محفزات الثقافة وكوابحها

العمل الأدبي بضاعة متداولة في نظام يحكم إنتاج وتوزيع أشياء أخرى

د. سعد البازعي - ستيفن غرينبلات - إدوارد تيلور
د. سعد البازعي - ستيفن غرينبلات - إدوارد تيلور
TT

محفزات الثقافة وكوابحها

د. سعد البازعي - ستيفن غرينبلات - إدوارد تيلور
د. سعد البازعي - ستيفن غرينبلات - إدوارد تيلور

تعمل الثقافات، كما يقول الأنثروبولوجيون، ضمن نظام للحوافز والكوابح التي تشجع أعمالاً وتمنع أخرى، تحفز وتقيد، تكافئ وتعاقب. والجوائز، على اختلافها شكلاً وقيمة، لا يمكن فهمها إلا في ذلك السياق الذي تعرفه الثقافات جميعها. فالتصفيق مكافأة، والثناء مكافأة، وكذلك هو المال والميدالية والوسام، مثلما أن منعها عند القيام بعمل أو التعبير عن رأي أو فكرة نوع من العقوبة أو الكبح. يتلقى الإنسان ذلك منذ ولادته وحتى مماته. كلنا نكافأ حيناً ونعاقب حيناً، لكن بأقدار وألوان تتفاوت بتفاوت المكان والزمان وطبيعة العمل.
ألفتنا لهذا الوضع تجعله أقرب إلى اللامفكر فيه أو المنسي، نتذكره حين يبهج أو يزعج حسب وقوعه وحسب حجم أو نوع ذلك الوقوع. لذلك كانت دهشتي بالقدر الذي كسر تلك الألفة حين أبلغت بحصولي على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب التي خصصت هذا العام للنقد الأدبي. كأن نظام الحوافز والكوابح الذي يتحدث عنه دارسو الثقافات غير موجود، أي كأنني لم أكن يوماً واقعاً ضمن ذلك النظام السائد الذي يسيّر الثقافات ويدفع عجلة الإنتاج على نحو ما. ولا شك أن حجم الجائزة كان مبرراً كافياً لحجم الدهشة، وكذلك حجم التهاني التي انهالت عليّ، والمطالبة الكثيفة من الإعلام بأن أشرح شعوري تجاه الفوز بها، الأمر الذي يحدث لكل من فاز بشيء من هذا القبيل. ولم يكن من قبيل المجاملة مطلقاً حين علقت على ذلك السيل من التهاني بأن ما حملته من صادق المشاعر هو بحد ذاته جائزة كبرى، لا سيما أن كثيراً منها جاء من أناس لا أعرفهم شخصياً، فلم تكن المجاملة أو أداء الواجب هاجساً من هواجس تهنئتهم.
لقد كان من المصادفات أن تأتي الجائزة أثناء مناقشتي مع طلابي وطالباتي في مرحلة الماجستير في الأدب الإنجليزي بجامعة الملك سعود منهجاً في النقد الأدبي يعرف بـ«التاريخانية الجديدة»، دعا إليه عدد من النقاد الأميركيين في ثمانينات القرن الماضي بقيادة ستيفن غرينبلات، الأستاذ بجامعة هارفارد، والمتخصص الشهير في عصر النهضة الأوروبي، أدب شكسبير بشكل خاص. وكان مما تداولناه في النقاش مفهوم الحوافز والكوابح بوصفها محركات للثقافة ذكرها غرينبلات في مقالة له حول مفهوم «الثقافة»، اقتبس في أولها كلاماً للأنثروبولوجي الإنجليزي إدوارد تيلور، يتضمن تعريفاً شهيراً للثقافة بوصفها شاملة لما ينتجه الإنسان ويتأثر به من معتقدات وأفكار وأنظمة إلى غير ذلك. لكن التاريخانيين الجدد يتعاملون مع الثقافة من زاوية أكثر تخصيصاً، بحيث تتحول إلى نظام من التبادلات يشبه ما يحدث في الاقتصاد، ويرون أن النظر من تلك الزاوية يفضي إلى فهم أفضل، أعمق وأدق، لوضع الأعمال الأدبية: ظروف إنتاجها، وكيفية تلقيها، وأساليب رواجها. فالكاتب بوصفه عضواً في المجتمع مضطر للعمل ضمن ضوابطها تحفيزاً وكبحاً، والعمل الأدبي ليس مجرد إلهام خارج عن سياق التاريخ ومواضعات الحياة الاقتصادية، وإنما هو منتج، أو بتعبير أشد قسوة ربما، بضاعة متداولة في نظام يحكم إنتاج وتوزيع أشياء أخرى كثيرة. ومن هنا يمكن أن نفهم علاقة الأدب، والنقد بطبيعة الحال، بمؤسسات المجتمع. في عصر شكسبير، مثلاً، كما في العصور التي سبقته، كان لا بد للكاتب من راعٍ يكون عادة من أهل الثراء والجاه ويكون دوره دور المحفز للكاتب والحامي له في مجتمع لم يصل بعد إلى مرحلة من النضج القانوني والحقوقي الذي يمكن للفرد فيه، كاتباً كان أم غير ذلك، أن يعيل نفسه ويحميها بالقدر الذي يمكنه من كتابة مسرحية وإنتاجها. واستمر ذلك الوضع في إنجلترا حتى القرن التاسع عشر مع تغير نوع الرعاية إلى حد ما، فقد ظل كثير من الكتاب بحاجة إلى إهداء أعمالهم إلى شخصية قوية من شخصيات المجتمع توفر الدعم والحماية معاً.
في العصر الحديث لم تعد تلك الحاجة قائمة لا سيما في البلاد التي بلغت مكانة عالية في مضمار الحضارة. لم يعد الكاتب أو المثقف أو العالم بحاجة إلى راع شخصي، إلى ملك أو أمير أو نبيل من النبلاء، يوفر الدعم والحماية. انتقلت العلاقة لتكون بين الكاتب والمثقف من ناحية والمؤسسة من ناحية أخرى، المؤسسة التي قد تكون جامعة أو دار نشر أو غير ذلك، لكن تلك جميعها تتكئ على أنظمة أو قوانين تحمي الحقوق المادية والمعنوية على حد سواء. كما أن المؤسسة صارت هي أيضاً من يوفر الحوافز بتقديمها حين يحسن العمل ويرتفع الإنجاز، مثلما توفر الكوابح التي قد تتمثل إما بعدم المكافأة وإما بإجراءات أخرى حين تحدث مخالفة لقانون أو انتهاك لحقوق.
وتتفاوت الدول، كما هو معروف، في مستوى انضباط العلاقة بين الكاتب/ المثقف والمؤسسة، فهي قوية صلبة حين تشتد القوانين قوة وصلابة، ورخوة حين ترتخي، أو هشة حين تتراجع، وتصبح الأعراف والمواضعات الاجتماعية هي الفيصل. العالم العربي اليوم هو في تقديري أقرب إلى تلك الحالة الرخوة على تفاوت بين دوله في مستوى القرب أو البعد عن الأنظمة التي سبقت في التحول إلى دول مؤسسات وقوانين. لكن ما نشهده هو دون شك سعي حثيث لتسريع ذلك التحول الذي يدفعه الاستقرار وعمليات الإصلاح ويعيقه أو يتراجع به غياب الاستقرار وكثرة الاضطراب سواء كان اجتماعياً أم سياسياً أم اقتصادياً. الثقافة كيان ضخم يتحرك ضمن تلك القوى، تنمو بنموها وتضعف بضعفها. ومن معايير القوة والضعف ازدهار المؤسسة وقدرتها على تنشيط الحياة الثقافية سواء بالجوائز وتوفير الدعم والحماية أو غير ذلك من توجيه للمنتج الثقافي فكرياً كان أم إبداعياً.
ذلك ما تبادر إلى ذهني حين وضعني الدعم والتكريم في بؤرة الضوء بتلقي جائزة عمانية كريمة. فالجائزة مثل غيرها مؤشر من مؤشرات الحياة الثقافية تدعونا إلى مزيد حين تكافئنا على ما تم إنجازه، أو هكذا يجب أن تفهم.



مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
TT

مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)

أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، السبت، عن اكتشاف صرح لمعبد بطلمي في محافظة سوهاج (جنوب مصر). وذكرت البعثة الأثرية المشتركة بين «المجلس الأعلى للآثار» في مصر وجامعة «توبنغن» الألمانية أنه جرى اكتشاف الصرح خلال العمل في الناحية الغربية لمعبد أتريبس الكبير.

وعدّ الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، الدكتور محمد إسماعيل خالد، هذا الكشف «النواة الأولى لإزاحة الستار عن باقي عناصر المعبد الجديد بالموقع»، وأوضح أنّ واجهة الصرح التي كُشف عنها بالكامل يصل اتساعها إلى 51 متراً، مقسمة إلى برجين؛ كل برج باتّساع 24 متراً، تفصل بينهما بوابة المدخل.

ولفت إسماعيل إلى أنّ الارتفاع الأصلي للصرح بلغ نحو 18 متراً، وفق زاوية ميل الأبراج، ما يضاهي أبعاد صرح معبد الأقصر، مؤكداً على استكمال أعمال البعثة في الموقع للكشف عن باقي المعبد بالكامل خلال مواسم الحفائر المقبلة، وفق بيان للوزارة.

جانب من صرح المعبد المُكتشف (وزارة السياحة والآثار)

بدوره، قال رئيس «الإدارة المركزية لآثار مصر العليا»، ورئيس البعثة من الجانب المصري، محمد عبد البديع، إنه كُشف عن النصوص الهيروغليفية التي تزيّن الواجهة الداخلية والجدران، خلال أعمال تنظيف البوابة الرئيسية التي تتوسَّط الصرح، كما وجدت البعثة نقوشاً لمناظر تصوّر الملك وهو يستقبل «ربيت» ربة أتريبس، التي تتمثّل برأس أنثى الأسد، وكذلك ابنها المعبود الطفل «كولنتس».

وأوضح أنّ هذه البوابة تعود إلى عصر الملك بطليموس الثامن الذي قد يكون هو نفسه مؤسّس المعبد، ومن المرجح أيضاً وجود خرطوش باسم زوجته الملكة كليوباترا الثالثة بين النصوص، وفق دراسة الخراطيش المكتشفة في المدخل وعلى أحد الجوانب الداخلية.

وقال رئيس البعثة من الجانب الألماني، الدكتور كريستيان ليتز، إنّ البعثة استكملت الكشف عن الغرفة الجنوبية التي كان قد كُشف عن جزء منها خلال أعمال البعثة الأثرية الإنجليزية في الموقع بين عامَي 1907 و1908، والتي زُيّن جانبا مدخلها بنصوص هيروغليفية ومناظر تمثّل المعبودة «ربيت» ورب الخصوبة «مين» وهو محوط بهيئات لمعبودات ثانوية فلكية، بمثابة نجوم سماوية لقياس ساعات الليل.

رسوم ونجوم تشير إلى ساعات الليل في المعبد البطلمي (وزارة السياحة والآثار)

وأضاف مدير موقع الحفائر من الجانب الألماني، الدكتور ماركوس مولر، أنّ البعثة كشفت عن غرفة في سلّم لم تكن معروفة سابقاً، ويمكن الوصول إليها من خلال مدخل صغير يقع في الواجهة الخارجية للصرح، وتشير درجات السلالم الأربع إلى أنها كانت تقود إلى طابق علوي تعرّض للتدمير عام 752.

يُذكر أنّ البعثة المصرية الألمانية المشتركة تعمل في منطقة أتريبس منذ أكثر من 10 سنوات؛ وأسفرت أعمالها عن الكشف الكامل لجميع أجزاء معبد أتريبس الكبير، بالإضافة إلى ما يزيد على 30 ألف أوستراكا، عليها نصوص ديموطيقية وقبطية وهيراطيقة، وعدد من اللقى الأثرية.

وعدَّ عالم الآثار المصري، الدكتور حسين عبد البصير، «الكشف عن صرح معبد بطلمي جديد في منطقة أتريبس بسوهاج إنجازاً أثرياً كبيراً، يُضيء على عمق التاريخ المصري في فترة البطالمة، الذين تركوا بصمة مميزة في الحضارة المصرية». وقال لـ«الشرق الأوسط» إنّ «هذا الاكتشاف يعكس أهمية أتريبس موقعاً أثرياً غنياً بالموروث التاريخي، ويُبرز تواصل الحضارات التي تعاقبت على أرض مصر».

ورأى استمرار أعمال البعثة الأثرية للكشف عن باقي عناصر المعبد خطوة ضرورية لفهم السياق التاريخي والمعماري الكامل لهذا الصرح، «فمن خلال التنقيب، يمكن التعرّف إلى طبيعة استخدام المعبد، والطقوس التي مورست فيه، والصلات الثقافية التي ربطته بالمجتمع المحيط به»، وفق قوله.

ووصف عبد البصير هذا الاكتشاف بأنه «إضافة نوعية للجهود الأثرية التي تُبذل في صعيد مصر، ويدعو إلى تعزيز الاهتمام بالمواقع الأثرية في سوهاج، التي لا تزال تخفي كثيراً من الكنوز».