مفاوضات سد النهضة «تغرق» في «المتاهة» الإثيوبية

القاهرة تبحث عن سيناريوهات جديدة بعد «تعنت» أديس أبابا

وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا خلال زيارتهم موقع السد في أكتوبر الماضي  («الشرق الأوسط»)
وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا خلال زيارتهم موقع السد في أكتوبر الماضي («الشرق الأوسط»)
TT

مفاوضات سد النهضة «تغرق» في «المتاهة» الإثيوبية

وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا خلال زيارتهم موقع السد في أكتوبر الماضي  («الشرق الأوسط»)
وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا خلال زيارتهم موقع السد في أكتوبر الماضي («الشرق الأوسط»)

يبدو أن مصر أدركت أخيرا أن الوقت حان لإيقاف مسلسل مفاوضات، وُصفت بـ«غير المجدية» مع إثيوبيا، حول سد تبنيه الأخيرة على أحد الروافد الرئيسية لنهر النيل، وتقول القاهرة إنه سوف يؤثر سلباً على نصيبها من المياه. وبينما اعتبر مسؤولون وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط» أن إعلان مصر فشل المفاوضات الفنية، جاء متأخرا، في ظل تحذيرات سابقة بلعب إثيوبيا على عامل الزمن، لحين الانتهاء من بناء السد وملئه، ليصبح أمرا واقعا، جاءت تصريحات الحكومة المصرية لتعكس الثقة في قدرتها على اتخاذ إجراءات ومسارات «سياسية» بديلة لحماية أمنها المائي، من بينها الضغط الدولي واللجوء إلى الأمم المتحدة وربما التحكيم، بحسب مصادر دبلوماسية.
يقول مسؤول مصري رفيع، على صلة مباشرة بالمفاوضات، «الخبراء المصريون المشاركون في المفاوضات شكوا للقيادات صراحة أنهم استنفدوا كافة مجهوداتهم ولا فائدة من استمرارها بالوضع الحالي»، معتبرا في تصريح لـ«الشرق الأوسط» «أي حديث (رسمي) عن جهود من أجل حل الأزمة عن طريق المفاوضات، هو سير في نفس المسار الدائري الذي لن يوصلنا إلى شيء».
وفشلت الجولة الأخيرة للمفاوضات، والتي انعقدت في القاهرة يومي 11 و12 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، بين وزراء المياه في مصر والسودان وإثيوبيا، في التوصل لاتفاق بشأن اعتماد التقرير الاستهلالي الخاص بالدراسات الفنية للسد، والمقدم من شركة استشارية فرنسية.
وقال مجلس الوزراء المصري في منتصف الشهر نفسه، إنه «يتم حاليا متابعة الإجراءات الواجب اتخاذها للتعامل مع هذا الوضع على كافة الأصعدة، باعتبار أن الأمن المائي المصري من العناصر الجوهرية للأمن القومي».
لكن الحكومة المصرية لم توضح ماهية تلك الإجراءات التي قد تلجأ إليها القاهرة، لحماية حصتها من مياه النيل، والتي سبق أن وصفها الرئيس عبد الفتاح السيسي في حواره مع جريدة «الشرق الأوسط»، خلال الشهر الجاري، بأنها «مسألة حياة أو موت».
وتعاني مصر من شح في الموارد المائية الأخرى، ولا تكفي حصتها من النهر لسد احتياجها من المياه العذبة، في ظل زيادة سكانية متنامية، حيث تخطى عدد السكان المائة مليون نسمة وفقا لأحدث إحصاء.
ووقعت مصر وإثيوبيا والسودان العام الماضي عقودا مع مكتب استشاري فرنسي لإجراء دراسات فنية على السد، المقرر أن يكتمل بناؤه العام المقبل، لدراسة أضراره المحتملة على مصر والسودان (دولتا المصب لنهر النيل). وتنص العقود على إتمام الدراسات، في 11 شهرا، غير أن المدة انتهت بالفعل قبل عدة أشهر، دون تحقيق أي نتيجة ملموسة.
وتتركز الأزمة الرئيسية في فترة ملء خزان السد، وتطالب مصر بتخفيض السعة التخزينية والمقدرة بـ74 مليار متر مكعب من المياه إلى أقل من النصف.
ويبدو أن الإدراك الإثيوبي لغياب البدائل أمام مصر جعلها تثق في قدرتها على المماطلة. يشير المسؤول المصري، الذي رفض ذكر اسمه لحساسية موقعه، «لدينا نقطة ضعف رئيسية منذ انطلاق المفاوضات عام 2011. وهي أن مصر لا تمتلك نقطة ضغط زمني على إثيوبيا للوصول إلى حل... وعندما طلبنا منهم وقف البناء حتى انتهاء الدراسات الفنية، رفضوا ذلك، وأصبح البناء مستمرا بجانب مفاوضات عبثية، وكلما طالت المفاوضات اكتسب الإثيوبيون مزيدا من الوقت».
ويضيف «حاليا البناء اقترب من النهاية فعليا... ووصلنا لمرحلة ملء السد الذي سيبدأ العام المقبل، ومن ثم علينا أن ندرك خطأنا السابق، فلا يصح الجلوس معهم مرة أخرى في مفاوضات سياسية أو غيرها دون وجود قيود تتعلق بتخزين المياه... فهذا الكلام معناه أنها مفاوضات للمفاوضات وأننا جالسون لالتقاط الصور».
وأظهرت زيارة وزير المياه المصري محمد عبد العاطي، لموقع السد، ببني شنجول على بعد 20 كم من الحدود السودانية، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، اقتراب أديس أبابا من إنهاء الإنشاءات الخرسانية في جسم السد الرئيسي والمساعد، وتركيب عدد من «توربينات» الكهرباء، وتأهيل بحيرة التخزين الملحقة بالسد.
ويقول الدكتور هاني رسلان، خبير المياه بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن «إثيوبيا طوال الوقت السابق كانت حريصة على إدخال مصر في متاهة من الإجراءات وتضييع الوقت، وتأجيل الاجتماعات والتشبث بالرأي»، لافتًا إلى أن «مصر أوضحت للعالم كله أننا بذلنا كل الجهد للوصول لصيغة تعاونية، لكن إثيوبيا أظهرت قدرا كبيرا من سوء النية».

خطورة الأزمة على مصر
تصاعدت الأزمة فعليا منذ منتصف عام 2011، عندما أعلنت إثيوبيا تحويل مجرى النيل الأزرق (أحد الروافد الأساسية لنهر النيل)، من أجل البدء في تشييد سد النهضة العملاق على نهر النيل، بكلفة 4.7 مليار دولار.
ويأتي القدر الأكبر من مياه النيل (ما نسبته 80% من إجمالي الموارد المائية) لمصر من النيل الأزرق. ويقول خبراء مصريون، وهو تقدير تتبناه الحكومة، إن هذا السد يهدد حصة القاهرة التاريخية من المياه، والتي تبلغ 55.5 مليار متر مكعب بما يصل لأكثر من 10 في المائة، كما سيؤدي أيضا لخفض كمية الكهرباء المولدة من السد العالي جنوب مصر، وفي حالة انهياره (سد النهضة)، سيحدث خلل للسد العالي، ويؤدي لغرق بعض المدن المصرية في الجنوب والوسط.
ووفقا لتصريحات وزير الموارد المائية والري المصري الأسبق الدكتور حسام مغازي لـ«الشرق الأوسط»، فإن مصر «تعاني من عجز مائي يقدر بحوالي 19 مليار متر مكعب، وتعتمد على سد هذا العجز من خلال توفير موارد بديلة منها البحث عن آبار للمياه الجوفية وهي غير كثيفة، وإعادة استخدام مياه الصرف الزراعي، إضافة لمياه الأمطار الضعيفة جدا».
ويضيف «هذا الوضع الصعب يجعل حصتنا من مياه النيل غير قابلة لأي نقص، بل نسعى لزيادة إيراداتنا من النهر من خلال التعاون مع دول الحوض». ونوه الوزير السابق إلى أن «فكرة السد تقوم على توليد الكهرباء بمعنى أن يتم احتجاز المياه بهدف توليد الكهرباء، ثم تمر في رحلتها الطبيعية إلى مصر والسودان؛ لكن أثناء فترة التخزين للمياه في السد لتوليد الكهرباء هذه، هي التي سنعاني فيها من العجز المائي، بالإضافة إلى التأثيرات البيئية والاقتصادية».
وفي السياق ذاته، يقول الخبير الاقتصادي أحمد السيد النجار، في تحليل له، «مصر تستهلك كل قطرة من حصتها من مياه النيل وتلجأ لمياه الصرف المعالج وغير المعالج، وتستنزف مياهها الجوفية بمعدلات جائرة في بعض المناطق، فإن المساس بأي قطرة من حصتها في مياه النيل يعني الاعتداء الغاشم والجسيم على حياة البشر والثروتين النباتية والحيوانية في مصر».
ويؤكد «حتى لو لم تستخدم إثيوبيا مياه بحيرة سد النهضة في الري، فإن البخر والتسرب والتشرب من بحيرة السد كفيل وحده باقتطاع حصة مهمة من مياه النيل الأزرق التي تتدفق لمصر والسودان.. موقع بحيرة سد النهضة في منطقة مدارية حارة سيجعلها تفقد أكثر من 4 مليارات متر مكعب من المياه بالبخر سنويا لدى امتلاء تلك البحيرة. كما تبلغ كميات المياه التي ستُفقد بالتسرب والتشرب ضعف ما سيُفقد بالبخر في البداية، ومع تشبع التربة المحيطة بالبحيرة سيتراجع ما يفقد بالتسرب والتشرب للنصف».

6 أعوام من المماطلة
منذ عام 2011، وعلى مدار نحو 6 أعوام، نفذت الدولتان ومعهما السودان، جولات مكوكية من المفاوضات، تخللها تشكيل للجان وزارية بمشاركة خبراء دوليين، غير أنها لم يكتب لها النجاح. كما شملت تلك الفترة حربا كلامية وصلت إلى حد أزمة دبلوماسية بسبب اقتراح لسياسيين مصريين خلال فترة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي عام 2012، بالعمل على تدمير السد ودعم المتمردين المناهضين للحكومة الإثيوبية، ما أدى لتوقف الحوار بين البلدين.
لكن المفاوضات بدأت تأخذ مسارا أكثر جدية مع تولي الرئيس السيسي الحكم عام 2014. حيث تم تشكيل لجنة من 12 مفاوضا مقسمة بين الدول الثلاث لدراسة آثار السد من خلال مكتب استشاري عالمي.
وفي مارس (آذار) 2015. وقعت الدول الثلاث إعلان مبادئ في الخرطوم اشتمل على إعطاء أولوية لمصر والسودان، بوصفهما دولتي المصب، في الكهرباء المولدة من السد وهي طريقة لحل الخلافات والتعويض عن الأضرار. وتعهد الموقعون أيضا بحماية مصالح دولتي المصب عند ملء خزان السد.
ويتضمن الإعلان قيام المكاتب الاستشارية بإعداد دراسة فنية عن السد، ويتم الاتفاق بعد انتهاء الدراسات على كيفية إنجاز سد النهضة وتشغيله دون الإضرار بدولتي المصب مصر والسودان.
وفي سبتمبر (أيلول) 2016 وقع رؤساء وفود مصر والسودان وإثيوبيا على عقود المكاتب الاستشارية المنفذة للدراسات الفنية، على أن ترسل المكاتب الاستشارية تقريرها كل 3 أشهر، عن سير العمل. وكان من المقر أن ينتهي في مايو (أيار) الماضي التقرير الاستهلالي للمكتب الاستشاري، وهو ما لم يتم حتى الآن.
ما أضعف الموقف المصري هو أن السودان يرى أن السد يمكن أن يعود عليه بالعديد من المنافع أهمها توريد الكهرباء، مما أخرجه ضمنيا من دائرة الصراع، لتنحصر بين مصر وإثيوبيا.
وعقب 17 جولة من المفاوضات الفنية، أعلنت مصر، قبل أيام، أن عدم التوصل إلى اتفاق بشأن التقرير الاستهلالي الخاص بدراسات سد النهضة يؤدي إلى القلق، وقررت تجميد المفاوضات. وفي تعقيبه قال وزير الخارجية المصرية سامح شكري «بعد طول مدة ووقت طويل لم نتوقع أن يستغرق المسار الفني هذا القدر من الوقت للتوافق على شركة فنية يجب أن تعمل بشكل محايد ولم نكن نتوقع أن يصطدم نطاق عملها بأي رؤى تصعّب المسار والاتفاق بشأنه لتوجيه الشركة في مجال عملها.. وأوضح أن هذا الأمر يؤدي إلى القلق».
الدكتور السيد فليفل، رئيس لجنة الشؤون الأفريقية بمجلس النواب (البرلمان)، قال لـ«الشرق الأوسط»، إن «الموقف الإثيوبي والسوداني المتعنت، يدل على أن الشك المصري في محله، وأن السد الإثيوبي ليس فقط مخالفا للقانون الدولي أو حق إثيوبيا في التنمية، بل إنه منشأ هندسي غير صحيح».
وتابع الدكتور فليفل «التفاوض الفني أصبح مسألة معطلة للتوصل لاتفاق حقيقي، وعلى مصر أن تلجأ لتصعيد الأمر للجانب السياسي وهو يتطلب مفاوضات على مستوى عالٍ وفقا للقانون الدولي وبناء على التجارب السابقة، فالمياه بالنسبة إلى مصر خط أحمر».

تطمينات إثيوبية وسودانية
وتعمل إثيوبيا دائماً على طمأنة مصر... وتقول إن «السد لن يؤثر على حصة مصر من المياه، وإن (سد النهضة) يمكن أن يعود بالنفع على الدول الثلاث»، وسبق أن قال وزير خارجية إثيوبيا، ورقنى جيبيوه، خلال لقاء نظيره المصري سامح شكري، في أبريل (نيسان) الماضي، «نحن في إثيوبيا نوجه رسالة للشعب المصري بأن لدينا روابط مشتركة كبيرة، ونحن لا نعارض المصالح المصرية»، مشدداً على أن «الشعب المصري لن يضار من أي إجراءات تقوم بها إثيوبيا».
وفي ذات السياق، سبق أن أعلن الرئيس السوداني عمر البشير، أن بناء «سد النهضة» على مجرى نهر النيل، لن يؤثر على تزويد مصر بالمياه في ظل مخاوفها من هذا الأمر. وقال البشير في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي ماريام ديسالين، أغسطس (آب) الماضي، «نحن ملتزمون التزاماً قاطعاً بأن حصة مصر من مياه النيل، لن تتأثر بقيام سد النهضة».

دور قطري مناوئ
في خضم هذه الأزمة، وجه سياسيون مصريون اتهامات لدولة قطر بالمسؤولية عن تعثر المفاوضات، خاصة أن الإعلان عن فشلها، تزامن مع زيارة رسمية قام بها رئيس الوزراء الإثيوبي هيل ماريا دسلين إلى الدوحة الأسبوع الماضي، التقى خلالها عددا من المسؤولين، ووقع اتفاقيات تعاون، شملت اتفاقية تعاون دفاعي.
ويرى مراقبون أن الدوحة تستغل حاجة إثيوبيا لممولين لاستكمال بناء السد، في الضغط على مصر. يقول الدكتور فليفل، «تعثر المفاوضات، وما تبعه من مواقف، يثبت أن السد تم بناؤه لأهداف سياسية تتعلق بإضرار مصر، في إطار تحالف مع قطر يعمل ضد مصر ويحركه التنظيم الدولي لجماعة الإخوان»، مشيرا إلى أن «تلك الأيادي وجدت في إثيوبيا وسيلة ضغط شديدة في هذه المرحلة على مصر».
ونوه الدكتور فليفل إلى أن «كل مفاوضات تجري حول السد، خلال الأشهر الماضية، يظهر مسؤول قطري في أديس أبابا، أو يقوم مسؤول إثيوبي بزيارة الدوحة، وهو ما تأكد لمصر بشكل واضح».
وسبق أن زار أمير قطر إثيوبيا في أبريل الماضي. وذكرت مصادر مطلعة أن «الدوحة ستعمل على ضخ استثمارات كبيرة لتمويل سد النهضة، تشمل زراعة مليون و200 ألف فدان في منطقة السد».
وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، افتتحت شبكة «الجزيرة» مكتبا إقليميا لها في العاصمة الإثيوبية، بحضور مدير إدارة الإعلام في مكتب الاتصال الحكومي بإثيوبيا محمد سعيد، ومستشار وزير الخارجية الإثيوبي محمود درير غيدي.
ويشير الدكتور مدحت نجيب، رئيس حزب الأحرار، ونائب مدير المركز العربي الأفريقي للدراسات السياسية، إلى أن «هناك صفقة استثمارية تجارية بين الدوحة وأديس بابا لإفشال أي حلول تتوصل إليها اللجنة الفنية الثلاثية لسد النهضة»، مؤكدا أنها «تريد أن تنتقم من الحصار عليها وتخفيفه من خلال الضغط على مصر بملف سد النهضة وتحريض إثيوبيا والسودان على عدم التوصل لحل يناسب الجميع تجاه أزمة سد النهضة».
وهو الاتهام الذي كرره الدكتور رسلان قائلا «هناك قوى إقليمية كثيرة تسعى لاستغلال فترة الاضطراب الحالية في المنطقة لإضعاف الدور المصري ومصر كدولة من خلال الضغط عليها بورقة المياه باستخدام إثيوبيا والسودان كأدوات».

سيناريوهات مرتقبة
على مدار الأيام الماضية، عقدت الجهات المعنية بملف مياه النيل في وزارة الخارجية والجهات السيادية الأخرى، عدة اجتماعات رسمية، لبحث الموقف وإيجاد حلول «سياسية»، وحتى الآن لم تظهر الدبلوماسية المصرية أي تصريح عدائي أو حاد تجاه إثيوبيا.
يقول وزير الخارجية سامح شكري في مؤتمر صحافي عقده منتصف شهر نوفمبر الجاري: «مصر سوف تسعى لتجاوز هذا التعثر من خلال الاتصالات مع الشريكين إثيوبيا والسودان، وكذا مع الشركاء سواء في إطار دول حوض النيل أو على مستوى المجتمع الدولي بصفة عامة، واستمرار تحديد المسار والإجراءات التي تحافظ على المصالح المصرية دون أي ضرر بمصالح شركائنا».
وكشف المتحدث باسم الخارجية المستشار أحمد أبو زيد أن «مصر لديها خطة تحرك واضحة للتعامل مع هذا الملف، حيث تم تكليف السفارات المصرية في الخارج لشرح مسار المفاوضات والمرونة التي تعاملت بها مصر خلال الفترة الأخيرة، والتأكيد على الالتزام باتفاق إعلان المبادئ وهذه خطوة أولى لإشراك المجتمع الدولي في هذا الأمر». ومن المقرر أن يلتقي رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريم ديسالين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
ولا يتصور وجود حل مصري «خشن» على الإطلاق مع الأزمة، وفقا لتصريحات المسؤول المصري لـ«الشرق الأوسط»، الذي أكد أن «الظروف الدولية والإقليمية والمصرية لا تسمح بذلك»، لكنه قال في المقابل إن «الرجوع للمفاوضات بنفس الطريقة أيضا لن يؤدي إلى نتيجة». وشدد المسؤول على ضرورة «وجود عامل ضغط قوي، فإثيوبيا تتحرك من منطق القوة دون النظر للشواغل المصرية، ولذلك تأثير تشغيل السد يظل مجهول المدى»، على حد قوله.
غير أنه استدرك مؤكدا أن «مصر ما زالت دولة قوية ومؤثرة، وبالتأكيد لدى القيادة السياسية سيناريوهات بديلة حبيسة الأدراج تجيب عن سؤال ماذا لو؟ وبالتأكيد سوف تستخدم فيها أوراق مثل الأمم المتحدة، وضغوط الأصدقاء والممولين للسد، وهي دائرة واسعة لمصر، وما حدث في التعامل الخليجي مع قطر ليس ببعيد عن إثيوبيا».
وشكت إثيوبيا كثيرا من أن مصر تضغط على الدول المانحة والمقرضين الدوليين للانسحاب من المشروع. وسبق أن أثار الرئيس السيسي الأزمة خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر الماضي. كما أن تصريحه الأخير بأن ملف مياه النيل مسألة حياة أو موت كان رسالة إلى جميع الأطراف بأن القاهرة لن تقبل بأي حلول وسطية قد تضر مصالحها وحصتها المكتسبة من مياه النيل.
من جهته، يرى الدكتور فليفل أن كل الوسائل متاحة أمام مصر بما فيها اللجوء لمجلس الأمن، مشيرا إلى أنه «في حال استمرار تعنت إثيوبيا فسوف تحاصر... ومصر ليست طرفا هينا».
وكذلك طالب الدكتور رسلان، الحكومة بتقديم شكوى ضد السودان وإثيوبيا إلى مجلس الأمن بسبب فشل مفاوضات سد النهضة، وقال إن سلوك الدولتين يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين لأهمية قضايا المياه ومحوريتها بالنسبة لمصر وحياة شعبها.

دعم سعودي قوي لمصر
في غضون ذلك، أبدت المملكة العربية السعودية دعمها لمصر. وقال السفير أحمد أبو زيد، المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية، إن «ملف سد النهضة كان محل ناقش بين وزير الخارجية سامح شكري، ونظيره السعودي عادل الجبير خلال مباحثاتهما في الرياض الأسبوع الماضي»، وأوضح أن «المملكة تتابع تطورات الملف وتتفهم الشواغل المصرية»، وأن «الوزير الجبير أكد تفهم السعودية محورية اتفاق المبادئ والقانون الدولي في هذا الشأن».

حقائق حول «سد النهضة»
> يقع السد على النيل الأزرق (أحد الروافد الأساسية لنهر النيل) بولاية بنيشنقول - قماز، بالقرب من الحدود الإثيوبية - السودانية، على مسافة تتراوح بين 20 و40 كيلومترا.
> بدأ التفكير فيه قبل نحو 50 عاما، ضمن مقترحات بإنشاء السدود في إثيوبيا، ثم تبلور المقترح عام 1964 بسعة تخزينية من المياه قدرها نحو 11 مليار متر مكعب، ارتفعت بعد ذلك إلى 14.5 مليار متر مكعب، والآن عند الإنشاء قررت إثيوبيا تطوير السد لتصل قدرته التخزينية إلى أكثر من 70 مليار متر مكعب.
>في 2 أبريل عام 2011 وضع رئيس وزراء إثيوبيا السابق ملس زيناوي Meles Zenawi حجر الأساس للسد وقد تم إنشاء كسارة للصخور جنبا إلى جنب مع مهبط للطائرات الصغيرة للنقل السريع.
> المقاول الرئيسي للمشروع، الذي يتكلف أكثر من أربعة مليارات دولار، هو شركة ساليني إمبرجيلو الإيطالية، وتهدف إثيوبيا من خلاله لتصبح أكبر مصدر للكهرباء، حيث ينتظر منه توليد كهرباء بمقدار 6000 ميغاواط.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.