ظهر السبت الماضي بدد سكون عزلتي هاتف من ابني ينبهني إلى النبأ «مات مكاوي سعيد». احتاج الأمر وقتاً للتوازن، قبل أن ينهمر الحزن.
لست من أصدقائه المقربين، لا لسبب إلا لأنه ابن الشمس يتنقل مع حركتها على رصيف المقهى في الشتاء، وعكسها في الصيف، وأنا ابن الظل، أرتاد المقاهي قليلاً. ولكن كان دائماً هناك موعد قادم مع مكاوي، عقب كلام لم يكتمل، والود العميق كامن، في أمان.
ربما لم يعد من الحكمة الرهان على الآتي، وربما لهذا السبب كانت الصدمة في رحيل مكاوي أسبق من الحزن. وأظن أنها ليست صدمة كل أصدقاء مكاوي وكل قرائه فحسب، بل كذلك صدمة عدد كبير من الناس يحبونه دون أن يقرأوا له حرفاً، من ندل المقهى وباعة الصحف، ومتسولي وسط البلد. مصدر الصدمة ليس طيبة مكاوي ونبله الهادئ؛ وهو طيب ونبيل، وليس لأن مسيرة أدبية انقطعت قبل أوانها؛ فأسباب كهذه تولد الحزن الذي أمطرته سحابة الصدمة لا شك، لكن الصدمة مصدرها المباغتة. كأن كل من عرفوا مكاوي يكتشفون الموت أو لكأنهم يشعرون أنه غافلهم وغيَّر طبائعه.
الموت لا يغير طبائعه بطبيعة الحال، لكن الذي تغير هو مكاوي، أو صورة مكاوي لدى كل من عرفوه، ورأوه كالخالد على مقهى «زهرة البستان». في أي وقت يمرون فيه بالمقهى على مدى عقود يجدونه، فتصوروا أن الموت قدر الآخرين دون هذا الرجل الذي يشبه غاندي في مظهره وفي جوهر كفاحه الناعم العنيد.
ربما تبادر إلى أذهان من يرون هذه الحياة شبه الكاملة في المقهى أن يسألوا: متى يكتب مكاوي كتبه التي تصدر تباعاً؟!
هو في الحقيقة يكتبها في هذا المكان الصاخب ذاته. بوسعه أن يجلس صامتاً يتأمل التمثال الذي يريد أن ينحته من داخل كتلة الحجر، يتخير الزوايا التي سيبدأ منها الحفر، وعندما ينصرف للكتابة لا يكون عليه إلا أن يدون ما رأى وما خططه جيداً في أوقات المقهى التي يتصورها الآخرون فراغاً.
استطاع أن يجعل من وجوده في المقهى حياة كاملة، لا ينصرف منها إلا للقيلولة التي لا يغير موعدها. لم يحدث مرة أن تخلى عن لطفه مع شخص يقتحم أوقات عزلته الروحية وسط هذا الزحام، يستقبله باشاً، لكنه يظل في عزلته، يرد باقتضاب حيي ويرتد إلى عزلته بين رد ورد.
قبل أن يصبح من علامات وسط القاهرة، يعرف مكاوي المكان ككف يده، يعرف تاريخه غير المكتوب، وتولى مهمة التدوين، سواء في الرواية أو في كتاب البورتريه «مقتنيات وسط البلد» الذي يؤرخ فيه للحياة الأدبية والسياسية لوسط القاهرة؛ بكل من فيها من نجوم وضحايا، وبكل لحظات الانتصارات الوهمية ولحظات الانكسار الحقيقي، بأسلوب لا يخلو من السخرية.
لا يوجد فن في الكتابة لم يجربه مكاوي سعيد. نشر ديوان شعر بينما كان لا يزال طالباً في الجامعة، وكتب القصص للأطفال والكبار، والسيناريو التلفزيوني، والبورتريه، والرواية بالطبع، وهذه هي المحطة الفنية التي وسعت شهرة مكاوي، خصوصاً مع رواية «تغريدة البجعة». كان حدسه ورغبته الخاصة يقودان خطاه إلى كل فن من هذه الفنون؛ فيشرع في العمل مثل حرفي يعرف بالسليقة ما يصنع.
في علاقته مع قرائه لم يبد أن مكاوي بحاجة إلى النقد كوسيط، فالعلاقة أكثر قرباً وبساطة من هذا. هو موجود بين عدد كبير من قرائه؛ فقراء الأدب عددهم محدود إن لم تأخذنا الأوهام بعيداً، ثم جاء عليه زمن التواصل الاجتماعي فأحبه، وأصبح على معرفة شخصية بمعظم قرائه الذين يتواصلون معه على صفحته بـ«فيسبوك»، وجميعهم يعرفون عن كتابه القادم «القاهرة وما فيها» الذي كان يراجع بروفته النهائية، وسيكون لديهم ما يقولونه له بعد القراءة.
لكن الموت لم يقطع الحوار بين مكاوي ومحبيه حول الكتاب الجديد فحسب؛ فكل فتاة لديها كلمة حب لم تقلها بعد للصامت المتأمل، وكل شاب لديه حكاية أو مشورة معلقة.
مكاوي سعيد الموت لا يغير طبائعه
مكاوي سعيد الموت لا يغير طبائعه
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة