اليورو يكافح للاقتراب من «جنة الاستثمارات» الآمنة

العملة الأوروبية تنهي العام في حال أفضل بكثير من بدايته

الغيوم التي اجتمعت في سماء اليورو مطلع هذا العام سرعان ما تبددت (رويترز)
الغيوم التي اجتمعت في سماء اليورو مطلع هذا العام سرعان ما تبددت (رويترز)
TT

اليورو يكافح للاقتراب من «جنة الاستثمارات» الآمنة

الغيوم التي اجتمعت في سماء اليورو مطلع هذا العام سرعان ما تبددت (رويترز)
الغيوم التي اجتمعت في سماء اليورو مطلع هذا العام سرعان ما تبددت (رويترز)

منذ بدء تداول عملة الاتحاد الأوروبي (اليورو)، والمراهنات على بقائها على قيد الحياة لا تنقطع، ويقتنص الكارهون لتلك العملة كل مناسبة من أجل التشكيك في قوتها واستعراض مخاطر التعامل بها.
وآخر جدل حول اليورو كان في شهر فبراير (شباط) الماضي، أي قبل فترة وجيزة من خوض معارك الانتخابات النيابية والرئاسية في كل من فرنسا وهولندا وألمانيا. حيث رأى تيد مالوك، أحد كبار المحللين الماليين الأميركيين، أن التخلص من اليورو أضحى أولوية غير قابلة للنقاش لدى المستثمرين الدوليين، لأن هذه العملة الأوروبية الموحدة دخلت نفق الأزمة الحادة التي قد تؤول إلى فنائها في مدة أقصاها عام.
تحليل تيد مالوك عن اليورو لم يكن منزهاً عن المصالح الشخصية، فقد كان يبحث آنذاك عن انتزاع منصب رفيع المستوى في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي ينظر هو بدوره باشمئزاز إلى النقد الأوروبي تاريخاً وتفصيلاً.
ومع ذلك، لم تكن أحكام هذا الخبير الأميركي بحق اليورو يومها بعيدة عن مسارها المنطقي. فالجو الذي يسود الأوروبيين كان مشحوناً بالحذر نظراً لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) واقتراب مرشحة اليمين المتطرف (مارين لوبان) من منصب رئيس الجمهورية في فرنسا، والتي كانت تهدد بخروج بلادها من منطقة اليورو في حال فوزها.
لكن الغيوم التي اجتمعت في سماء اليورو في مطلع هذا العام سرعان ما تبددت، فكل المؤشرات تدل على أن اقتصاد منطقة اليورو قد تخطى المشكلات التي عاناها، حتى مشكلة الاقتراع الشعبي من أجل استقلال إقليم كاتالونيا، بل وينتعش هذا الاقتصاد بصورة تمهد طريقاً آمنة للتداول على عملة القارة.
بل إن تحسن أوضاع الأوروبيين شجع قطاعاً من المستثمرين الدوليين في التعامل مع عملة اليورو كاستثمار للتحوط من المخاطر العاتية في الأسواق المالية، وإن كانت لم تستطع بعد أن تنافس عملات الذهب والفرنك السويسري في هذا الدور. وفي سياق متصل، يقدم الخبير الألماني رودولف مولر في تحليله لأسواق المال دليلاً واضحاً على صحة اليورو اليوم. فعلى مستوى أسواق الأسهم الأوروبية، يعاني مؤشر «يوروستوكس» أحياناً تراجعاً في قيمته قد تصل إلى 5 في المائة، لكن رغم ذلك ما زال اليورو صامداً لحد كبير في وجه الدولار الأميركي.
وإضافة إلى هذا التحليل، يقول الخبير الألماني جوزيف سيرسال، إن اليورو بات إلى جانب الين الياباني في مجموعة معروفة باسم جنة الأصول الآمنة.
وبحسب تقديره أيضاً، فإن أداء اليورو يتفوق في بعض الأحيان على أداء الين الياباني في الأسواق الدولية. ما يعني أن المستثمرين الدوليين يحاولون استمداد قوتهم من اقتصاد منطقة اليورو لدى مرورهم بمطبات عدم الاستقرار المالي والاقتصادي معاً.
ولا شك في أن اليورو يحتاج إلى وقت طويل كي يصبح ملجأ أمان، كما الفرنك السويسري، بيد أن صموده وقوته أمام الدولار الأميركي ينال إعجاب الأميركيين والأوروبيين معاً، ما يجعله مشابهاً للين الياباني الذي يزداد قوة عندما يبدأ المستثمرون الدوليون البحث عن ملجأ مالي يحميهم من تقلبات الأسواق المالية.
ويضيف سيرسال أن «اليابان ودول منطقة اليورو تتمتع اليوم بعامل مشترك، ألا وهو اقتصاد يحول دون اعتماد رجال أعمال هاتين المنطقتين على تهريب أموالهم إلى الخارج... بالطبع يحتاج اليورو لفترة زمنية لا يمكن التنبؤ بها ليصبح ملجأ أمان بامتياز كعملة صعبة، لكن تبوأه منصباً مالياً رفيعاً يجعله عملة تمويلية لتجارة كاري تراينغ، أي المتاجرة من خلال فروق سعر الفائدة التي تعتمدها المصارف المركزية، وهذا يمهد أمامه الطريق نحو مستقبل واعد جداً».



ارتفاع حاد لسندات لبنان الدولارية مع تفاؤل المستثمرين بالإصلاحات

الرئيس اللبناني المنتخب حديثاً جوزيف عون يلقي خطاباً في مبنى البرلمان ببيروت (أ.ف.ب)
الرئيس اللبناني المنتخب حديثاً جوزيف عون يلقي خطاباً في مبنى البرلمان ببيروت (أ.ف.ب)
TT

ارتفاع حاد لسندات لبنان الدولارية مع تفاؤل المستثمرين بالإصلاحات

الرئيس اللبناني المنتخب حديثاً جوزيف عون يلقي خطاباً في مبنى البرلمان ببيروت (أ.ف.ب)
الرئيس اللبناني المنتخب حديثاً جوزيف عون يلقي خطاباً في مبنى البرلمان ببيروت (أ.ف.ب)

ما إن انتخب مجلس النواب اللبناني العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد، بعد أكثر من عامين على الشغور الرئاسي، حتى عززت سندات لبنان الدولارية مكاسبها مسجلةً ارتفاعاً حاداً وسط تفاؤل بإجراء إصلاحات في بلد مزقته الحروب، وأنهكت اقتصاده الذي تناوله عون في خطابه بعد إدلائه بالقسم، حين شدّد على تمسكه الثابت بمبادئ الاقتصاد الحر.

وقد شهدت سندات لبنان الدولية بآجالها كافة، الخميس، ارتفاعاً إلى أكثر من 16 سنتاً للدولار، من حوالي 13 سنتاً يوم الأربعاء، وذلك بعدما كانت وصلت إلى أدنى مستوياتها عند 6.25 سنت في عام 2022، رغم أنها لا تزال أدنى بكثير من أسعار سندات دول أخرى تخلفت عن سداد التزاماتها في العام نفسه.

جوزيف عون يسير بعد انتخابه رئيساً للبنان في مبنى البرلمان ببيروت (رويترز)

وكان لبنان أعلن التخلف عن سداد ديونه في ربيع عام 2020 بعد أن سقط النظام المالي في البلاد في أزمة اقتصادية عميقة في 2019.

وتأتي هذه الزيادة في قيمة السندات في وقت بالغ الحساسية، حيث لا يزال الاقتصاد اللبناني يترنح تحت وطأة تداعيات الانهيار المالي المدمر الذي بدأ في 2019، إذ يواجه أزمة مصرفية ونقدية وسياسية غير مسبوقة استمرت أكثر من ثلاث سنوات، أثرت بشكل عميق على استقراره النقدي، مما جعله واحداً من أكثر البلدان عُرضة للأزمات المالية في المنطقة. ومنذ بداية هذه الأزمة، شهد الاقتصاد انكماشاً حاداً ناهز 40 في المائة، مما أدى إلى تدهور ملحوظ في جميع القطاعات الاقتصادية. كما فقدت الليرة اللبنانية ما يقارب 98 في المائة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي، مما أدى إلى تراجع القدرة الشرائية للمواطنين وزيادة معاناتهم. في الوقت نفسه، سجل التضخم معدلات غير مسبوقة، مما زاد من الأعباء المالية على الأسر. وفي الوقت ذاته، خسر المصرف المركزي اللبناني ثلثي احتياطياته من النقد الأجنبي، مما أضعف قدرته على دعم العملة المحلية وضمان استقرارها.

ويرى مراقبون أن الارتفاع القوي لسندات ما يعرف باليوروبوندز ينبع من التفاؤل بأن انتخاب عون رئيساً جديداً سيفتح الباب على تنفيذ إصلاحات اقتصادية ومالية وهيكلية مطلوبة بشدة. ويعدون أن هذا من شأنه أن يمهد الطريق لإعادة هيكلة السندات الدولية في نهاية المطاف.

لكن التحدي هو في اختيار رئيس للوزراء، والإسراع في تشكيل حكومة تعمل على تمرير الإصلاحات بالتعاون مع مجلس النواب.

وقال سورين ميرش، مدير المحافظ في «دانسكي بنك» في كوبنهاغن الذي بدأ بشراء السندات اللبنانية في سبتمبر (أيلول): «إذا تمكن لبنان من انتخاب رئيس جديد، فأتوقع أن ترتفع السندات. فانتخاب رئيس يعني على الأرجح تعيين رئيس وزراء، وتشكيل حكومة فعّالة بدلاً من تلك القائمة بالوكالة»، وفق «بلومبرغ».

وتوازياً، شهدت الأسواق اللبنانية حالة من التهافت على شراء الليرة اللبنانية، حيث عدّ كثير من اللبنانيين أن انتخاب عون قد يُشكّل بداية مرحلة جديدة من الاستقرار السياسي، ما قد ينعكس إيجاباً على العملة المحلية. ومع الآمال التي علّقها البعض على تحسن الوضع الاقتصادي، يتوقع كثيرون أن تشهد الليرة تحسناً مقابل الدولار في ظل التفاؤل الذي صاحب هذه الخطوة السياسية المهمة.

الاقتصاد في خطاب عون

في خطابه الأول بعد انتخابه رئيساً، شدّد عون على تمسكه الثابت بمبادئ الاقتصاد الحر، مؤكداً على أهمية بناء قطاع مصرفي يتمتع بالاستقلالية التامة، بحيث لا يكون الحاكم فيه سوى القوانين. كما بعث برسالة واضحة ومباشرة إلى المواطنين والمودعين، مؤكداً أن حماية أموالهم ستظل على رأس أولوياته، معلناً أنه لن يتهاون في هذا الملف الذي يمثل تحدياً كبيراً.

أعضاء من الجيش اللبناني يقفون خارج فرع «بنك بلوم» في بيروت (رويترز)

وأكد عزمه على بناء علاقات قوية مع الدول العربية، التي تُعد شريكاً رئيساً في إعادة الإعمار، ودعم لبنان اقتصادياً، لا سيما وأن تعزيز هذه العلاقات سيسهم في الحصول على الدعم المالي العربي، وتحفيز النمو من خلال جذب الاستثمارات، وفتح قنوات التعاون مع دول دعمت لبنان في فترات سابقة.

تحديات

إلا أن تحديات كبيرة تواجه الرئيس. فهل سيتمكن عون من تحقيق الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة لانتشال لبنان من أزمته الراهنة وتحقيق الاستقرار المالي؟

يتصدر ملف الإصلاحات الاقتصادية أولويات الاستحقاقات الوطنية في لبنان، ويُعد البوابة الأساسية لاستعادة الاستقرار المالي والانطلاق نحو تعافي الاقتصاد المترنح. وتتجاوز أهمية هذه الإصلاحات تحسين الوضع الداخلي، فهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة إعادة الإعمار والحصول على الدعم المالي. وفي هذا السياق، يُتوقع أن يُعاد إحياء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بهدف التوصل إلى اتفاق ينص على تأمين الدعم المالي مقابل التزام الحكومة بحزمة إصلاحات هيكلية ومالية تشمل تحسين إدارة القطاع العام، ومكافحة الفساد، وتحرير الاقتصاد من القيود التي تعرقل نموه. وتُعد هذه الإصلاحات حجر الزاوية في عملية إنقاذ لبنان، حيث تشكل الأساس للحصول على الدعم الدولي بشتى أنواعه.

وفي ظل استمرار لبنان في معركته ضد الدين العام الهائل الذي بلغ نحو 140 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، سيواجه الرئيس الجديد مهمة شاقة تتمثل في إرساء الاستقرار المالي الذي من شأنه أن يعزز الثقة المتجددة في النظام الاقتصادي اللبناني، بالإضافة إلى إعادة هيكلة الديْن العام، وبدء مفاوضات جادة مع الدائنين.

كذلك ستتجه الأنظار إلى آفاق جديدة في إدارة الاقتصاد اللبناني، لا سيما فيما يتعلق بإعادة استقرار سعر صرف الليرة، التي سجلت اليوم 89 ألف ليرة مقابل دولار واحد، بعد أن كانت عند 1500 ليرة في عام 2019. وتبدي الأوساط الاقتصادية أملاً كبيراً في تحسن الوضع المالي بفضل السياسات النقدية الجديدة التي سيقودها حاكم أصيل لمصرف لبنان. ومن هذا المنطلق، يعد انتخاب عون خطوة محورية نحو تحقيق بيئة سياسية أكثر استقراراً، وهو ما يسهم في تعزيز الثقة في النظام النقدي اللبناني المتأزم.

علاوة على ذلك، تقع على الحكومة المقبلة سياسات مالية تهدف إلى تقليص العجز في الموازنة العامة من خلال تحسين كفاءة الإنفاق الحكومي، وزيادة الإيرادات المحلية. ويُعد التركيز على مكافحة الفساد والتهرب الضريبي من بين الأولويات الرئيسة التي يجب أن تسعى الحكومة إلى تحقيقها في الفترة المقبلة، في خطوة تهدف إلى استعادة الثقة بالمؤسسات الحكومية وتحقيق الشفافية المالية، خاصة وأن مسح البنك الدولي السنوي الأخير عن الحوكمة والإدارة الرشيدة لعام 2024 صنف لبنان في المرتبة 200 عالمياً من أصل 213 دولة، والمرتبة الـ16 بين 20 دولة عربية من حيث فاعلية الحكومة.

إضافة إلى هذه التحديات الاقتصادية العميقة، يواجه عون أيضاً صعوبة في تعزيز البنية التحتية المتدهورة للبلاد، مثل قطاع الكهرباء الذي يُعد من العوامل الأساسية التي تثقل كاهل الدين العام (حوالي 45 مليار دولار من إجمالي قيمة الدين العام)، وتستهلك جزءاً كبيراً من الموارد العامة دون أن تقدم تحسينات ملموسة في الخدمات المقدمة للمواطنين.

احتفالات شعبية بعد انتخاب قائد الجيش اللبناني جوزيف عون رئيساً للبنان (رويترز)

إن لبنان اليوم يقف أمام اختبار اقتصادي بالغ الأهمية في تاريخه الحديث، حيث تأمل البلاد في التغلب على أزماتها الاقتصادية الحادة، مدعومةً بدعم عربي ودولي حيوي يسهم في تحقيق الاستقرار وإعادة البناء.