رغم هجوم النقاد اللاذع... براون لا يزال متربعاً على قمة الروايات الشعبية

كما في كل مولود أدبي لدان براون، كاتب الروايات الشعبيّة الأميركي الأشهر، انقض عليه النقّاد بأقلامهم اللاذعة بلا رحمة فور صدور روايته الثامنة هذا الشهر الماضي، وكأن لهم حساباً مع الرجل لا بد من تصفيته. الرواية الجديدة وهي حملت اسم «الأصل» (Origin)، جاءت خامسة في سلسلة مغامرات دكتور الرموز الأميركي روبرت لانغدون التي تتجوّل بحريّة بين فضاءات الخيال العلمي والتاريخ والحاضر معاً. «لا يبدو أن براون قد تحسّن قيد أنملة في قدرته الكتابية منذ روايته الأخيرة»، كتب أحدهم، بينما علّق آخر «كأن دان يجاهد كي لا يكتب لنا جملة واحدة ذات قيمة أدبيّة حقيقيّة». وبالفعل فقد عاد لنا صاحب رواية «دافنشي كود» (2003) التي كانت تحولت منذ وقت صدورها إلى ما يشبه ظاهرة في عالم الروايات الشعبيّة المعاصرة، مستعيداً ذات الأسلوب المهلهل: 400 صفحة من الثرثرة والأوصاف الفارغة من المضمون - كما لو كنت تقرأ في كتاب مدرسي ضحل -، كما العديد من الكلمات المكرورة، لدرجة أن أيّاً منها لم يعد يعني في النهاية شيئاً. ورغم ذلك كلّه، فإن مبيعات الأسبوع الأوّل من «الأصل» في بريطانيّا تجاوزت المائة ألف نسخة، ويتوقع أن تتجاوز المليون، ربما بحلول فترة الكريسماس نهاية العام، وهذا دون احتساب النسخ الصوتيّة التي بيع منها 14 ألفاً في الأسبوع ذاته، مما يتوّج براون ملكاً على مبيعات الكتب العام الحالي دون منافس تقريباً.
وهو ما يعيد طرح التساؤل الدائم: لماذا تُقبِل جماهير غفيرة على ابتياع كتب دان براون رغم قيمتها الأدبيّة المحدودة؟ ربّما كانت محدوديّة اللغة ذاتها جزءاً لا يتجزأ من سرّ جاذبية كتاباته بين قطاعات جماهيريّة واسعة - والتي يقبل عليها الرجال والنساء كلاهما بشكل متساوٍ وفق بائعي الكتب في لندن - . فهو قادرٌ على طرح أفكار وموضوعات جدليّة مليئة بالغموض والتواطؤات والمصادفات التاريخيّة بلغة ويكيبيدية من النّوع الذي يسهل تقبّله من قبل جيل الإنترنت. كذلك فهو يربط حبكاته المتسارعة بشبكة من مواقع سياحية ذات ثراء تاريخي وتراكم معماري وفني معروفة بقدرتها على جذب ملايين السياح في كل وقت (لندن، باريس، واشنطن، فلورنسا، روما والآن برشلونة ومدريد)، إضافة إلى تقديمه مغامرات مسلية لسوبرمان أميركي استثنائي آخر - الدكتور لانغدون، لكنّه في روايات براون لا يرتدي بذلة كأبطال رابطة العدالة الآخرين، الأمر الذي جعل الكثيرين يتقبلونه كشخصيّة واقعيّة. وفي النهاية فإن براون - بغض النظر عن جودة منتجه - يعرض على جمهوره رؤية متكاملة للعالم يسهل ابتلاعها، لا سيّما وهي ذات نفس أميركي غربي محض، يتوافق وتجذرات العقل الجمعي الغربي، وتريحه على مستوى ما، ولا تتطلب تركيزاً أو معارف سابقة أو حتى قدرات عقليّة متقدّمة.
«الأصل» التي تنقل القرّاء إلى أجواء إسبانيّة بين بيلباو وبرشلونة ومدريد، تبدأ باستدعاء الدكتور الأميركي لانغدون خبير الرّموز - والجاهز أبداً للسفر بغض النظر عن مواعيد المحاضرات في جامعة هارفارد أو تسليم درجات الطلاب - لحضور مؤتمر يعد فيه إدموند كيرش - وهو تلميذ للانغدون عبقري وثري - للكشف عن سرّ خطير يتعلق بأصل الخليقة على نحو يهدد بنفي كل الأديان المعروفة. هذا التلميذ ورغم كراهيّته المطلقة لمؤسسات الدين الرسمي، إلا أنّه يبلغ وقبل وقت قصير من موعد مؤتمره ممثلين بارزين من الأديان الإبراهيميّة الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلامية) بمحتوى اكتشافه كنوع من تحرّز مهني. وبما أن موقع المؤتمر أختير ليكون في متحف غوغينهايم للفن المعاصر فلا بّد بالطبع - وعلى عادة براون - من استعراض الأعمال المشهورة داخل المتحف، ومن ثم توريط أمينة المتحف الحسناء - التي تصادف أنها خطيبة ولي عهد التاج الإسباني - لتتطوّر الأحداث باغتيال كيرش قبل كشفه عن السر بدقائق، ويرث البطل الأميركي تلك المهمّة النبيلة، فينطلق بصحبة الآنسة الحسناء في مغامرات هوليوودية الطراز، مستخدماً طائرات هليكوبتر وسيارات، ومتقاطعاً مع ملك إسبانيا ذاته الذي يصّور في علاقة مثليّة أفلاطونيّة مع أسقف الكنيسة الكاثوليكيّة في البلاد، ومطارداً من قوى محافظة لا تتوانى عن أي قسوة لحماية أسرارها، بينما هو يوظّف ذكاءه الخارق لفك الرموز والأحجيات التي تركها كيرش قبل مقتله.
لانغدون في رواية «الأصل» لا يتطور كشخصية درامية بأي شكل عنه في رواياته الأربع السابقة. فهو ذاته، الدكتور الشديد الذكاء، ساحر النساء، عميق الثقافة، المصاب برهاب الأماكن الضيقة، الذي يفكّر دائماً بما وراء المظاهر المباشرة للأحداث، ويرتدي على الدّوام ساعة طفوليّة تحمل وجه شخصية ديزني المشهورة «ميكي ماوس». وهو مع أناقته الظاهرة، مقاتل عنيد وسباح ماهر وذو ذاكرة لا يسقط منها شيء، ديدنه أنّه ينجح فريداً في النهاية في إنقاذ البشريّة - ربما مع دعم ثانوي من امرأة حسناء دائماً، وهنا على سبيل التغيير أيضاً بمساعدة صديق افتراضي يدعى وينستون من تصميم كيرش ذاته - . وهو في مغامرته الإسبانيّة يفعل ذلك بنشر السرّ الذي توصل إليه تلميذه من خلال ثلاثين صفحة تقريباً يستعرض نصاً علميّاً ملفقاً عن إمكان نشوء الحياة من العدم، وحتميّة تداخل الحياة مع التكنولوجيا في مستقبل البشريّة المقبل. الشيء الجديد الوحيد، ربّما في هذه الرّواية، هو توظيف متحف للفن المعاصر كخلفيّة للنص الروائي، بينما بقيت المغامرات الأربع السابقة للدكتور لانغدون في فضاءات الفنون الكلاسيكيّة والقديمة.
يشرح براون بأن «الأصل» بالذات تعبر عنه شخصيّاً، فهو ابن مدرّس رياضيّات وأمّه تعزف مع فرقة الكنيسة المحليّة، ولذا عاش دائماً بين أقنومي العلم والّدين تحت سقف واحد، بينما كانت الأحجيات طريقة والده الأثيرة في خلق أجواء الإثارة في المنزل فكبّر على عشقها. الباقي بالطبع نتاج زيارة مطوّلة للمواقع الموصوفة في الرواية، إذ انتقل براون بالفعل لإسبانيا هذه المرة وقضى فيها عدّة أشهر، بينما تعكس قراءاته تركيزاً على التاريخ والسياسة والعلوم المعاصرة على حساب الآداب، وهو الذي اعترف أنه لا يقرأ من روايات الآخرين سوى عدة صفحات فقط للاطلاع على أجواء المهنة.
يبدو براون في «الأصل» واعيّاً وبشدة لحقيقة أن دخله من تحويل العمل المكتوب إلى فيلم سينمائي قد يتفوق على أرباح الكتاب، ولذا بدا النّص جاهزاً للاقتباس، وكأنه كتب خصيصاً للممثل الأميركي توم هانكس الذي لعب دور الدكتور لانغدون في الاقتباسات السينمائيّة السابقة عن رواياته.
براون الذي يبدو أنّه ضاق ذرعاً بالنّقاد، قال للصحافيين: «أنا لم أقل يوماً بأنّي ديستوفسكي عصري، لكني أكتب تذّوقي الشخصي لأشياء العالم من حولي، وأتنحى بعدها لأجد أن الناس أحّبت ذائقتي تلك».
مع ذلك كلّه، فبراون اليوم لم يعد مجرد روائي آخر. لقد تبنته المنظومة الرأسماليّة بكليتها، وتواطأت لتنصيبه على قمة الروايات الشعبيّة دور النشر والصحف والمكتبات ومحلات السوبر ماركت، بل وكذلك المتاحف الكبرى والمدن السياحيّة، وأصبحت الدّائرة معروفة للجميع: يكتب براون، يهاجمه النقاد، تروّج له صناعة النشر وبيع الكتب، يشتريه الملايين، يتحوّل إلى فيلم سينمائي هوليوودي، ومن ثمّ يتدفق السّياح على المدن الموصوفة في النص والمتاحف التي تعرض الأعمال المشهورة فيها، وهكذا حتى موعد الكتاب القادم، وإن كانت برشلونة بالصدفة تعيش أجواء سياسيّة محمومة هذه الأيام بسبب مسألة استفتاء كاتالونيا على الاستقلال عن الحكم الإسباني، فلا نعرف فيما إذا كانت ستستفيد المدينة بالفعل من ترويج براون لها.
الكلّ إذن رابح ومستفيد من الظاهرة البراونية، ربما باستثناء من تهمهم القيمة الأدبية للأعمال، وهم قلة لم تَعد تهّم تجار الاستهلاكيّات في شيء.