هل دخلت البشرية ثورة رابعة؟

محاولة تأسيس لفلسفة تتلاءم والثورة المعلوماتية

هل دخلت البشرية ثورة رابعة؟
TT

هل دخلت البشرية ثورة رابعة؟

هل دخلت البشرية ثورة رابعة؟

صدرت في سبتمبر (أيلول) الماضي ترجمة قام بها الدكتور لؤي عبد المجيد السيد لكتاب جديد بعنوان كبير هو: «الثورة الرابعة» وعنوان فرعي هو: «كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني» لمؤلفه الأستاذ المتخصص في فلسفة وأخلاقيات المعلومات بجامعة أكسفورد لوتشيانو فلوريدي، وذلك عن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية. وهو الكتاب الذي تم تأليفه بطموح كبير هو محاولة تأسيس لفلسفة تتلاءم والإغراق المعلوماتي الذي يغمر البشرية ويقلب كياننا رأساً على عقب، إلى حد يمكن إعلان أننا أمام ثورة جديدة تعيد صياغة مشهدنا وتشكل حياتنا بملامح لم يعهدها الإنسان من قبل. فلنقف عند بعض ما جاء في هذا الكتاب من أفكار.
ينعت مؤلف الكتاب هذه الثورة المعلوماتية بالرابعة على أساس أن البشرية قد مرت في الزمن الحديث بثلاث ثورات قبل ذلك، وهي: الثورة الفلكية الكوبيرنيكية والثورة الداروينية البيولوجية والثورة النفسية الفرويدية، لتكون الثورة الرابعة هي ثورة الغلاف المعلوماتي، والمتمثلة في كل الموجة العارمة من التكنولوجيا الرقمية القادرة على معالجة كم خيالي من البيانات التي تدخلنا حقبة جديدة تتجاوز التأريخ إلى التاريخ المتسارع، الأمر الذي بدأ يصنع لنا فهماً للعالم وللذات وللآخر، مغايراً تماماً عما ألفناه، خصوصاً نحن الجيل الذي عاش تفاصيل ما قبل الانفجار المعلوماتي.
إن واقعنا أصبح يتغير بسلاسة أمام أعيننا وتحت أقدامنا وبصورة تصاعدية ومن دون توقف، فالبشرية، بحسب المؤلف، هي في لحظة تودع فيها التاريخ للدخول نحو ما يسميه بـ«التاريخ المفرط» جراء حدوث متغيرات أهمها: انتشار تسونامي الثقافة الرقمية والذيوع المتصاعد لنبوءات «ما بعد الإنسان»، وهو ما يدل على أننا في مرحلة انتقالية، لا تزال غامضة وتحتاج إلى صياغة فلسفية جادة لبناء أسسها الصلبة التي تقوم وراءها وتبحث لها عن منطقها الداخلي الكامن وراءها، وهو الرهان الذي يحاول المؤلف أن يصل إليه، فالكتاب يعد فلسفياً في عمومه، رغم أنه موجه للجميع.
يرى المؤلف أن كثرة التقنيات وانتشارها الواسع والمتمثلة في: «تكنولوجيا النانو، وإنترنت الأشياء، والويب، والحوسبة السحابية، وتطبيقات الهواتف الذكية، والشاشات التي تعمل باللمس، ونظام تحديد المواقع، والطائرة من دون طيار، والسيارة من دون سائق، ومعدات الحوسبة القابلة للارتداء، ووسائط التواصل الاجتماعي، والحرب السبيرانية...» ستجعل المولع بها، أو الذي يخشاها حد الرهاب، يطرح السؤال الآتي: وماذا بعد؟ لكن الفيلسوف على خلاف ذلك سيتساءل متعجباً عن ماذا يكمن وراء كل ذلك؟ وهل من منظور يجمعها في توليفة متناغمة تسدد لنا الطريق وتجعلنا على بينة من أمرنا؟
قد يعتقد المرء أن تكنولوجيا المعلومات هي مجرد وسائل للتواصل والتفاعل مع العالم والآخر، لكن الحقيقة هي أنها أصبحت قوى بيئية وأنتربولوجية واجتماعية مفسرة، تشكل عالمنا وتعيد صياغة كيفية ترابطنا بلا هوادة، فعصر الصناعة بدأ يتلاشى ويخلي السبيل إلى عالم الرقميات، ويكفي هنا التذكير بأن 70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لأعضاء مجموعة السبع (كندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأميركية) يعتمد على السلع غير المادية، أي ذات الصلة بالمعلومات وليس بالسلع الزراعية والصناعية، أو لنقل أن اقتصاد هذه المجموعة أصبح قائماً على المعرفة.
إن مجتمع المعلومات له جذور تعود إلى الحضارات الإنسانية الأولى التي اكتشفت الكتابة وساهمت في إخراجنا من الثقافة الشفهية وإدخالنا عصر التدوين ومن ثم ضبط الذاكرة الإنسانية، وهو الأمر الذي سيزداد بروزاً في عصر النهضة مع ظهور الطباعة مع «غوتنبرغ»، لكن مجتمع المعلومات لم يصبح حقيقة كاملة إلا في الآونة الأخيرة، جراء انتشار الرقميات في كل قطاعات الحياة ودخولنا عالم الغلاف المعلوماتي، حيث لم يعد الاكتفاء فقط بنقل البيانات بكم هائل، بل أيضاً معالجتها بشكل ذاتي وبسرعة فائقة، فالأجهزة الإلكترونية تنخفض كلفتها وتزداد قدرة على الحوسبة، وكدليل على ذلك يكفي أن تنتبه إلى سيارة جديدة الآن! لتجدها أنها قد تملكت قدرة على معالجة البيانات بشكل ذاتي وبصورة لم تكن متاحة عند وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» في حقبة الستينات، فالسيارة العادية أصبح لها ما يزيد عن 50 نظاماً تكنولوجياً (الربط بالقمر الاصطناعي، وشاشة رقمية، ونظام انغلاق المكابح، والأقفال الكهربائية، وأنظمة الترفيه، وأجهزة الاستشعار...)، ناهيك على أن حواسبنا لم تعد لها مهمة الحساب فقط، وكذلك هواتفنا لم تعد تهاتف فقط بل هي أصبحت ذكية وتتعامل مع كم هائل من البيانات بطريقة مذهلة وتعالجها بسرعة فائقة. إننا بحق نسير نحو تشكيل فضاء جديد للأجيال المقبلة هو «infosphere» أي الغلاف المعلوماتي.
إن هذا الانقلاب الجذري، أو هذه الثورة الرابعة القائمة على أساس التخمة المعلوماتية والغرق في البيانات الضخمة (Big Data) والقدرة الهائلة على معالجة البيانات وربط العالم بعضه ببعض، التي تجعل الجيل الجديد يدخل التاريخ المفرط، يصاحبه تصور مفاهيمي مروع، وهنا بالضبط يلح المؤلف على ضرورة الفلسفة لكي تضطلع بمهمتها الجسيمة، وذلك بخلقها الدلالات المناسبة لهذه الطفرة، أي محاولتها إعطاء المعنى وإيجادها لمنطق اشتغال الرقميات، وتقديم فهمها للطريقة التي أصبحت تصاغ بها نظرتنا للعالم، أي باختصار عليها أن تضع يدها على «باراديم الغلاف المعلوماتي» أي النموذج الذهني الذي أصبح يشكل تصوراتنا.
يدرك طبعاً المؤلف جسامة هذا المشروع، لكنه يؤكد على أنه فقط سيحاول في كتابه أن يشير إلى ما يحدث من تغيرات تجتاح عالمنا وتسير به من فلسفة التاريخ إلى فلسفة التاريخ المفرط ومن فلسفة الطبيعة إلى فلسفة الإنفوسفير، ومن فهم ذواتنا أنثربولوجيا إلى فهمه انطلاقا من هذه الثورة الرابعة، ومن الفلسفة السياسية إلى تصميم النظم متعددة الوكلاء، والتي لربما هي من ستكون المؤهلة للتعامل مع القضايا العالمية. ورغم أن البعض يعلن مخاوفه من هذا الزلزال الذي يعصف بالمألوف من التصورات، فإن المؤلف جد متفائل من ثورة المعلومات هذه، وما ستقدمه للبشرية من فوائد.
حقاً هو كتاب طموح، ينبه البشرية إلى أننا ننتقل بخطى حثيثة نحو «ما بعد الإنسان».

الثورة الرابعة
المؤلف: لوتشيانو فلوريدي
المترجم: لؤي عبد المجيد السيد
الناشر: سلسلة عالم المعرفة الكويتية، العدد- 452- سبتمبر2017.


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية
TT

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

صدر حديثاً عن «محترف أوكسجين للنشر» في أونتاريو كتابٌ جديد بعنوان: «العودة إلى متوشالح - معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» للكاتب المسرحي الآيرلندي جورج برنارد شو، وقد نقله إلى العربية المترجم السوري أسامة منزلجي. ويأتي الكتاب ضمن سلسلة «أوكلاسيك»، (أوكسجين + كلاسيك = أوكلاسيك) التي يسعى من خلالها المحترف إلى «تقديم الكلاسيكيات بنهج جديد ومغاير عماده الاكتشاف وإعادة الاكتشاف»، وجاء الكتاب في 352 صفحة.

من التقديم:

«نحن هنا أمام كتابٍ يتخذ فيه برنارد شو من المسرحية والحوار والنقد السياسي طريقاً نحو البشرية وهي تعيش إحدى لحظاتها التاريخية الأكثر دماراً، ولنَكُن بعد قراءة الاستهلال حيالَ نظرياتٍ فلسفية وسياسية وأدبية تدفعنا للتفكير في طريقة تفاعلنا مع العالم وقد أمسى نموذج الحضارة على المحك، اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، فلا محيد عن الكوارث التي يُلحقها الإنسان بنفسه وبالطبيعة. فما الذي يحتاج إليه ليصبح أكثر نضجاً وحكمةً؟ يفترض شو أن ثلاثة قرون أو أكثر من عمر الإنسان كفيلة بأن تجعله يبلغ كماله العقلي في مسار تطوّرهِ وتحقيقه غايات وجوده السامية، فهل الامتداد الأفقي للزمن يحقق ذلك؟ من أين نبدأ؟ وأين ننتهي؟ هذا ما يقدمه لنا كتاب (العودة إلى متوشالح) كونه كتاباً يتحدّى الفناء! منطلقُه الأزل ومنتهاه الأبد. يبدأ من آدم وحواء في جنة عدن، وينتهي في عام 31920 ميلادي وقد أمسى بمقدور الإنسان العيش لما يتجاوز الثلاثمائة عام، وصولاً إلى ولادته من بيضة! إنه كتاب عصيٌّ على التصنيف، له أن يجسد تماماً ماهية (الخيال العلمي)، بوصف الخيال مع جورج برنارد شو (1856 - 1950)، يستدعي العلم والفلسفة والفكر بحق، مقدّماً هجائية كبرى لداروين والانتقاء الظرفي، مفضلاً تسميته الانتقاء التصادفي، فإذا استطعنا أن نُثبت أنَّ الكون بأكمله خُلِقَ عبر ذلك الانتقاء، فلن يطيق عيش الحياة إلّا الأغبياء والأوغاد.

يتخذ الكتاب معبره إلى الخيال من حقيقة أن البشر لا يعيشون مدةً كافية، وعندما يموتون يكونون مجرد أطفال، واجداً في لامارك والنشوء الخلّاق سنده، لنكون حيال عملٍ خالدٍ، لا هو مسرحية ولا رواية، بل مزيج بينهما، مسرحية تُقرأ ولا تُجسّد، ورواية يتسيّدها الحوار...

حملت المسرحيات الخمس العناوين التالية: (في البدء)، و(مزمور الأخوان بارناباس)، و(الأمر يحدث)، و(مأساة رجل عجوز)، و(أقصى حدود الفكرة)، وعبر حوارات عميقة حول مكانة العلم والتطور والفن والإبداع يسافر بنا برنارد شو عبر الأزمنة ليناقش الأفكار التي يطرحها أبطاله منذ آدم وحواء مروراً بالزمن الحاضر، ومضيّاً نحو المستقبل البعيد وقد وصلت البشرية إلى ذروتها، وتخلَّص الناس من الحب والجنس والعاطفة، وأصبحوا كائنات منطقية خالصة! لكن عبقرية برنارد شو في هذا الكتاب تكمن في تعامله مع فكرة الخلود، بحيوية وسخرية، مستكشفاً العواقب النفسية لطبيعة العقل البشري الذي يحتاج إليه الإنسان ليعيش ألف عام ويحكم نفسه بنفسه، ويتخلّص من الصراع والحروب والآفات التي تبدأ به وتنتهي بإفنائه»

جورج برنارد شو، كم هو معروف، كاتب مسرحي وروائي ومفكّر وناشط سياسي آيرلندي، وُلد في دبلن عام 1856 وتوفي عام 1950. عُرف بآرائه الساخرة المثيرة للجدل، ونزوعه التقدمي والرؤيوي، واشتراكيته الفابية. ألّف 5 روايات، و60 مسرحية، ضمّنها أفكاره ومقارباته السياسية والتاريخية والفلسفية، عدا عن مئات المقالات والمقدمات الفكرية لأعماله. من مسرحياته: «السلاح والإنسان»، 1894، و«الإنسان والسوبرمان»، 1903، و«بجماليون»، 1913. حين فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1925 رفضها، قائلاً: «أستطيع أن أسامح نوبل على اختراعه الديناميت، لكنْ وحده شيطان بهيئة إنسان من كان بمقدوره اختراع جائزة نوبل»، لكنه عاد وقبل الجائزة بشرط ألا يتلقى قيمتها المالية.

أما أسامة منزلجي فهو مترجم سوري له كثير من الترجمات مثل رواية «ربيع أسود»، 1980، و«مدار السرطان» و«مدار الجدي» وثلاثية «الصلب الوردي»، لهنري ميللر، و«أهالي دبلن» لجيمس جويس، و«غاتسبي العظيم» و«الليل رقيق» و«هذا الجانب من الجنة» لسكوت فيتزجيرالد، ومسرحيات وروايات لتينسي وليامز وبول أوستر وفيليب روث وتيري إيغلتون وآلي سميث وإريكا يونغ.