تبعات {الربيع العربي}.. ميليشيات مسلحة وفوضى ودمار

نوعية جديدة من تنظيمات وإرهابيين استغلوا نتائجه وطمعوا في السلطة

صورة ارشيفية لعنصرين من إحدى الميليشيات في العاصمة الليبية طرابلس (أ.ب)
صورة ارشيفية لعنصرين من إحدى الميليشيات في العاصمة الليبية طرابلس (أ.ب)
TT

تبعات {الربيع العربي}.. ميليشيات مسلحة وفوضى ودمار

صورة ارشيفية لعنصرين من إحدى الميليشيات في العاصمة الليبية طرابلس (أ.ب)
صورة ارشيفية لعنصرين من إحدى الميليشيات في العاصمة الليبية طرابلس (أ.ب)

لم يكن متوقعا أن الدول التي احتفلت بإسقاط أنظمتها بثورات شعبية خلال ما عرف بـ«الربيع العربي»، تتحول خلال ثلاث سنوات من هذه التحولات الدراماتيكية، إلى ساحات للقتال والمعارك الطاحنة بين شعوبها والجماعات الإرهابية المختلفة، التي انتشرت بشكل مخيف على أراضيها، وتنتقل بؤر تمركز الإرهاب من أماكنها التقليدية في أعماق آسيا، إلى منطقة الشمال الأفريقي والجزيرة العربية.

عندما اندلعت الثورة التونسية وفتحت الباب أمام الثورة المصرية، ومن بعدها وصل «الربيع العربي» إلى كل من ليبيا واليمن وسوريا، تفاءل الكثيرون، وأطلق المحللون ذلك اللقب على ما كان يجري من ثورات، ظنا منهم أن رياح الثورة ستواصل هبوبها نحو مزيد من الدول. وسادت في حينها نظرة تفاؤلية مليئة بالأحلام التي توسم كثيرون أن يحملها الربيع العربي إلى شعوب المنطقة. لكن الرياح أتت بما لا تشتهيه سفن المتفائلين. وبدلا من نسائم الحرية والديمقراطية، وبشائر الرخاء والاستقرار التي كانوا ينتظرونها، فجعت شعوب المنطقة نتيجة لانتشار الجماعات المسلحة والإرهابية بشكل سرطاني، مستغلة الفراغ السياسي والأمني الناشئ في تلك الدول.
وقد ظهرت على الساحة تنظيمات عدة مسلحة، أعلنت عن نفسها من خلال عمليات إرهابية، أو التهديد بتنفيذ عمليات عنفية، مثل جماعة «أنصار بيت المقدس»، و«جند الإسلام»، و«كتيبة النصرة»، و«التكفير والجهاد» في مصر، و«درع ليبيا»، و«ميليشيات الزنتان» القبلية، و«كتائب مصراتة»، و«لواء شهداء 17 فبراير» في ليبيا، بالإضافة إلى تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا ومصر» (دالم).
ولم تسلم تونس صاحبة «ثورة الياسمين» من تمدد الجماعات المسلحة على أراضيها، وتنتمي إجمالا، للتيار السلفي الجهادي، ومنها تنظيم «أنصار الشريعة»، وبعض من جهاديي سوريا ومالي العائدين.
وفي اليمن انبثقت جماعة «أنصار الشريعة» فرعا لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، بالإضافة إلى جماعة الحوثيين. ناهيك عن «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» اللذين ظهرا في سوريا، الأمر الذي يدعو للتساؤل عن علاقة ثورات الربيع العربي بظهور تلك التنظيمات، التي لم يكن لها وجود سابق من قبل.
وقد كشفت بيانات المكتب العربي للشرطة الجنائية، في السنوات الأخيرة، عن أنه جرى رصد 76 تنظيما وحركة إرهابية، منها 32 تنظيما عربيا صرفا. لكن حالة الانفلات الأمني التي أعقبت الثورات العربية جعلت الواقع أسوأ بكثير مما رسمته تلك الأرقام، في ظل الإعلان عن وجود ما يقرب من 1700 ميليشيا مسلحة في ليبيا وحدها. وفي هذا الإطار، يشير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى إلى أن تفريغ السجون من السجناء في البلدان التي تأثرت بـ«الربيع العربي»، أدى إلى خروج الكثير من الجهاديين، وتكوينهم لتجمعات جديدة تمثل حركات إرهابية خطيرة.
حول ظاهرة التنظيمات الإرهابية المسلحة، قال اللواء محمد نور الدين، مساعد أول وزير الداخلية المصري الأسبق لـ«الشرق الأوسط»، إن كل التنظيمات الدينية المتطرفة والإرهابية، على اختلاف أسمائها، خرجت من عباءة الإخوان المسلمين، بمن فيها «القاعدة»، في إطار التنظيم الخاص الذي أنشأه حسن البنا. وأضاف نور الدين: «لقد رصدنا تنسيقا بين الظواهري والرئيس المعزول محمد مرسي، خلال فترة حكمه. وحتى تلك التنظيمات التي تتظاهر بتكفير مرسي الآن، إنما تفعل ذلك ذرا للرماد. وما يسمى بالربيع العربي لم يكن في حقيقته إلا خريفا ينطوي على مؤامرة ضد البلاد العربية، لأنه كان يرتبط بحلم الشرق الأوسط الجديد لتقسيم هذه الدول لدويلات عدة، حتى لا تكون إسرائيل وحدها الدولة الصغيرة في المنطقة. وعندما حاولوا عمل سايكس بيكو جديد للتقسيم، كان الإخوان هم العنصر الجاهز لتنفيذ هذه المهمة مقابل وصولهم إلى كرسي الحكم. وقد لعبوا جيدا على وتر شعار الثورة: (عيش، حرية، كرامة اجتماعية)، لاستقطاب الناس. لكن الخطة لم تنجح، وانكسرت شوكتهم في مصر. وقد بدأت باقي الدول تستفيق، ومنها ليبيا التي كانوا يجهزون لظهور ما يسمى الجيش الحر على أراضيها. وما كان لمصر أن تقف متفرجة وتترك هذا الاختراق لأمنها، فأصبح لنا آذان هناك، بل وأياد للدفاع عن أنفسنا، وستكون مصر هي الصخرة التي ينكسر عندها الإخوان. ولأن مصر هي دولة المنشأ ودولة المرشد، فإذا انحسر الإخوان فيها وهزموا بالضربة القاضية، فإنهم سينحسرون في ليبيا والسودان وباقي الدول».
وتعليقا على الأرقام المعلنة لأعداد التنظيمات الإرهابية في المنطقة العربية، قالت إيمان رجب، الخبيرة في الجماعات المسلحة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة، لـ«الشرق الأوسط»، إنه من الصعب تقدير عدد التنظيمات الإرهابية على مستوى العالم، أو حتى على مستوى دول الربيع العربي، لأن الأرقام المعلنة في هذا الموضوع تعد بيانات مضللة، خاصة أن هناك نوعين من التنظيمات الإرهابية: الأول محدد القيادة والهيكل كتنظيم القاعدة، وداعش، والنصرة، والتنظيم المحلي للقاعدة في دول المغرب العربي. والثاني، عبارة عن تنظيمات بلا قيادة، وتشمل تنظيم إرهاب الفرد الواحد، أو قد يأخذ شكل الخلية التي لا يتجاوز عدد أعضائها ثلاثة أعضاء أو خمسة. وهي عادة بلا هيكل ولا قائد. وهذا النوع من التنظيمات يصعب تحديد ملامحه بدقة. ومن ثم فإن أي أرقام ترد بشأن التنظيمات الإرهابية إنما هي جزء من الصورة فقط ولا تعبر عن الظاهرة ككل.
وأضافت أن ثورات الربيع العربي ساهمت في ظهور تنظيمات إرهابية جديدة شديدة التعقيد ومتعددة الأبعاد، إلا أن بعضها كان موجودا قبل الثورات، كما في اليمن، لأسباب خاصة بالبلد نفسه، حيث ظهرت التنظيمات المحلية للقاعدة في اليمن، قبل أحداث الربيع العربي، بالإضافة إلى وجود الحوثيين. وهناك تنظيمات إرهابية ظهرت لأسباب خاصة بالإحباط من الواقع السياسي أو الاجتماعي، كما في مصر وتونس. ويعود ظهورها إلى تراجع هيبة الدولة، وضعف المؤسسات الأمنية، وخروج بعض المساجين الأمنيين أثناء الثورات.
أما في ليبيا، فالحالة ترتبط بحدوث انفلات أمني نتيجة لسقوط رأس النظام، وظهور حالة اللادولة.
وتحذر الباحثة إيمان رجب من الثورة الإلكترونية، ودور وسائل التواصل الاجتماعي في انتشار المد الإرهابي الفردي بلا قيادة، بعد أن أصبح من السهل على أي مجموعة أو حتى فرد، أن يتعلم كيف يصنع قنبلة من خلال الإنترنت. وتقول: «لذلك نجد أن كثيرا من العمليات الإرهابية يجري بقنابل بدائية الصنع، مع استثناء الحالة الليبية التي تستخدم فيها أسلحة متقدمة. وتزداد خطورة تأثير وسائل التواصل الاجتماعي مع تزايد جاذبية الأفكار الإرهابية للمتعلمين والمنتمين إلى الطبقات الوسطى، حيث لم تعد قاصرة على المهمشين والبسطاء». كما حذرت من تداخل الإرهاب مع الجريمة المنظمة بتعاون الإرهابيين مع تجار السلاح والمخدرات، في إطار تبادل المصالح. وهذا ما يزيد الظاهرة تعقيدا، ويجعل المعالجة الأمنية لانتشار التنظيمات المسلحة في العالم غير كافية وحدها.
وقال الدكتور حميد الهاشمي، الباحث العراقي في علم الاجتماع بالمركز الوطني للبحث الاجتماعي في لندن، لـ«الشرق الأوسط»، إن غياب الأمن وخاصة ذلك المرتبط بسلطة القانون، وانتشار السلاح يعدان أبرز سببين لانتشار الفوضى وما ينتج عنها من عنف؛ فغياب القانون يدفع الناس إلى الاحتكام إلى السلاح لحل خصوماتهم، فضلا عن اعتداء الذين لا يجدون رادعا لوقف تجاوزاتهم وأطماعهم في سلب غيرهم، أو البلطجة عليهم. وإن الطبيعة الديكتاتورية للأنظمة السابقة قد خلقت نوعا من انفصام العلاقة بين المواطن والدولة، على اعتبار أن ثمة ربطا تقليديا في الذهنية البسيطة، بين الحكومة والدولة. وبالتالي تجسد ذلك في الاعتداء على الممتلكات العامة، وفرض وجود تلك الجماعات بالقوة. وتبدى للمتابع أن هناك جماعات متعطشة للعنف وكأنها مارد خرج من قمقم. وقال: «لقد تجلى نوعان من الجماعات المسلحة التي ظهرت في أعقاب ثورات الربيع العربي، هما: الجماعات الدينية في كل حالات بلدان الربيع العربي، والميليشيات القبلية في النموذج الليبي خاصة، وأحيانا في اليمن. ووفقا لهذا التقسيم، فهناك نوعان من ادعاء الحق أو ادعاء الشرعية لدى هذين النوعين من الجماعات المسلحة (الدينية والقبلية)؛ فالدينية تدعي الشرعية الإلهية، في حين تدعي الجماعات القبلية (الشرعية الثورية). فهي التي قاتلت الديكتاتور وأسقطته، وبالتالي لا تتصور أن يجري التخلي عنها بهذه الكيفية. فهي لا ترضى الاندماج بالأجهزة الأمنية، ولا أن تحل نفسها وتعود إلى الحياة المدنية التي كانت عليها في السابق. أصبحت لديها حالة من التعايش مع السلاح، والشعور بالقوة المادية والمعنوية. إنه شعور بنشوة الانتصار الذي لا يريد أن يفارقهم». وأضاف أن هوية الجماعات الدينية وآيديولوجيتها واضحة. وهي السعي إلى مسك السلطة وفرض رؤيتها على المجتمع. في حين أن مطالب الجماعات أو الميليشيات القبلية قد تمتد إلى مديات أوسع، تحت لافتة الجهوية (المدينة أو البلدة التي تنحدر منها)، التي هي في واقع الحال قبلية، لأن المدن في هذا النموذج (الليبي خاصة)، تمثل بنى قبلية منسجمة، أي تجد مدينة تحمل اسم قبيلة معينة، ويحمل مسلحوها لافتة (ثوار تلك المدينة)، مثل ثوار الزنتان. إن هذه الصيغ من استمرار مسك السلاح والتمرد على سلطة الدولة، هي نوع من تشظي الهوية والانقسام المجتمعي. فالجماعات القبلية هذه تعبر عن هويات فرعية، وتسعى لفرض مكاسب أبعد من أن تفسر على أنها مغانم فردية يبحث عنها محاربون. وكذا الجماعات الإسلامية السلفية خاصة، تشعر باغتراب ونوع من العزلة المجتمعية إزاء منهجها العنفي، وتجد أن الحل في استمرار مسك السلاح وفرض الأمر الواقع.
بالمقابل، لا يمكننا أن نتجاوز عوامل قلة التعليم في مجتمعاتنا، والظروف الاقتصادية الصعبة في غالبية بلدان الربيع العربي، وضعف تقاليد الديمقراطية التي تحتاج إلى وقت ومراحل حتى يجري تعلمها والتدرب عليها، ومن ثم هضمها وتمثيلها، لنشهد ثمار التحول. كل هذا، إلى جانب ما سبق، يمكن أن يفسر لنا هذا الانفلات. وحسبنا أن نصف المرحلة بأنها «انتقالية»، وهي حتمية، سواء طالت أم قصرت. وكلاهما، طول أمدها وكذلك قصرها، يتناسب طرديا مع عوامل الانقسام المجتمعي، والمرحلة الديكتاتورية السابقة، وثمن التغيير، أي كلما كان باهظا، طال أمد المرحلة الانتقالية.
في تونس، قال الخبير الأمني والاستراتيجي الدكتور مازن الشريف لـ«الشرق الأوسط»، إن الربيع العربي - إن جازت العبارة بعد كل الموت الذي حط على المنطقة - كان فيه من باب التحقق، ملامسة لأحلام الشعوب العربية. بمعنى أن الثورة التونسية، كانت تحقق حلم الحرية والكرامة من منظور الشعوب العربية وحتى شعوب العالم. وهو بريق سرعان ما أرادت شعوب كثيرة النسج على منواله، لكن تداعي الأنظمة وقيام ثورات أخرى لم يكن عفويا ولا بريئا في معظمه. وكان هناك من استثمر في الثورات بشكل أو بآخر، كل في غاية يقصدها ومطلب يريده. والجماعات المسلحة والإرهابية طرف أساسي ضمن الأطراف المستفيدة من فوضى ما بعد الربيع، ليكونوا علامات على رياح الخريف العاتية. صحيح أن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب، كان له نشاط من قبل، وسبقته جماعات مسلحة ضربت بقوة في الجزائر طيلة عقد من الزمن، وفي الصومال، وأرجاء من أفريقيا، وكذا في العراق وخاصة مجموعة الزرقاوي. لكن التطور الذي أعقب الثورات جاء تطورا نوعيا ملحوظا، ينقسم في اعتقادي إلى مناطق ذروة، هي سوريا والعراق، ممثلة بالأساس في «داعش» و«جبهة النصر»، وليبيا مع امتداد إلى مالي ونيجيريا وأفريقيا الوسطى، ثم تونس عبر تنظيم أنصار الشريعة، وتنسيق مع مختار بن مختار في الجزائر وتنظيم «المرابطون»، وتنظيم القاعدة في سيناء الذي تطور إلى «دالم»، أو دولة الإسلام في ليبيا ومصر. وأضاف الشريف أن تونس كانت بداية الربيع، لكن سرعان ما أدى الفشل السياسي للحكومات المتعاقبة، والعمى الاستراتيجي، وحالات الانفلات، إلى تطور المجموعات المسلحة وتهريب كميات كبيرة من الأسلحة من ليبيا، والقيام بعمليات نوعية غير مسبوقة، مثل اغتيال السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وذبح الجنود في الشعانبي، وعمليات الروحية وقبلاط وعلي بن عون وسوسة وغيرها. إن هذا الانتشار لم يكن عبثيا، بل رصدنا وجود تنسيق وتنظيم خاضع للجيوستراتيجيا. وكمختص في الاستشراف، أعتقد أنه سيزداد انتظاما وتنسيقا ويوسع من عملياته ومن تفاعله مع بعضه، وهو ينطوي على خطورة شديدة، ومثال ذلك، إعلان درنة الليبية إمارة إسلامية. وهنالك معلومات عن وجود كل من أبو عياض، زعيم تنظيم أنصار الشريعة في تونس، ومختار بن مختار زعيم تنظيم المرابطين، القادم من الجزائر بعد فشل عملية عين أميناس، أو الهارب من مالي بعد الضربات القوية ضد تنظيمه. وعن رأيه في الظاهرة في اليمن بوصفه من دول الربيع العربي، قال الكاتب السياسي اليمني محسن فضل، في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، إن العنف موجود قبل الربيع العربي، إلا أنه زاد، بنسب كبيرة، بعد اندلاع ثورات الربيع العربي مطلع عام 2011. وقد ظهر تحديدا علی الساحة العربية بشكل أقوی، مما كان عليه سابقا. وسبب ذلك هو أن الربيع العربي أوجد لدی جماعات العنف، منذ بدايته، حالة من الأريحية، فبدأت هذه الجماعات في تنظيم نفسها والعمل علی أن يكون لها دور في المستقبل. إضافة إلی طول عمر بعض ثورات الربيع العربي، وتحولها إلی حالة من حالات الحرب، الأمر الذي جعل جماعات العنف تنخرط فيه لعدد من الأسباب، إما باسم الجهاد والدفاع عن العقيدة أو من أجل التخلص من أنظمة موالية للغرب «الكافر»، حسب تلك الجماعات، أو للسببين معا، سوريا مثالا. كما أن التدخل الخارجي في التحولات الجارية في دول الربيع العربي لم يوجد بدوره نوعا من التوازن الحقيقي بين الأطراف المتصارعة في كل بلد منها، مما ولد العنف وزاد من حدته.
الأهم باعتقادي هو أن ثورات الربيع العربي لم تحقق لشعوبها، حتى اليوم، نوعا من الاستقرار السياسي الحقيقي، مما أدى إلى تردي الأوضاع الأمنية بشكل عام، وساعد الجماعات المتطرفة على ممارسة أنشطتها بشكل طبيعي بعيدا عن الخوف والتستر.
وتعليقا على ذلك، قالت الدكتورة هناء عبد الرحمن البيضاني، أستاذ العلوم السياسية وابنة السياسي اليمني المعروف، في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، إنه مع سوء الأحوال المعيشية، وضعف الإيرادات، وسوء الأوضاع عموما، انتشرت الاحتجاجات بهذه السرعة الكبيرة في أغلب البلدان العربية، وكانت نتيجة حتمية للضغوط التي يتعرض لها الأفراد. ومن ثم كانت بدايات الربيع العربي التي اشتعلت ولا تريد الانطفاء حتى الآن. لكن علينا أن ندرك جيدا أن ثمن زعزعة الاستقرار باهظ التكلفة. وقد دفعت الشعوب العربية هذه الضريبة القاسية، وما زالت تدفعها من لحمها الحي بعد الثورات المتعددة، وفي الحالات التي انتشر فيها استخدام العنف المسلح. لكن يبقى التساؤل مطروحا: ما الذي يمكن أن يحدث عقب هذه الثورات؟ غالبا ما سنجد شيئا طبيعيا من الفوضى الاجتماعية على نطاق واسع، يصعب التنبؤ بفترة بقائه؛ لأنه غالبا ما يعتمد على الظروف المحلية، جنبا إلى جنب مع الاعتبارات الإقليمية والدولية. وبهذا يكون ما يحدث من عنف الآن شيئا متوقعا؛ لأن ثورات الربيع العربي لا تختلف نتائجها الحتمية عن السياق الآيديولوجي لنتائج الثورات الأخرى في أدبيات العلوم السياسية؛ فإذا أضفنا إلى ذلك عدم وجود قائد أو زعيم، فسنجد عدم الاستقرار والاضطراب وإشاعة الفوضى والقلاقل.
وأضافت البيضاني أن الحالة اليمنية مختلفة شيئا ما عن غيرها، فكل ثورة مهما تشابهت بعض نتائجها وأحداثها مع غيرها، تبقى لها خصوصيتها لجهة مضمونها وشكلها. فلا يمكن أن نضع كل الثورات في قالب واحد؛ فاليمن دولة تعاني من مشكلات البطالة، كما ظهر فيها تصدع جديد، وتأزم الموقف بين السنة والشيعة حتى أوشك على الانفجار. فالحوثيون مثلا، أحد أبرز مشكلات اليمن الحقيقية، لأنهم يقومون بالتصعيد سياسيا وعسكريا، ولديهم مشروع مرسوم من إيران، يريدون تنفيذه من خلال استغلال الأزمة السياسية وضعف أجهزة الدولة. ولذلك يقومون بتصعيد الأوضاع الأمنية والسياسية بقرية دماج شمال اليمن، بمحاولة السيطرة عليها بشكل كامل، ومواجهة القوى الأخرى كقبائل حاشد، وإفشال أي محاولة للاتفاق على بسط سيطرة الدولة ووقف أعمال العنف. وامتلاك هذه الجماعة للأسلحة يساعدها على مواجهة جميع القوى في المنطقة، وهو أمر خطير جدا يظهر مدى الدعم الذي تتلقاه هذه الجماعة من إيران وحلفائها. وفي الجانب الآخر، هناك حراك جنوبي يحاول أن يستفيد من الأزمة السياسية والأمنية لإعادة توازن العلاقة مع الشمال. ومن ثم، فأنا أرى أن تهميش الجنوب وعدم المساواة بينه وبين أبناء الشمال، هو الأساس في المشكلة الجنوبية، مما أدي إلى ارتفاع أصوات متطرفة كثيرة - إن لم تكن غالبة - تنادي بالانفصال، علما بأن الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، وهو من محافظة أبين الجنوبية، كان قد حسم الجدل حول شكل الدولة الاتحادية المنتظرة، معلنا المضي نحو دولة اتحادية متعددة الأقاليم، والبعد عن المركزية، وطرحه الحوار الوطني.
من ناحية أخرى، نجد ضمن المشكلات الكبيرة في اليمن وجودا لـ«القاعدة»، إذ يبدو حضورها وقوتها في اليمن ظاهرين ومتبديين في هجماتها، حيث يعد اليمن بالنسبة لها من أكبر مراكز حضورها في المنطقة. وهي تتواجه مع الدولة اليمنية، التي تتلقى مساعدة لمواجهة هذه المنظمة الإرهابية من دول عدة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. ومن هنا فإن عدم الاستقرار السياسي والأمني في اليمن يساعد «القاعدة» على البقاء وجذب من يؤمن بفكرها، ولذلك أصبحت أحد عوامل عدم الاستقرار في اليمن. وحول الحالة الليبية قال المفكر الليبي الدكتور إبراهيم قويدر، خبير الاجتماع السياسي والرئيس الأسبق لمنظمة العمل العربية، لـ«الشرق الأوسط»: «إن تسمية الربيع العربي التي تطلق على انتفاضات الشعوب العربية ضد معاناتهم من الظلم والفقر والعوز وكرامة الإنسان وحقوقه، لم يطلقه أصحاب هذه الانتفاضات، بل سميت نيابة عنهم لتزيين فعلهم بأنه سيكون الربيع الذي سيسعد فيه الإنسان العربي في هذه الأقطار. وكما سمي لهم هذا الاسم، سعى من سموه أو ساهموا في تسميته للتدخل في هذه الانتفاضات الشعبية، وتحويل مسارها وفقا لما يرغبونه لها من توجهات تسهم في تحقيق أغراضهم هم أولا، ومن ثم تكييف ما تبقى لتحقيق الأهداف التي قامت من أجلها هذه الانتفاضات. الثورات العربية، أو الانتفاضات، في بداياتها، في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، وكذلك في أيامها الأولى وأسابيعها، بل وحتى أشهرها الأولى، كانت، في بعض البلدان، صادقة المشاعر، وطنية التوجه، تسعى إلى الخير والإصلاح وتغيير مسار الحكم الظالم، إلى مسار يحقق للإنسان العربي ما سبق لي الإشارة إليه. لكن العنف المفرط الذي واجهت به الأنظمة هذه المظاهرات والانتفاضات السلمية، خاصة في ليبيا وسوريا، حولتها إلى حرب ما بين شباب هذه الثورات والأنظمة الحاكمة. هذه الحرب كانت فرصة سانحة وجيدة وأرضا خصبة لدخول التنظيمات المسلحة، بدعوى دعم الثوار ضد هذا الظلم والطاغوت القذافي في ليبيا والأسد في سوريا. ورحب الشباب الثوري وبحسن نية، في البداية، بهذا العون. وكان في ليبيا أن سقط النظام القمعي وانتصر الشباب، وشهد لهؤلاء المسلحين ببلائهم الجيد أثناء المعارك، وأنهم كانوا من الأسباب الرئيسة لانتصارهم ضد القذافي وكتائبه. لكن مع مرور الوقت، اتضح أن لهؤلاء أجندات أخرى مرتبطة بأجندات خارجية تدعمها دول وتنظيمات. أفاق الشباب والشعب الليبي، وبدأوا معركة أخرى لتحرير أنفسهم وبلادهم من مئات الطغاة الإرهابيين، وحتما سينتصرون في ذلك، رغم صعوبة العملية. بالتالي، لا يمكن لنا أن نقول إن الثورات العربية الشعبية هي التي صنعت هذه المجموعات الإرهابية المسلحة، ولكنهم هم الذين انتهزوا فرصة حاجة هذه الشعوب للتصدي للاستعمال المفرط للقوة من قبل الأنظمة السابقة، فدخلوا بثقلهم في صورة العون والمساعدة وتحولوا إلى أصحاب أطماع في التسلط والسيطرة».
وحول مستقبل هذه الحركات المسلحة داخل بلدان الربيع العربي، يقول مصطفى زهران، الباحث في شؤون حركات الإسلام السياسي والخبير بمركز «سيتا» للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن ثورات الربيع العربي كانت تمثل، بلا شك، أفولا قاعديا وانحسارا للقوى الراديكالية في المنطقة، خاصة بعد التحولات الكبيرة والعميقة في بنى قوى الإسلام السياسي وهياكلها، خاصة السلفية منها. ولا يعني ذلك أنه في مقابل تمدد قوى الإسلام السياسي وتصدرها للمشهد، أن القوى الراديكالية الأخرى اندثرت أو انتهت، أو في طريقها للزوال. إنما كانت تتحين الفرصة للانقضاض على مشروعيهما «المشروع الإسلامي الوليد»، و«مشروع الدولة والنظام القائم». بيد أن تعثر الإسلام السياسي، ومن ثم الإطاحة به في مصر على وجه الخصوص، كان عاملا رئيسا في بعث الحالة الراديكالية من جديد، في المشهدين السياسي والاجتماعي، خاصة بعد انضمام عناصر جديدة من داخل الحركة الإسلامية التقليدية، إلى الأخرى الراديكالية، نتيجة تصاعد روح المظلومية مجددا بين أبناء الحركة الإسلامية، لما باتوا ينظرون إليه من أحداث الثالث من يوليو (تموز) على أنه انقلاب على رئيس شرعي. تمخض المشهد عن جماعات عنف، مثل أنصار بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس، وأنصار الشريعة، لتضعنا على بدايات مرحلة جديدة مع الحالة الراديكالية «قاعدية» برداء التسعينات. وعندما يتسع الطوق ويجري الحديث عن المشهد السوري، نجد أن المذهبية لعبت دورا رئيسا في تزكية الاقتتال الطائفي. ولا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال دور «حزب الله» وإيران في إشعال نار الفتنة.
كل هذه العوامل دفعت نحو مزيد من الوجوه الراديكالية في المنطقتين العربية والإسلامية. وفي ظني أن الحل الأمني وحده ليس كافيا، بل من الأهمية بمكان إعادة النظر في إقصاء تيارات الإسلام السياسي عن المشهد المصري، ولزوم دمجه مرة أخرى لكي تتوحد الرؤية في التعامل الاستئصالي مع جماعات العنف. ومطارحة الفكر ومجابهته بالفكر وليس من خلال القنوات الأمنية وحسب. ولا يعني هذا انتفاء التعامل الأمني، إنما تنظيمه ووضعه في إطار القانون بلا إفراط أو تفريط. ورغم كل هذه التحليلات، فإن رئيس هيئة البحوث العسكرية الأسبق اللواء محمود خلف، الخبير الاستراتيجي في أكاديمية ناصر العسكرية، يرى شيئا آخر؛ فقد أكد لـ«الشرق الأوسط» أن كل ما يتردد عن تلك التنظيمات الإرهابية لا وجود له على أرض الواقع، وأنه لا يوجد تنظيم إرهابي سوى الإخوان المسلمين، وفيما عدا ذلك توجد خلايا أو أفراد. وقال: «أراهن أن ما يطلق عليه (القاعدة) ليس له وجود، وكل ما يطرح من أسماء لتنظيمات إرهابية هي غير موجودة، وإنما يثار فقط للتخويف وإرهاب الناس. وحتى ما يثار على الحدود الليبية يرجع في حقيقته إلى ظاهرة تهريب السلاح، وهي عمليات يجري قصفها». وأضاف أن إطلاق «الربيع العربي» على ما حدث ليس صحيحا، لأنه لم يكن سوى مؤامرة كاملة الأوصاف في إطار نظرية الفوضى الخلاقة التي دعت إليها رايس باستغلال عدم ثبات بعض الأنظمة في المنطقة، ومنها مصر. ولكن في كل الأحوال، فإن الفوضى لا يمكن أن تخلق إلا الفوضى، والواقع في الدول العربية يؤكد ذلك. لكن وضع مصر مختلف، باعتبارها صاحبة أقدم نظام دولة وأقدم جيش، ولهذا كانت متفردة ومتميزة في مواجهة الأمر، بدليل مضيها قدما وعدم تعطلها في خطة الطريق، رغم كل محاولات الإخوان الإرهابيين. إن ما يفعلونه هو مجرد طبل أجوف.



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.