تبعات {الربيع العربي}.. ميليشيات مسلحة وفوضى ودمار

نوعية جديدة من تنظيمات وإرهابيين استغلوا نتائجه وطمعوا في السلطة

صورة ارشيفية لعنصرين من إحدى الميليشيات في العاصمة الليبية طرابلس (أ.ب)
صورة ارشيفية لعنصرين من إحدى الميليشيات في العاصمة الليبية طرابلس (أ.ب)
TT

تبعات {الربيع العربي}.. ميليشيات مسلحة وفوضى ودمار

صورة ارشيفية لعنصرين من إحدى الميليشيات في العاصمة الليبية طرابلس (أ.ب)
صورة ارشيفية لعنصرين من إحدى الميليشيات في العاصمة الليبية طرابلس (أ.ب)

لم يكن متوقعا أن الدول التي احتفلت بإسقاط أنظمتها بثورات شعبية خلال ما عرف بـ«الربيع العربي»، تتحول خلال ثلاث سنوات من هذه التحولات الدراماتيكية، إلى ساحات للقتال والمعارك الطاحنة بين شعوبها والجماعات الإرهابية المختلفة، التي انتشرت بشكل مخيف على أراضيها، وتنتقل بؤر تمركز الإرهاب من أماكنها التقليدية في أعماق آسيا، إلى منطقة الشمال الأفريقي والجزيرة العربية.

عندما اندلعت الثورة التونسية وفتحت الباب أمام الثورة المصرية، ومن بعدها وصل «الربيع العربي» إلى كل من ليبيا واليمن وسوريا، تفاءل الكثيرون، وأطلق المحللون ذلك اللقب على ما كان يجري من ثورات، ظنا منهم أن رياح الثورة ستواصل هبوبها نحو مزيد من الدول. وسادت في حينها نظرة تفاؤلية مليئة بالأحلام التي توسم كثيرون أن يحملها الربيع العربي إلى شعوب المنطقة. لكن الرياح أتت بما لا تشتهيه سفن المتفائلين. وبدلا من نسائم الحرية والديمقراطية، وبشائر الرخاء والاستقرار التي كانوا ينتظرونها، فجعت شعوب المنطقة نتيجة لانتشار الجماعات المسلحة والإرهابية بشكل سرطاني، مستغلة الفراغ السياسي والأمني الناشئ في تلك الدول.
وقد ظهرت على الساحة تنظيمات عدة مسلحة، أعلنت عن نفسها من خلال عمليات إرهابية، أو التهديد بتنفيذ عمليات عنفية، مثل جماعة «أنصار بيت المقدس»، و«جند الإسلام»، و«كتيبة النصرة»، و«التكفير والجهاد» في مصر، و«درع ليبيا»، و«ميليشيات الزنتان» القبلية، و«كتائب مصراتة»، و«لواء شهداء 17 فبراير» في ليبيا، بالإضافة إلى تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا ومصر» (دالم).
ولم تسلم تونس صاحبة «ثورة الياسمين» من تمدد الجماعات المسلحة على أراضيها، وتنتمي إجمالا، للتيار السلفي الجهادي، ومنها تنظيم «أنصار الشريعة»، وبعض من جهاديي سوريا ومالي العائدين.
وفي اليمن انبثقت جماعة «أنصار الشريعة» فرعا لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، بالإضافة إلى جماعة الحوثيين. ناهيك عن «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» اللذين ظهرا في سوريا، الأمر الذي يدعو للتساؤل عن علاقة ثورات الربيع العربي بظهور تلك التنظيمات، التي لم يكن لها وجود سابق من قبل.
وقد كشفت بيانات المكتب العربي للشرطة الجنائية، في السنوات الأخيرة، عن أنه جرى رصد 76 تنظيما وحركة إرهابية، منها 32 تنظيما عربيا صرفا. لكن حالة الانفلات الأمني التي أعقبت الثورات العربية جعلت الواقع أسوأ بكثير مما رسمته تلك الأرقام، في ظل الإعلان عن وجود ما يقرب من 1700 ميليشيا مسلحة في ليبيا وحدها. وفي هذا الإطار، يشير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى إلى أن تفريغ السجون من السجناء في البلدان التي تأثرت بـ«الربيع العربي»، أدى إلى خروج الكثير من الجهاديين، وتكوينهم لتجمعات جديدة تمثل حركات إرهابية خطيرة.
حول ظاهرة التنظيمات الإرهابية المسلحة، قال اللواء محمد نور الدين، مساعد أول وزير الداخلية المصري الأسبق لـ«الشرق الأوسط»، إن كل التنظيمات الدينية المتطرفة والإرهابية، على اختلاف أسمائها، خرجت من عباءة الإخوان المسلمين، بمن فيها «القاعدة»، في إطار التنظيم الخاص الذي أنشأه حسن البنا. وأضاف نور الدين: «لقد رصدنا تنسيقا بين الظواهري والرئيس المعزول محمد مرسي، خلال فترة حكمه. وحتى تلك التنظيمات التي تتظاهر بتكفير مرسي الآن، إنما تفعل ذلك ذرا للرماد. وما يسمى بالربيع العربي لم يكن في حقيقته إلا خريفا ينطوي على مؤامرة ضد البلاد العربية، لأنه كان يرتبط بحلم الشرق الأوسط الجديد لتقسيم هذه الدول لدويلات عدة، حتى لا تكون إسرائيل وحدها الدولة الصغيرة في المنطقة. وعندما حاولوا عمل سايكس بيكو جديد للتقسيم، كان الإخوان هم العنصر الجاهز لتنفيذ هذه المهمة مقابل وصولهم إلى كرسي الحكم. وقد لعبوا جيدا على وتر شعار الثورة: (عيش، حرية، كرامة اجتماعية)، لاستقطاب الناس. لكن الخطة لم تنجح، وانكسرت شوكتهم في مصر. وقد بدأت باقي الدول تستفيق، ومنها ليبيا التي كانوا يجهزون لظهور ما يسمى الجيش الحر على أراضيها. وما كان لمصر أن تقف متفرجة وتترك هذا الاختراق لأمنها، فأصبح لنا آذان هناك، بل وأياد للدفاع عن أنفسنا، وستكون مصر هي الصخرة التي ينكسر عندها الإخوان. ولأن مصر هي دولة المنشأ ودولة المرشد، فإذا انحسر الإخوان فيها وهزموا بالضربة القاضية، فإنهم سينحسرون في ليبيا والسودان وباقي الدول».
وتعليقا على الأرقام المعلنة لأعداد التنظيمات الإرهابية في المنطقة العربية، قالت إيمان رجب، الخبيرة في الجماعات المسلحة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة، لـ«الشرق الأوسط»، إنه من الصعب تقدير عدد التنظيمات الإرهابية على مستوى العالم، أو حتى على مستوى دول الربيع العربي، لأن الأرقام المعلنة في هذا الموضوع تعد بيانات مضللة، خاصة أن هناك نوعين من التنظيمات الإرهابية: الأول محدد القيادة والهيكل كتنظيم القاعدة، وداعش، والنصرة، والتنظيم المحلي للقاعدة في دول المغرب العربي. والثاني، عبارة عن تنظيمات بلا قيادة، وتشمل تنظيم إرهاب الفرد الواحد، أو قد يأخذ شكل الخلية التي لا يتجاوز عدد أعضائها ثلاثة أعضاء أو خمسة. وهي عادة بلا هيكل ولا قائد. وهذا النوع من التنظيمات يصعب تحديد ملامحه بدقة. ومن ثم فإن أي أرقام ترد بشأن التنظيمات الإرهابية إنما هي جزء من الصورة فقط ولا تعبر عن الظاهرة ككل.
وأضافت أن ثورات الربيع العربي ساهمت في ظهور تنظيمات إرهابية جديدة شديدة التعقيد ومتعددة الأبعاد، إلا أن بعضها كان موجودا قبل الثورات، كما في اليمن، لأسباب خاصة بالبلد نفسه، حيث ظهرت التنظيمات المحلية للقاعدة في اليمن، قبل أحداث الربيع العربي، بالإضافة إلى وجود الحوثيين. وهناك تنظيمات إرهابية ظهرت لأسباب خاصة بالإحباط من الواقع السياسي أو الاجتماعي، كما في مصر وتونس. ويعود ظهورها إلى تراجع هيبة الدولة، وضعف المؤسسات الأمنية، وخروج بعض المساجين الأمنيين أثناء الثورات.
أما في ليبيا، فالحالة ترتبط بحدوث انفلات أمني نتيجة لسقوط رأس النظام، وظهور حالة اللادولة.
وتحذر الباحثة إيمان رجب من الثورة الإلكترونية، ودور وسائل التواصل الاجتماعي في انتشار المد الإرهابي الفردي بلا قيادة، بعد أن أصبح من السهل على أي مجموعة أو حتى فرد، أن يتعلم كيف يصنع قنبلة من خلال الإنترنت. وتقول: «لذلك نجد أن كثيرا من العمليات الإرهابية يجري بقنابل بدائية الصنع، مع استثناء الحالة الليبية التي تستخدم فيها أسلحة متقدمة. وتزداد خطورة تأثير وسائل التواصل الاجتماعي مع تزايد جاذبية الأفكار الإرهابية للمتعلمين والمنتمين إلى الطبقات الوسطى، حيث لم تعد قاصرة على المهمشين والبسطاء». كما حذرت من تداخل الإرهاب مع الجريمة المنظمة بتعاون الإرهابيين مع تجار السلاح والمخدرات، في إطار تبادل المصالح. وهذا ما يزيد الظاهرة تعقيدا، ويجعل المعالجة الأمنية لانتشار التنظيمات المسلحة في العالم غير كافية وحدها.
وقال الدكتور حميد الهاشمي، الباحث العراقي في علم الاجتماع بالمركز الوطني للبحث الاجتماعي في لندن، لـ«الشرق الأوسط»، إن غياب الأمن وخاصة ذلك المرتبط بسلطة القانون، وانتشار السلاح يعدان أبرز سببين لانتشار الفوضى وما ينتج عنها من عنف؛ فغياب القانون يدفع الناس إلى الاحتكام إلى السلاح لحل خصوماتهم، فضلا عن اعتداء الذين لا يجدون رادعا لوقف تجاوزاتهم وأطماعهم في سلب غيرهم، أو البلطجة عليهم. وإن الطبيعة الديكتاتورية للأنظمة السابقة قد خلقت نوعا من انفصام العلاقة بين المواطن والدولة، على اعتبار أن ثمة ربطا تقليديا في الذهنية البسيطة، بين الحكومة والدولة. وبالتالي تجسد ذلك في الاعتداء على الممتلكات العامة، وفرض وجود تلك الجماعات بالقوة. وتبدى للمتابع أن هناك جماعات متعطشة للعنف وكأنها مارد خرج من قمقم. وقال: «لقد تجلى نوعان من الجماعات المسلحة التي ظهرت في أعقاب ثورات الربيع العربي، هما: الجماعات الدينية في كل حالات بلدان الربيع العربي، والميليشيات القبلية في النموذج الليبي خاصة، وأحيانا في اليمن. ووفقا لهذا التقسيم، فهناك نوعان من ادعاء الحق أو ادعاء الشرعية لدى هذين النوعين من الجماعات المسلحة (الدينية والقبلية)؛ فالدينية تدعي الشرعية الإلهية، في حين تدعي الجماعات القبلية (الشرعية الثورية). فهي التي قاتلت الديكتاتور وأسقطته، وبالتالي لا تتصور أن يجري التخلي عنها بهذه الكيفية. فهي لا ترضى الاندماج بالأجهزة الأمنية، ولا أن تحل نفسها وتعود إلى الحياة المدنية التي كانت عليها في السابق. أصبحت لديها حالة من التعايش مع السلاح، والشعور بالقوة المادية والمعنوية. إنه شعور بنشوة الانتصار الذي لا يريد أن يفارقهم». وأضاف أن هوية الجماعات الدينية وآيديولوجيتها واضحة. وهي السعي إلى مسك السلطة وفرض رؤيتها على المجتمع. في حين أن مطالب الجماعات أو الميليشيات القبلية قد تمتد إلى مديات أوسع، تحت لافتة الجهوية (المدينة أو البلدة التي تنحدر منها)، التي هي في واقع الحال قبلية، لأن المدن في هذا النموذج (الليبي خاصة)، تمثل بنى قبلية منسجمة، أي تجد مدينة تحمل اسم قبيلة معينة، ويحمل مسلحوها لافتة (ثوار تلك المدينة)، مثل ثوار الزنتان. إن هذه الصيغ من استمرار مسك السلاح والتمرد على سلطة الدولة، هي نوع من تشظي الهوية والانقسام المجتمعي. فالجماعات القبلية هذه تعبر عن هويات فرعية، وتسعى لفرض مكاسب أبعد من أن تفسر على أنها مغانم فردية يبحث عنها محاربون. وكذا الجماعات الإسلامية السلفية خاصة، تشعر باغتراب ونوع من العزلة المجتمعية إزاء منهجها العنفي، وتجد أن الحل في استمرار مسك السلاح وفرض الأمر الواقع.
بالمقابل، لا يمكننا أن نتجاوز عوامل قلة التعليم في مجتمعاتنا، والظروف الاقتصادية الصعبة في غالبية بلدان الربيع العربي، وضعف تقاليد الديمقراطية التي تحتاج إلى وقت ومراحل حتى يجري تعلمها والتدرب عليها، ومن ثم هضمها وتمثيلها، لنشهد ثمار التحول. كل هذا، إلى جانب ما سبق، يمكن أن يفسر لنا هذا الانفلات. وحسبنا أن نصف المرحلة بأنها «انتقالية»، وهي حتمية، سواء طالت أم قصرت. وكلاهما، طول أمدها وكذلك قصرها، يتناسب طرديا مع عوامل الانقسام المجتمعي، والمرحلة الديكتاتورية السابقة، وثمن التغيير، أي كلما كان باهظا، طال أمد المرحلة الانتقالية.
في تونس، قال الخبير الأمني والاستراتيجي الدكتور مازن الشريف لـ«الشرق الأوسط»، إن الربيع العربي - إن جازت العبارة بعد كل الموت الذي حط على المنطقة - كان فيه من باب التحقق، ملامسة لأحلام الشعوب العربية. بمعنى أن الثورة التونسية، كانت تحقق حلم الحرية والكرامة من منظور الشعوب العربية وحتى شعوب العالم. وهو بريق سرعان ما أرادت شعوب كثيرة النسج على منواله، لكن تداعي الأنظمة وقيام ثورات أخرى لم يكن عفويا ولا بريئا في معظمه. وكان هناك من استثمر في الثورات بشكل أو بآخر، كل في غاية يقصدها ومطلب يريده. والجماعات المسلحة والإرهابية طرف أساسي ضمن الأطراف المستفيدة من فوضى ما بعد الربيع، ليكونوا علامات على رياح الخريف العاتية. صحيح أن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب، كان له نشاط من قبل، وسبقته جماعات مسلحة ضربت بقوة في الجزائر طيلة عقد من الزمن، وفي الصومال، وأرجاء من أفريقيا، وكذا في العراق وخاصة مجموعة الزرقاوي. لكن التطور الذي أعقب الثورات جاء تطورا نوعيا ملحوظا، ينقسم في اعتقادي إلى مناطق ذروة، هي سوريا والعراق، ممثلة بالأساس في «داعش» و«جبهة النصر»، وليبيا مع امتداد إلى مالي ونيجيريا وأفريقيا الوسطى، ثم تونس عبر تنظيم أنصار الشريعة، وتنسيق مع مختار بن مختار في الجزائر وتنظيم «المرابطون»، وتنظيم القاعدة في سيناء الذي تطور إلى «دالم»، أو دولة الإسلام في ليبيا ومصر. وأضاف الشريف أن تونس كانت بداية الربيع، لكن سرعان ما أدى الفشل السياسي للحكومات المتعاقبة، والعمى الاستراتيجي، وحالات الانفلات، إلى تطور المجموعات المسلحة وتهريب كميات كبيرة من الأسلحة من ليبيا، والقيام بعمليات نوعية غير مسبوقة، مثل اغتيال السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وذبح الجنود في الشعانبي، وعمليات الروحية وقبلاط وعلي بن عون وسوسة وغيرها. إن هذا الانتشار لم يكن عبثيا، بل رصدنا وجود تنسيق وتنظيم خاضع للجيوستراتيجيا. وكمختص في الاستشراف، أعتقد أنه سيزداد انتظاما وتنسيقا ويوسع من عملياته ومن تفاعله مع بعضه، وهو ينطوي على خطورة شديدة، ومثال ذلك، إعلان درنة الليبية إمارة إسلامية. وهنالك معلومات عن وجود كل من أبو عياض، زعيم تنظيم أنصار الشريعة في تونس، ومختار بن مختار زعيم تنظيم المرابطين، القادم من الجزائر بعد فشل عملية عين أميناس، أو الهارب من مالي بعد الضربات القوية ضد تنظيمه. وعن رأيه في الظاهرة في اليمن بوصفه من دول الربيع العربي، قال الكاتب السياسي اليمني محسن فضل، في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، إن العنف موجود قبل الربيع العربي، إلا أنه زاد، بنسب كبيرة، بعد اندلاع ثورات الربيع العربي مطلع عام 2011. وقد ظهر تحديدا علی الساحة العربية بشكل أقوی، مما كان عليه سابقا. وسبب ذلك هو أن الربيع العربي أوجد لدی جماعات العنف، منذ بدايته، حالة من الأريحية، فبدأت هذه الجماعات في تنظيم نفسها والعمل علی أن يكون لها دور في المستقبل. إضافة إلی طول عمر بعض ثورات الربيع العربي، وتحولها إلی حالة من حالات الحرب، الأمر الذي جعل جماعات العنف تنخرط فيه لعدد من الأسباب، إما باسم الجهاد والدفاع عن العقيدة أو من أجل التخلص من أنظمة موالية للغرب «الكافر»، حسب تلك الجماعات، أو للسببين معا، سوريا مثالا. كما أن التدخل الخارجي في التحولات الجارية في دول الربيع العربي لم يوجد بدوره نوعا من التوازن الحقيقي بين الأطراف المتصارعة في كل بلد منها، مما ولد العنف وزاد من حدته.
الأهم باعتقادي هو أن ثورات الربيع العربي لم تحقق لشعوبها، حتى اليوم، نوعا من الاستقرار السياسي الحقيقي، مما أدى إلى تردي الأوضاع الأمنية بشكل عام، وساعد الجماعات المتطرفة على ممارسة أنشطتها بشكل طبيعي بعيدا عن الخوف والتستر.
وتعليقا على ذلك، قالت الدكتورة هناء عبد الرحمن البيضاني، أستاذ العلوم السياسية وابنة السياسي اليمني المعروف، في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، إنه مع سوء الأحوال المعيشية، وضعف الإيرادات، وسوء الأوضاع عموما، انتشرت الاحتجاجات بهذه السرعة الكبيرة في أغلب البلدان العربية، وكانت نتيجة حتمية للضغوط التي يتعرض لها الأفراد. ومن ثم كانت بدايات الربيع العربي التي اشتعلت ولا تريد الانطفاء حتى الآن. لكن علينا أن ندرك جيدا أن ثمن زعزعة الاستقرار باهظ التكلفة. وقد دفعت الشعوب العربية هذه الضريبة القاسية، وما زالت تدفعها من لحمها الحي بعد الثورات المتعددة، وفي الحالات التي انتشر فيها استخدام العنف المسلح. لكن يبقى التساؤل مطروحا: ما الذي يمكن أن يحدث عقب هذه الثورات؟ غالبا ما سنجد شيئا طبيعيا من الفوضى الاجتماعية على نطاق واسع، يصعب التنبؤ بفترة بقائه؛ لأنه غالبا ما يعتمد على الظروف المحلية، جنبا إلى جنب مع الاعتبارات الإقليمية والدولية. وبهذا يكون ما يحدث من عنف الآن شيئا متوقعا؛ لأن ثورات الربيع العربي لا تختلف نتائجها الحتمية عن السياق الآيديولوجي لنتائج الثورات الأخرى في أدبيات العلوم السياسية؛ فإذا أضفنا إلى ذلك عدم وجود قائد أو زعيم، فسنجد عدم الاستقرار والاضطراب وإشاعة الفوضى والقلاقل.
وأضافت البيضاني أن الحالة اليمنية مختلفة شيئا ما عن غيرها، فكل ثورة مهما تشابهت بعض نتائجها وأحداثها مع غيرها، تبقى لها خصوصيتها لجهة مضمونها وشكلها. فلا يمكن أن نضع كل الثورات في قالب واحد؛ فاليمن دولة تعاني من مشكلات البطالة، كما ظهر فيها تصدع جديد، وتأزم الموقف بين السنة والشيعة حتى أوشك على الانفجار. فالحوثيون مثلا، أحد أبرز مشكلات اليمن الحقيقية، لأنهم يقومون بالتصعيد سياسيا وعسكريا، ولديهم مشروع مرسوم من إيران، يريدون تنفيذه من خلال استغلال الأزمة السياسية وضعف أجهزة الدولة. ولذلك يقومون بتصعيد الأوضاع الأمنية والسياسية بقرية دماج شمال اليمن، بمحاولة السيطرة عليها بشكل كامل، ومواجهة القوى الأخرى كقبائل حاشد، وإفشال أي محاولة للاتفاق على بسط سيطرة الدولة ووقف أعمال العنف. وامتلاك هذه الجماعة للأسلحة يساعدها على مواجهة جميع القوى في المنطقة، وهو أمر خطير جدا يظهر مدى الدعم الذي تتلقاه هذه الجماعة من إيران وحلفائها. وفي الجانب الآخر، هناك حراك جنوبي يحاول أن يستفيد من الأزمة السياسية والأمنية لإعادة توازن العلاقة مع الشمال. ومن ثم، فأنا أرى أن تهميش الجنوب وعدم المساواة بينه وبين أبناء الشمال، هو الأساس في المشكلة الجنوبية، مما أدي إلى ارتفاع أصوات متطرفة كثيرة - إن لم تكن غالبة - تنادي بالانفصال، علما بأن الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، وهو من محافظة أبين الجنوبية، كان قد حسم الجدل حول شكل الدولة الاتحادية المنتظرة، معلنا المضي نحو دولة اتحادية متعددة الأقاليم، والبعد عن المركزية، وطرحه الحوار الوطني.
من ناحية أخرى، نجد ضمن المشكلات الكبيرة في اليمن وجودا لـ«القاعدة»، إذ يبدو حضورها وقوتها في اليمن ظاهرين ومتبديين في هجماتها، حيث يعد اليمن بالنسبة لها من أكبر مراكز حضورها في المنطقة. وهي تتواجه مع الدولة اليمنية، التي تتلقى مساعدة لمواجهة هذه المنظمة الإرهابية من دول عدة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. ومن هنا فإن عدم الاستقرار السياسي والأمني في اليمن يساعد «القاعدة» على البقاء وجذب من يؤمن بفكرها، ولذلك أصبحت أحد عوامل عدم الاستقرار في اليمن. وحول الحالة الليبية قال المفكر الليبي الدكتور إبراهيم قويدر، خبير الاجتماع السياسي والرئيس الأسبق لمنظمة العمل العربية، لـ«الشرق الأوسط»: «إن تسمية الربيع العربي التي تطلق على انتفاضات الشعوب العربية ضد معاناتهم من الظلم والفقر والعوز وكرامة الإنسان وحقوقه، لم يطلقه أصحاب هذه الانتفاضات، بل سميت نيابة عنهم لتزيين فعلهم بأنه سيكون الربيع الذي سيسعد فيه الإنسان العربي في هذه الأقطار. وكما سمي لهم هذا الاسم، سعى من سموه أو ساهموا في تسميته للتدخل في هذه الانتفاضات الشعبية، وتحويل مسارها وفقا لما يرغبونه لها من توجهات تسهم في تحقيق أغراضهم هم أولا، ومن ثم تكييف ما تبقى لتحقيق الأهداف التي قامت من أجلها هذه الانتفاضات. الثورات العربية، أو الانتفاضات، في بداياتها، في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، وكذلك في أيامها الأولى وأسابيعها، بل وحتى أشهرها الأولى، كانت، في بعض البلدان، صادقة المشاعر، وطنية التوجه، تسعى إلى الخير والإصلاح وتغيير مسار الحكم الظالم، إلى مسار يحقق للإنسان العربي ما سبق لي الإشارة إليه. لكن العنف المفرط الذي واجهت به الأنظمة هذه المظاهرات والانتفاضات السلمية، خاصة في ليبيا وسوريا، حولتها إلى حرب ما بين شباب هذه الثورات والأنظمة الحاكمة. هذه الحرب كانت فرصة سانحة وجيدة وأرضا خصبة لدخول التنظيمات المسلحة، بدعوى دعم الثوار ضد هذا الظلم والطاغوت القذافي في ليبيا والأسد في سوريا. ورحب الشباب الثوري وبحسن نية، في البداية، بهذا العون. وكان في ليبيا أن سقط النظام القمعي وانتصر الشباب، وشهد لهؤلاء المسلحين ببلائهم الجيد أثناء المعارك، وأنهم كانوا من الأسباب الرئيسة لانتصارهم ضد القذافي وكتائبه. لكن مع مرور الوقت، اتضح أن لهؤلاء أجندات أخرى مرتبطة بأجندات خارجية تدعمها دول وتنظيمات. أفاق الشباب والشعب الليبي، وبدأوا معركة أخرى لتحرير أنفسهم وبلادهم من مئات الطغاة الإرهابيين، وحتما سينتصرون في ذلك، رغم صعوبة العملية. بالتالي، لا يمكن لنا أن نقول إن الثورات العربية الشعبية هي التي صنعت هذه المجموعات الإرهابية المسلحة، ولكنهم هم الذين انتهزوا فرصة حاجة هذه الشعوب للتصدي للاستعمال المفرط للقوة من قبل الأنظمة السابقة، فدخلوا بثقلهم في صورة العون والمساعدة وتحولوا إلى أصحاب أطماع في التسلط والسيطرة».
وحول مستقبل هذه الحركات المسلحة داخل بلدان الربيع العربي، يقول مصطفى زهران، الباحث في شؤون حركات الإسلام السياسي والخبير بمركز «سيتا» للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن ثورات الربيع العربي كانت تمثل، بلا شك، أفولا قاعديا وانحسارا للقوى الراديكالية في المنطقة، خاصة بعد التحولات الكبيرة والعميقة في بنى قوى الإسلام السياسي وهياكلها، خاصة السلفية منها. ولا يعني ذلك أنه في مقابل تمدد قوى الإسلام السياسي وتصدرها للمشهد، أن القوى الراديكالية الأخرى اندثرت أو انتهت، أو في طريقها للزوال. إنما كانت تتحين الفرصة للانقضاض على مشروعيهما «المشروع الإسلامي الوليد»، و«مشروع الدولة والنظام القائم». بيد أن تعثر الإسلام السياسي، ومن ثم الإطاحة به في مصر على وجه الخصوص، كان عاملا رئيسا في بعث الحالة الراديكالية من جديد، في المشهدين السياسي والاجتماعي، خاصة بعد انضمام عناصر جديدة من داخل الحركة الإسلامية التقليدية، إلى الأخرى الراديكالية، نتيجة تصاعد روح المظلومية مجددا بين أبناء الحركة الإسلامية، لما باتوا ينظرون إليه من أحداث الثالث من يوليو (تموز) على أنه انقلاب على رئيس شرعي. تمخض المشهد عن جماعات عنف، مثل أنصار بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس، وأنصار الشريعة، لتضعنا على بدايات مرحلة جديدة مع الحالة الراديكالية «قاعدية» برداء التسعينات. وعندما يتسع الطوق ويجري الحديث عن المشهد السوري، نجد أن المذهبية لعبت دورا رئيسا في تزكية الاقتتال الطائفي. ولا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال دور «حزب الله» وإيران في إشعال نار الفتنة.
كل هذه العوامل دفعت نحو مزيد من الوجوه الراديكالية في المنطقتين العربية والإسلامية. وفي ظني أن الحل الأمني وحده ليس كافيا، بل من الأهمية بمكان إعادة النظر في إقصاء تيارات الإسلام السياسي عن المشهد المصري، ولزوم دمجه مرة أخرى لكي تتوحد الرؤية في التعامل الاستئصالي مع جماعات العنف. ومطارحة الفكر ومجابهته بالفكر وليس من خلال القنوات الأمنية وحسب. ولا يعني هذا انتفاء التعامل الأمني، إنما تنظيمه ووضعه في إطار القانون بلا إفراط أو تفريط. ورغم كل هذه التحليلات، فإن رئيس هيئة البحوث العسكرية الأسبق اللواء محمود خلف، الخبير الاستراتيجي في أكاديمية ناصر العسكرية، يرى شيئا آخر؛ فقد أكد لـ«الشرق الأوسط» أن كل ما يتردد عن تلك التنظيمات الإرهابية لا وجود له على أرض الواقع، وأنه لا يوجد تنظيم إرهابي سوى الإخوان المسلمين، وفيما عدا ذلك توجد خلايا أو أفراد. وقال: «أراهن أن ما يطلق عليه (القاعدة) ليس له وجود، وكل ما يطرح من أسماء لتنظيمات إرهابية هي غير موجودة، وإنما يثار فقط للتخويف وإرهاب الناس. وحتى ما يثار على الحدود الليبية يرجع في حقيقته إلى ظاهرة تهريب السلاح، وهي عمليات يجري قصفها». وأضاف أن إطلاق «الربيع العربي» على ما حدث ليس صحيحا، لأنه لم يكن سوى مؤامرة كاملة الأوصاف في إطار نظرية الفوضى الخلاقة التي دعت إليها رايس باستغلال عدم ثبات بعض الأنظمة في المنطقة، ومنها مصر. ولكن في كل الأحوال، فإن الفوضى لا يمكن أن تخلق إلا الفوضى، والواقع في الدول العربية يؤكد ذلك. لكن وضع مصر مختلف، باعتبارها صاحبة أقدم نظام دولة وأقدم جيش، ولهذا كانت متفردة ومتميزة في مواجهة الأمر، بدليل مضيها قدما وعدم تعطلها في خطة الطريق، رغم كل محاولات الإخوان الإرهابيين. إن ما يفعلونه هو مجرد طبل أجوف.



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.