«الشرق الأوسط» داخل أوكار المتطرفين في ليبيا (3 من 5): رحلة تفكيك مفخخات بنغازي

80 % ممن يعملون عليها فقدوا أرواحهم

آثار المفخخات والتفجيرات على مباني شاطئ بنغازي قرب منطقة المحكمة القديمة (تصوير: عبد الستار حتيتة)
آثار المفخخات والتفجيرات على مباني شاطئ بنغازي قرب منطقة المحكمة القديمة (تصوير: عبد الستار حتيتة)
TT

«الشرق الأوسط» داخل أوكار المتطرفين في ليبيا (3 من 5): رحلة تفكيك مفخخات بنغازي

آثار المفخخات والتفجيرات على مباني شاطئ بنغازي قرب منطقة المحكمة القديمة (تصوير: عبد الستار حتيتة)
آثار المفخخات والتفجيرات على مباني شاطئ بنغازي قرب منطقة المحكمة القديمة (تصوير: عبد الستار حتيتة)

هذه واحدة من أخطر العمليات التي يقوم بها الجيش الوطني الليبي، رغم ضعف إمكاناته، وهي تفكيك ألوف المفخخات التي تركتها التنظيمات المتطرفة في المواقع التي مرت عليها في ضواحي مدينة بنغازي... مفخخات في العمارات... وفي الشوارع... وفي الحدائق العامة... في نوادي الأطفال... في ملاعب الكرة... وفي دورات المياه الخاصة والعامة. مفخخات تنفجر بمجرد إدارة مقبض الباب أو الضغط على مفتاح إنارة الغرفة... ومفخخات مرتبطة بما يعرف بـ«مساطر التفجير». مساطر تأخذ لون المكان الذي تزرع فيه؛ أخضر وسط العشب، وأسود في الشارع، وترابي في التراب. وكل مسطرة مرتبطة بدانة. وبعض الدانات كبيرة الحجم وتخلِّف دماراً واسعاً، مثل الدانة الخاصة بالقنبلة من زنة 500 ملليمتر وهي التي لا تحملها إلا الطائرات الحربية الضخمة.
وتواصل «الشرق الأوسط» في هذه الحلقة الثالثة سرد أكبر عملية لطرد المتطرفين من الأوكار التي كانوا يديرون منها عملياتهم في ليبيا.
مثلما كان يفعل رجال جرد مخازن السلع قديماً، جلس ضابط من رجال الهندسة العسكرية وسط جنوده، لكن لكي يحصي عدد القنابل التي جرى استخراجها من شوارع ومباني ضاحية الصابري في هذا النهار... ورفع يده محذراً: «لا... لا أحد يقترب. لا تتسببوا لنا في كارثة»، كانت بعض الدانات ما زالت مزودة بفتيل التفجير، في انتظار إبطال مفعولها.
ولعبتْ مفخخات زرعها المتطرفون، وهم يتراجعون إلى الخلف، دوراً كبيراً في عرقلة تقدم الجيش... وفي تأخير استعادة ميناء بنغازي البحري والحظيرة الجمركية وكثير من المباني والمؤسسات العامة. وتكشف آثار «الدواعش» الذين مروا من هنا أن أشهر نوع من التفجيرات التي قاموا بدراستها واستخدامها على نطاق واسع، هو ما يعرف باسم «المسطرة»... وهي تشبه مسطرة بالفعل... تُزرع بشكل خفي في مكان يتوقع أن يستخدمه أي فرد في المنزل أو في الشارع أو في أي موقع عام.
وإذا ضغطت على هذه المسطرة بقدمك أو اتكأت عليها أو عبثت بالموقع المزروعة فيه، تقوم بتوصيل دائرة كهربائية إلى الدانة التي تكون مطمورة في مكان يبعد ما بين 3 و5 أمتار.
وأخذ الضابط يشرح حصيلة ما تم استخراجه اليوم من مساطر مربوطة بدانات من أوزان مختلفة، بعضها لديه القدرة على نسف عمارة مرة واحدة. وقال إن «المسطرة هي وصلة الربط لتفجير الدانة أو القنبلة. توجد ألوان وتصميمات مختلفة للمساطر، مثل اللون الأخضر حين تزرع في النجيلة، أو اللون البني للجدار البني، أو بلون التراب حين تزرع في التراب، أو باللون الأسود حين تزرع في الشارع».
وأضاف: «زرع المتطرفون مفخخات حتى في دورات المياه. يتطلب الأمر لحل هذه المشكلة الوصول إلى المسطرة، وليس إلى القنبلة أو الدانة أو العبوة أياً كانت... بعد التأكد من وجود قنبلة في المكان، تبدأ مهمة معقدة للبحث عن المسطرة، أو العكس». ويتابع وهو يشرح أسرع وسيلة للموت والدمار، أن «المتطرفين استخدموا طرقاً مختلفة للتفجير، منها أيضاً ربط القنبلة اليدوية بأي شيء يمكن شده، مثل مقبض الباب... بمجرد إدارة المقبض تنفجر القنبلة».
وفي داخل 3 أوكار، على الأقل، كانت مراكز لـ«الدواعش» في شارع البحر، توجد بقايا لأوراق ورسومات عن طرق تركيب القنابل بعضها مأخوذ من مواقع على الإنترنت والبعض الآخر مرسوم باليد. أما مخازن الأسلاك ودانات التفجير التي كان يعدها «الدواعش» للتفخيخ، فموجودة في كل وكر تقريباً من تلك التي تمكن الجيش من دخولها. أسلاك حمراء وأخرى سوداء وخضراء. ونوابض وهواتف جوالة ومساطر، وغيرها.
وبعد شرب الشاي وتبادل أطراف الحديث والذكريات القريبة عن الضباط والجنود الذين قُتلوا وهم يحاولون تفكيك المفخخات في الأشهر الأخيرة، بدأ استئناف العمل من جديد، في منطقة «مشروع الصفصفة»، بحثاً عن قنابل ومتفجرات أخرى على جانبي الطريق وفي مداخل البيوت.
كان الشارع طويلاً ومهجوراً وتصطف على جانبيه مئات العمارات المثقوبة بالقذائف. وصاح أحد الجنود من أمام مدخل مبنى محترق. وهذا يعني أنه عثر على شيء ما. إنها مسطرة مزروعة في عتبة الدخول. ذات لون طوبي يشبه ركام الحجارة التي كانت فوقها.
وفي الحال تقدم الضابط، مهندس تفكيك المفخخات. وشرع يتتبع بأصابعه الأسلاك التي تربط المسطرة بالقنبلة. ومن ورائه يقف 3 من مساعديه. واحتمال أن تقع كارثة وتنفجر العمارة على الجميع احتمال قائم. لكن لا بد من الاستمرار في العمل. وأخذ المهندس يحفر حول المسطرة بيديه العاريتين... ثم بدأ يحفر مع الأسلاك التي ستصل به إلى موضع الدانة.
ويعمل مثل هؤلاء المهندسين بشكل بدائي للعثور على المتفجرات بسبب نقص المعدات اللازمة لذلك، حيث تعد وسائل الكشف عن الألغام والمتفجرات من المحرمات المفروضة من المجتمع الدولي ضمن الحظر على تسليح الجيش الليبي المقرر من الأمم المتحدة منذ عام 2011.
وكان يوجد في منطقة «الصابري» وفي «مشروع الصفصفة» ألوف القنابل المزروعة في كل مكان. وفي آخر الطريق وقفت سيارة صغيرة ونزلت منها أسرة مكونة من رجل يدعى ناجي، وزوجته و3 من بناته لأخذ الإذن بالدخول لتفقد منزلهم. لكن الجيش لم يسمح لهم بذلك.
ما زال الخطر قائماً. ومع ذلك أسند ناجي ذراعه على سقف سيارته، وأخذ يراقب المشهد. بينما ترجلت زوجته وبناته حول السيارة كأنهن يستعدن ذكريات الماضي الذي كان ينبض بالحياة هنا. ويقول الرجل الذي كان يدير متجر ملابس تحت بيته في هذا الشارع، قبل أن يجتاح المتطرفون المنطقة، إنه يعيش وأسرته، منذ عام 2014، لدى أقارب لهم في نجع جنوب مطار بنغازي المعروف باسم مطار بنينا، وإنه جاء قبل أسبوع على أمل أن يرمم بيته ومتجره، إلا أن ضباط الهندسة العسكرية لم يسمحوا له. وفقد الرجل ولديه أثناء الحرب ضد «تنظيم أنصار الشريعة» الذي يوصف أحياناً بأنه أحد أذرع «داعش» في بنغازي.
وبينما يشاهد من بعيد محاولة الضابط الوصول إلى مكان القنبلة، دوّى انفجار ضخم، وغطى التراب كل شيء، بينما سقطت الكتل الخرسانية في الشارع في ضجيج أصم. وعادت أسرة ناجي من حيث أتت أمام هذه الواقعة التي لا تبشر بالخير.
وفي الطريق الخلفية من «مشروع الصفصفة» كذلك، كان هناك ضباط وجنود يعملون أيضاً على تتبع أماكن الألغام. وسمع انفجار دانة أخرى في مبنى مجاور كان تحت الإنشاء... كان أصحاب البيت يطمحون في معاينته لاستكمال بنائه المتوقف منذ عامين، رغم تحذيرات الجيش. وتسبب الانفجار في قتل 4 أطفال ووالدتهم. وأصبحت جثثهم مجرد قطع صغيرة يمكن أن تحمل كل قطعة منها بكف اليد.
ومن خلال زوايا الشوارع، ظهر أن هناك 5 أسر أخرى على الأقل كانت تحاول العودة، إلا أنها قادت سياراتها مبتعدة. ويقول مسؤول في الجيش كان يرافق «الشرق الأوسط»: معظم المهندسين العسكريين قُتلوا وهم يحاولون إبطال هذه المفخخات في مناطق مختلفة في بنغازي... لا توجد لدى الجيش أجهزة لكشف الألغام والمفخخات... سلك ومسطرة وطريقة بدائية وخطيرة جداً. تحتاج إلى تدريب ومعدات خاصة... هؤلاء يعملون بأيدٍ عارية وفقدنا نحو 80 في المائة من الأفراد الذين يعملون في تفكيك الألغام. لكننا دربنا مجموعات جديدة وخرّجنا ضباطاً جدداً لاستكمال المهمة».
- غابة المفخخات
ودخل ناشطون ليبيون على الخط من أجل إنقاذ الأسر من السقوط في غابة المفخخات، مستغلين في ذلك تطبيقات الهواتف الجوالة، ومن بين هذه الطرق أن يقوم المواطن الذي يشتبه في وجود قنبلة في محيط منزله أو في أي مكان، بتصوير الموقع، وإرساله على التطبيق، متبوعاً بتحديد المكان بنظام خرائط «غوغل» أو «جي بي إس».
كما خصص ناشطون آخرون صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي للإبلاغ عن المفخخات. وكل هذا السيل من المعلومات يتم إرساله على الفور إلى الجيش الذي يقوم باتخاذ ما يجب... يضع أولاً شريطاً حول المنطقة ثم يبدأ في توجيه ضباط الهندسة العسكرية لمعالجة المشكلة.
في ضاحية «الصابري» عاد رجال الهندسة العسكرية على عجل بعد عدة بلاغات. وفي هذه الضاحية فقد ضباط آخرون أرواحهم. وفي كل جلسة استراحة تسمع وأنت تشرب الشاي أسماء جديدة لمن قُتلوا... كان من بينهم العسكري المتقاعد محمد الفاخري.
وضحى الفاخري بحياته حين كان يقوم بنزع الحجارة من فوق مسطرة مربوطة بدانة مدفع من عيار 155 ملليمتراً. كانت الدانة مزروعة على بعد مترين تقريباً من موقع المسطرة. وانفجرت مرة واحدة. ومن قوتها أطاحت بواجهة العمارة وتركت حفرة كبيرة في المدخل.
وكان للفاخري ابن قُتل أثناء مشاركته في الحرب ضد المتطرفين في الشهور الماضية. ويقول أحد زملائه: «كان ضابطاً مقداماً. ولم يمنعه التقاعد من الجيش قبل سنوات، من العودة لمد يد العون لجهود أبناء بنغازي في تحرير مدينتهم من الإرهابيين ومن المفخخات التي تركوها، خصوصاً بعد أن استشهد ابنه في هذه الحرب. مثل هؤلاء الضباط والجنود قدموا أرواحهم للوطن، لأنهم إذا لم يقوموا بذلك سينفجر اللغم أو الدانة في عائلة أو في أسرة».
وفي مبنى آخر، عثر أحد الضباط على مسطرة مخفية تحت كومة من التراب في جانب الرصيف. وهذا يعني مخاطرة جديدة لنزع فتيل القنبلة. وكانت المسطرة مربوطة بدانة مدفع من عيار 122 ملليمتراً. وبدأ وجه الضابط يتصبب بالعرق وهو يمسك بسكين ويحاول فصل المسطرة، أي أداة التفجير، عن القنبلة.
وحبس زملاؤه السبعة أنفاسهم، وهم يقفون بعيداً، خوفاً من وقوع كارثة. وبعد قليل رفع الضابط يديه عالياً والسكين في يده. وصاح: «الله أكبر ولله الحمد». وهرع الباقون إليه وهم يكبرون ويهللون. لقد تمت إزالة الخطر.
ويقول مرافق «الشرق الأوسط» وهو من الجيش: «حين يفكك الضابط الدانة، يحيلها إلى سلاح المدفعية، لاستخدامها مرة أخرى في الحرب ضد الدواعش. ما يزرع في الشارع يصيب أياً من الناس... عرباً أو أجانب أو سيارة أو حيوانات... أي شيء. هناك دانات مربوطة بجهاز لاسلكي للتفجير عن بعد وبالهواتف الجوالة أيضاً. ومنذ قليل عثرنا على واحدة خاصة براجمة من عيار 107 ملليمترات، مربوطة بلاسلكي أمام مسجد ضاحية القوارشة».
ومرة أخرى... وقت قصير للاستراحة. وأكثر شيء يقدم في مثل هذه الأوقات هو الخبز والشاي. فرغم أن الدولة غنية بالنفط، فإنها أصبحت تعاني من الفقر والشُّح. في كل مرة خبز وشاي. ويبدو أنه الغذاء الرئيسي لآلاف الضباط والجنود طوال النهار.
ومع الإرهاق والجوع وانتظار الموت، يكون لهذا الطعام البسيط رائحة ومذاق وجائزة لا تقدر بثمن. أما إذا تطوعت إحدى العائلات التي جاءت حديثاً للمنطقة التي جرى تطهيرها، وأرسلت للمجموعة العسكرية قصعة أرز مطبوخ بالطماطم، فهذه جائزة مضاعفة تشجع على مزيد من العمل.
ويقول ضابط مخضرم يدعى عوض، فوق الستين من العمر، كان قد تقاعد من الخدمة في الجيش في أيام العقيد الراحل معمر القذافي، إن خبرات المتطرفين في زرع الألغام والمفخخات جلبوها معهم إلى ليبيا من مناطق الاقتتال التي كانوا يشاركون فيها، في العراق وأفغانستان والشيشان وسوريا وغيرها.
ويضيف: «حتى أسطوانات غاز الطهي يستخدمونها مفخخات. كلها خبرات مختلفة جمعوها في بنغازي». ويشارك عوض في عمليات تفكيك المفخخات، وكل طموحه أن يجد ملابس عسكرية يرتديها بدل ملابسه المدنية. ويفتقر الجيش الليبي عموماً للإمكانات بما فيها «النقص في القيافات (أي ملابس الجيش)»، كما يقول عوض.
ودارت قطع الخبز وفناجين الشاي المغلي دورة أخرى. ويقول الضابط عوض إنه قرر العودة إلى بنغازي والانخراط في الجيش متطوعاً بعد أن انتشرت عمليات تفخيخ سيارات العسكريين وبيوتهم في المدينة على يد المتطرفين.
ويتذكر تلك الأيام القريبة حيث «كانت جثث الضباط والقيادات العسكرية تلقى في الشوارع يوماً بعد يوم... حتى العميد أحمد البرغثي، مدير إدارة الشرطة العسكرية في طرابلس، لم يسلم من يد الإرهاب. كان رفيقنا. وحين جاء إلى بنغازي في زيارة قتلوه. ورأيت آثار التعذيب على جثته. ثم استهدفوا زملاءه، هنا، بالمفخخات».
وفي نطاق العمليات العسكرية شمال ضاحية الصابري، يقف الملازم مرعي الحوتي بعد أن فقد جميع زملائه من العسكريين أثناء الحرب على الإرهاب حين كانت في بدايتها... واليوم يبدو أنه لا يريد أن يتراجع. ويسعى وراء فلول المتطرفين بلا هوادة كأنه يريد أن يلحق برفاقه الذين جرى تفجيرهم وقتلهم أمام عينيه. ومن بين هؤلاء الرائد الراحل فضل الحاسي.
كان الحاسي آمر التحريات بالقوات الخاصة. وكان الحوتي معاوناً له. كانوا 7 رفاق خاضوا الحرب في ظروف عصيبة ولم يتبقَ منهم سوى هو. والآن يقود الحوتي مجموعة من العسكريين في سيدي خريبيش، بعد أن تمكن من طرد المتطرفين من «الصابري» و«سوق الحوت».
وبينما تميل الشمس ناحية الغروب، تبدو السفن مجللة بغلالة حمراء، وهي رابضة في ميناء بنغازي الذي ظل لأكثر من 3 أعوام تحت سيطرة المتطرفين. ونصبت القوات البحرية بوابة لمنع المواطنين من العبور إلى الضواحي الداخلية المطلة على البحر، إلا بعد تطهيرها من مفخخات الألغام. وكانت الأولوية في تنظيف المنطقة من الدانات والمتفجرات لصالح الميناء بطبيعة الحال.
وأمر أحد الضباط بإعداد الشاي مجدداً. وجاء جندي بأرغفة الخبز لكي يسخنها على النار. وبدأ كلٌ يذكر أصدقاءه الذين رحلوا وهم يحاولون فتح آفاق جديدة للمستقبل. وكانت العمارات والأبراج في الخلفية مدمرة، وجوانب الطرقات يغطيها ركام المباني المنهارة وبقايا الحاويات التي كان المتطرفون قد جلبوها من الميناء لسد الشوارع. وسيكون هناك عمل آخر لمواصلة فحص كل هذه الفوضى ونزع مساطر التفجير منها.
ومع حلول المساء تحوّل الحديث إلى لغة حزينة مشبعة بالعتاب على الضباط والجنود الذين ما زالوا يرفضون الانخراط في الجيش لمساعدة بنغازي وليبيا على العودة دولة مرة أخرى. ويقول ضابط وهو يقضم قطعة من الخبز الساخن: «يا إخوة... كيف تتصورون الضباط الذين ينامون لدى أسرهم دون أن يشاركوا في الحرب أو يلتحقوا بالجيش؟... ماذا سيقول هؤلاء لأبنائهم وأحفادهم عن معارك تحرير بنغازي من المتطرفين، وعن جهود تطهير المدينة من الألغام؟».



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.