والتكميم، فإذا كانت السيطرة قديماً تتم بوضوح من طرف طاغية أو حاكم مطلق، فيقال إن سلوكه لاعقلاني نابع من الانفعال والوجدان، فإن الزمن المعاصر بتوجهاته الرأسمالية، يخلق تحايلاً يجعل المرء يخال نفسه أنه حر، لكن التأمل العميق يوضح كم أنه مكبل ومقهور بتنظيمات مؤساساتية وبيروقراطية... تأخذ عقله وعواطفه ورغباته... وما وسائل الدعاية والإشهار والإعلام إلا دليل ذلك. فهي تروض الفرد وتطغى عليه بشكل مدروس في ظل حسابات دقيقة، بكلمة واحدة أصبح الاستعباد مقبولاً؛ لأنه يتم باسم العقل، فالنظام الرأسمالي يغري بالاستهلاك ويجعل الكثير من الرغبات في مستوى الحاجات، فيزداد اختناق الفرد وبطواعية، فكأننا بصدد مكر ودهاء للعقل، بحيث يظهر أن الفرد يمارس حريته ويعيش قراراته، لكن هو في حقيقته مجرد ريشة في مهب نظام استهلاكي شمولي أفقده كل أبعاده، وجعل منه ما سماه ماركيوز: «الإنسان ذو البعد الواحد». وللذكر، هذا هو عنوان لكتاب من كتبه، الذي ترجمه للعربية الدكتور جورج طرابيشي. فالإنسان عنده تم ابتلاعه بأكمله في عملية الإنتاج، وأصبح مجرد ترس داخل آلة. فتشكل مرض العصر، أي تم خلق نموذج من البشر يعيش متلهفاً إلى المزيد من الإنتاجية، لاهثاً وراء الكشوف والاختراعات التكنولوجية المتجددة أبداً، ومن ثم يضع الوسائل موضع الغايات فيدخل في فقدان المعنى؛ وهو ما يؤدي إلى التعاسة والقلق الدائمين.
وإذا كانت حضارة الإنسان المعاصر تقوم عند ماركيوز على العقلنة والترشيد المفرط، بحيث أصبحت الحياة مجرد خطة وتصميم وحساب، وكأن هناك قوة غامضة تدفع الإنسان دون قرار منه، وتنفلت من قبضته بشكل مخيف، فما الحل الذي يقترحه ماركيوز للخروج من هذه الحالة؟
طبعاً، لا يدعو ماركيوز إلى موقف نكوصي، بالتخلي عن مكتسبات العصر، والعودة بحنين إلى زمن الارتماء في حضن الطبيعة ببراءة، بل يلح على أن هذه الحضارة بتقنياتها الهائلة قد مكّنت الإنسان من التخلص من قهر الطبيعة وقهر العمل؛ وهو ما سيمكّن الإنسان من الاستمتاع بالحياة واستغلال كوامنه الحيوية، وطاقاته الغريزية المتدفقة، والتفرغ للهو واللعب، وهذه هي ملامح «حضارة الإيروس». فالإنسان المرتقب في هذه الحضارة، ينبغي له أن يتجاوز منطق العمل الشاق الذي يقمع غرائز الإنسان، لينزع نحو الحب الذي تجاهلته حضارة المجتمع الصناعي وابتذلته ابتذالاً.
لقد كان لزاماً على البشرية أن تمر بمرحلة طويلة تقمع فيها الإيروس (الحب واللذة) لتصل إلى التحضر المطلوب، فلا حضارة دون كبت، وهي الفكرة التي كان يعلنها مراراً المحلل النفسي فرويد؛ إذ لا وجود عنده لمجتمع دون حد أدنى من التنازل عن الرغبات؛ وهو الأمر الذي نظر إليه ماركيوز على أنه سيتم تجاوزه بسرعة، بفضل تنامي حضارة التقنية المعاصرة والمتسارعة بإفراط، التي ستحقق حياة مستقبلية «أوتوماتيكية» تخفف عبء العمل عن الإنسان، من جهة وتوفر الوفرة في الإنتاج؛ وهو ما سيعطي للبشرية فرصة، لطالما بحثت عنها، وهي التفرغ الهادئ والمطمئن لتحقيق طبيعته الحيوية، أو لنقل إنه ولأول مرة سنصنع حضارة لا تقوم على الكبت، إنها حضارة مطلقة. حيث سيتخلى الإنسان عن منطق البقاء الصرف نحو مراتب عليا من البقاء ملؤها الرغبات الحقيقية، والحب واللذة والجمال، وخصوصاً السلام.
لقد حلم ماركيوز بأطروحته هذه بمدينة فاضلة «يوتوبيا» مكتملة العناصر، حيث بها: العمل المريح والعقل المنظم، لكن دون إهمال الإيروس، أي الحب والسلام. فالعقل في الزمن الحديث كان مفيداً جداً في خلق السيادة على الطبيعة والتحكم فيها لصالح الإنسان، وتنظيم شؤون حياته، لكن هذا العقل قد تطرف إلى حد أنه أصبح ضد المراد منه؛ لهذا وجب استعادة التوازن من جديد، وذلك بمحاولة ضخ جرعات كافية من الإيروس تخلق إنساناً متعدد الجوانب. فإذا كان فرويد يلح على أن الإيروس والحضارة لا يلتقيان، فإن موقف ماركيوز يسعى إلى جمعهما معاً.
يفصلنا عن موت ماركيوز أربعة عقود، وإذا ما افترضنا جدلاً، أنه ما زال حياً في وقتنا الراهن، فهل كان سيحتفظ بنفس أطروحته؟ وبخاصة أن عصر الصناعة قد تم تجاوزه إلى عصر الغلاف المعلوماتي، حيث انتشار التكنولوجيا إلى أرقى مستوياتها. إننا لا ننكر أن الثورة المعلوماتية والتكنولوجية الهائلة قد حققت للإنسان قدراً من الترف، وخففت عنه أعباء العمل الشاق، وسمحت له بالانكباب على شهواته ورغباته وطاقاته الحيوية، وما المطالب الحقوقية المفرطة، حد الشذوذ، إلا شاهد ذلك. لكن هل حقق الإنسان سعادته؟ وهل وصل إلى ما يسميه ماركيوز «الحياة المسالمة»؟ طبعاً لا؛ فقد ازداد موت المعنى وضاعت بوصلته واستفحل تعبه النفسي؛ مما يستدعي لربما حضارة الروح عوضاً عن حضارة الإيروس.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
TT

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وما لهما وما عليهما... في زمن الروبوتات المؤنسنة والعقول الذكية الاصطناعية وما لها وما عليها، تحدُث من حين لآخر هزات عنيفة تحلج بعض العقول الهانئة، ذات القناعات القانعة، فتستيقظ بغتة على أسئلة طارئة. مدوِّخة بلْ مكهرِبة.

- ما هذا الذي يحدث؟

تماماً كما حدث في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر، حدث ذلك منذ طبعتين في الصالون الدولي للكتاب في باريس، إذ حضر كتاب كبار ذوو شهرة عالمية، كل واحد منهم يركب أعلى ما في خيله، وحطّت رحالَها دورُ نشرٍ لا يشقّ لها غبار. لكن المنظمين والمشاركين والملاحظين والمراقبين والذين يعجبهم العجب، والذين لا يعجبهم العجب، على حين غرة وفي غفلة من أمرهم، فوجئوا بآلاف القادمين من الزوار شباباً وبالغين، كلهم يتجهون صوب طاولة، تجلس خلفها كاتبة في العشرينات، لا تعرفها السجلات العتيقة للجوائز، ولا مصاطب نقاش المؤلفين في الجامعات، أو في القنوات الشهيرة المرئية منها والمسموعة. الكاتبة تلك شابة جزائرية تفضّل أن تظلَّ حياتها الخاصة في الظِّل، اسمها سارة ريفنس، وتُعد مبيعات نسخ رواياتها بعشرات الملايين، أما عدد قرائها فبعدد كتّاب العالم أجمعين.

وكالعادة، وكما حدث منذ سنوات مع الروائية الجزائرية الشابة سارة ريفنس، أثار القدوم الضاج للكاتب السعودي أسامة مسلم ذهول جل المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي، حين حضر إلى المعرض الدولي للكتاب في الجزائر 2024. وقبله معرض الكتاب بالمغرب ومعارض كتب عربية أخرى، وفاجأ المنظمين والزوار والكتاب فيضانُ نهر هادر من الجموع الغفيرة الشابة من «قرائه وقارئاته». اكتظ بهم المكان. جاءوا من العاصمة ومن مدن أخرى أبعد. أتوا خصيصاً للقائه هو... هو وحده من بين الكتاب الآخرين الكثر المدعوين للمعرض، الذين يجلسون خلف طاولاتهم أمام مؤلفاتهم، في انتظار أصدقاء ومعارف وربما قراء، للتوقيع لهم بقلم سائل براق حبرُه، بسعادة وتأنٍّ وتؤدة. بخط جميل مستقيم، وجمل مجنّحة منتقاة من تلافيف الذاكرة، ومما تحفظه من شذرات ذهبية لجبران خليل جبران، أو المنفلوطي أو بودلير، أو كلمة مستقاة من بيت جميل من المعلقات السبع، ظلّ عالقاً تحت اللسان منذ قرون.

لا لا... إنهم جاءوا من أجله هو... لم تأتِ تلك الجموع الغفيرة من أجل أحد منهم، بل ربما لم ترَ أحداً منهم، وأكاد أجزم أنها لم تتعرف على أحد منهم... تلك الجموع الشابة التي ملأت على حين غرة أجنحة المعرض، ومسالكَه، وسلالمَه، وبواباتِه، ومدارجَه، واكتظت بهم مساحاته الخارجية، وامتدت حتى مداخله البعيدة الشاسعة. يتدافعون ويهتفون باسم كاتبهم ومعشوقهم، هتافات مضفورة بصرخات الفرح:

- أووو... أووو... أووو أسامة...!!

يحلمون بالظفر برؤيته أخيراً عن قرب، وبلقائه هذه المرة بلحمه وعظمه، وليس شبحاً وصورة وصوتاً وإشارات خلف الشاشات الباردة لأجهزتهم الإلكترونية. يأملون بتوقيعه على الصفحة الأولى من إحدى رواياته، ولتكن روايته «خوف» مثلاً.

هكذا إذن... الأدبُ بدوْره، أضحى يرفض بيت الطاعة، بل يهدمه ويِؤسس قلعته الخاصة، التي تتماهى مع هندسة ذائقة العصر الجديدة، القابلة للنقاش. إنها الإشارة مرة أخرى ومنذ ظهور الكائن البشري من نحو ثلاثة مليارات سنة، على أن الزمن يعدو بالبشر بسرعة مدوخة، بينما هم يشاهدون - بأسف غالباً - حتف الأشياء التي تعوّدوا عليها، وهي تتلاشى نحو الخلف.

من البديهي أن الكتابة على الصخور لم تعد تستهوي أحداً منذ أمد بعيد، سوى علماء الأركيولوجيا الذين لهم الصبر والأناة، وقدرة السِّحر على إنطاقها، وقد أثبتوا ذلك بمنحنا نص جلجامش، أول نص بشري كتب على الأرض، وأما نظام الكتابة فقد تجاوز معطى الشفهية إلى الطباعة، ثم إلى الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي و...!

على ذِكر الذكاء، فليس من الذكاء ولا الفطنة التغاضي عن الواقع المستجد، أو التعنت أمام فكرة أن العالم في تغير مدوّ وسريع، وقد مسّ سحره كل جوانبه ومنها سوق الأدب، ولا بد من الاعتراف أن المنتِج للأدب كما المستهلك له، لم يعودا خاضعين في العرض والطلب لشروط أسواقه القديمة، وإن لم تنقرض جميعها، في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتوفر الـ«بلاتفورم» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك» وهاشتاغ وما جاورها.

لكن الأمر الذي لا بد من توضيحه والتأكيد عليه، أن دمغة الأدب الجيد وسمة خلود الإبداع، لا تكْمنا دوماً وبالضرورة في انتشاره السريع، مثل النار في الهشيم، وقت صدوره مباشرة، وإلا لما امتد شغف القراء عبر العالم، بالبحث عن روايات وملاحم وقصص عبرت الأزمنة، بينما لم تحظَ في وقتها باهتمام كبير، والأمثلة على ذلك عديدة ومثيرة للتساؤل. أسامة مسلم، وسارة ريفنس وآخرون، كتّاب بوهج ونفَس جديدين، على علاقة دائمة ووطيدة وحميمية ومباشرة مع قرائهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فلا يحتاجون إلى وسيط. مؤلفون وأدباء شباب كثر عبر العالم، من فرنسا وأميركا وإنجلترا وكندا وغيرها مثل Mélissa Da Costa - Guillaume Musso - Laura Swan - Morgane Moncomble - Collen Hoover - Ana Huang وآخرين وأخريات ينتمون إلى عالم رقمي، تسيطر فيه عناصر جديدة تشكل صلصال الكتابة وجسر الشهرة... لم يمروا كما مر الذين من قبلهم على معابر الأدب، وتراتبية مدارسه المختلفة التي وسمت مراحل أدبية متوهجة سابقة لهم، ولم يهتموا كثيراً بالنّسَب الجيني لأجدادهم من الروائيين من القارات الخمس بمختلف لغاتهم، ولم يتخذوا منهم ملهمين، ولا مِن مقامهم هوى. كتابٌ شباب، أضحت مبيعات رواياتهم تتصدر أرقام السوق، فتسجل عشرات الملايين من النسخ، وتجتاح الترجمات عشرات اللغات العالمية، ودون سعي منهم ترصد ذلك متابعات صحافية وإعلامية جادة، وتدبج عنهم مقالات على صفحات أكبر الجرائد والمجلات العالمية، وتوجه لهم دعوات إلى معارض الكتب الدولية. كتاب لم يلجئوا في بداية طريقهم ومغامرتهم الإبداعية إلى دور النشر، كما فعلت الأجيال السابقة من الأدباء، بل إن دور النشر الكبيرة الشهيرة لجأت بنفسها إليهم، طالبة منهم نشر أعمالهم في طباعة ورقية، بعد أن تحقق نجاحهم من خلال منصات النشر العالمية وانجذب إليهم ملايين القراء. فرص سانحة في سياق طبيعي يتماهى مع أدوات العصر مثل: Wattpad - After Dark - nouvelle app - Creative Commons وغيرها.

ولأن التفاؤل الفكري يرى فرصة في كل عقبة، وليس في كل فرصة عقبة كما جاء على لسان وينستون تشرشل، ولأن الوعي بالحداثة يأتي متأخراً زمنياً، فإن ما يحدثه الكتّاب الروائيون الشباب Bests eller البستسيللر في العالم، من هزات مؤْذنة بالتغيير، ومن توهج استثنائي في عالم الكتابة، ومن حضور مُربك في معارض الكتاب، تجعلنا نطرح السؤال الوجودي التالي: هل ستتغير شروط الكتابة وتتبدل مقاييسها التقليدية، وهل ستنتفي معارض الكتاب أم تتغير. وكيف ستكون عليه إذن في الأزمنة المقبلة؟