بعد خفوت أضواء الاحتفالات وسريان الهدوء النسبي في أروقة اللوفر أبوظبي الذي شغل العالم لأيام، نعود للزيارة الهادئة للاستمتاع واستكشاف الكنوز الفنية والأثرية في قاعاته. لا شك أنّ المبنى وتصميمه يسترعيان الانتباه، ويشغلان البصر والحواس بقوة، ولكن ما إن نخطو لأول قاعات العرض تبدأ صورة أخرى لا تقل بهاء في التجلي، نحن هنا أمام أجمل ما أنجزته البشرية على مدى قرون، ولكن السؤال الذي يدور في رأس الزائر لأول مرة قد يكون، كيف أبدأ الزيارة؟ اللوفر أبوظبي، رغم أنه يحمل معه ثقل متحف اللوفر في باريس بكلاسيكيته وعراقته، إلا أنه متحف مقام في القرن الواحد والعشرين، فكان من الطبيعي أن تختلف طريقة العرض وتنظيم المعروضات.
ولكن لنبدأ رحلتنا نحو الفن والتاريخ والإبداع من القاعة الأولى، التي تبدو مختلفة عن أي قاعة عرض في المتاحف العالمية، فهي أولاً غير مكتظة بالمعروضات، تلفتنا المساحة الشاسعة التي تكتفي بخزائن عرض قليلة كلها من الزجاج، أمّا الأرضية فهي عمل فني آخر، وإن كان حديثاً، فهي تمثل المحطات البحرية في العالم، هناك أبوظبي بالطبع وغيرها من مرافئ العالم. نخطو على الخريطة، وتتجه أنظارنا نحو خزانات العرض الزجاجية ومحتوياتها، نحن في قاعة تمثل «القرى الأولى»، بداية الحضارات، الأسس والرموز. قطع تمثل الأم والخصوبة وقطع أخرى تمثل أقنعة ذهبية وفخارية تصنع لطبع وجوه الموتى عليها، هي ما يسمى «أقنعة الموت». تختصر القاعة الأولى نشأة الحضارات، ولكن اللافت أنها لم تصنف من حيث المكان أو الزمان، فنجد قطعاً من مجتمعات بشرية غربية وشرقية تتجاور وتروي قصة نشأة الحضارات.
في كل خزانة عرض هناك لافتات للشرح، وإن كانت موضوعة على الأرضية، ما جعلها بعيدة عن مستوى النظر، ولكن عوضاً عنها هناك أدوات عرض متطورة تستكشف بعض القطع عليها باستخدام مستجدات التقنية المتطورة.
الممالك الأولى
القاعة التالية تأخذنا نحو المرحلة التالية في تاريخ البشرية، بعد القرى الأولى تطورت الحضارات، وظهرت الممالك الأولى التي تعود لثلاثة آلاف عام قبل الميلاد في الأودية الخصبة على ضفاف أنهار دجلة والفرات والنيل والسند.
المعروضات في هذه القاعة متنوعة ومستمدة من جهات مختلفة. من القطع اللافتة تمثال ضخم ذو رأسين يعود لعين غزال بالأردن في 6500 قبل الميلاد. من العراق هناك مجسم لأحد الأمراء من المملكة السومرية الحديثة يعود لـ2120 قبل الميلاد. في القاعة يهيمن مجسم ضخم للفرعون رمسيس الثاني على ما جواره، وزنه خمسة أطنان، قريب منا نستطيع تأمل تفاصيل النقش على الجرانيت، إحساس غريب بأن هناك أيادٍ فنية حفرت هنا منذ آلاف السنين، ثمة ألفة وإحساس بالصلة بين العصور البشرية المختلفة.
المعروضات تنقسم في قاعات مفتوحة وأخرى جانبية، ندلف لإحداها تتخذ شكل طرق ضيقة متعرجة، في بعض انفراجاتها نجد المعروضات، هناك تابوت ملون قمة في الإبداع للأميرة المصرية حوت تاوي، يلاحظ أحد الزوار الإبداع في التصميم والنقوش والألوان التي لا تزال حية وغنية، يلفت النظر لتفصيلة مبدعة، وهي تجسيد ثلاثي الأبعاد لكفي الأميرة تبرز من السطح المستوى لغطاء التابوت. في إحدى الكوات نجد تمثالاً من الحجر الأسود للملك خوفو، هنا تخطف أبصارنا المعروضات بثقلها التاريخي، كما يستغرقنا المعمار المتميز، الذي لا يزال يبهرنا.
في هذه القاعة أيضاً نحن أمام الأديان، بتاريخ يعود لأكثر من ألفي عام، حيث نجحت الديانات التوحيدية العالمية في الوصول إلى معظم المناطق المتحضرة في أوروبا وآسيا وأفريقيا في غضون بضعة قرون، واستطاعت تجاوز الخصوصيات الثقافية المحلية، وإحداث تحول جذري في مجتمعات العصور القديمة.
في قاعة جانبية هادئة الإضاءة، نرى نماذج من الكتب المقدسة، منها كتاب مقدس قوطي كتب في فرنسا في 1250 - 1280 على جلد العجل، إلى جانبه كتاب من صنعاء يعود لـ1498 م يعرض أسفار موسى الخمسة ثم صفحة من «المصحف الأزرق» الذي يعود لعام 900 م مكتوبة حروفه بالذهب. المعروضات كلها من مقتنيات اللوفر أبوظبي.
طرق التجارة
يأخذنا السرد المتحفي لموضوع آخر مرتبط بانتشار الأديان في المجتمعات المختلفة، حيث تزامنت مع إنشاء شبكات واسعة من التبادلات بين القارات. ولعب التجار المسلمون دوراً رئيسياً في التبادلات التجارية، حيث شغلت حواضر الدول الإسلامية في قلب الشبكة التجارية المزدهرة التي تربط بين آسيا وأوروبا وأفريقيا. وتشابكت مسالك القوافل التجارية مع مسالك الحج مما ساهم في انتشار تيارات فكرية جديدة. وعززت هذه التبادلات انتشار المواد الفريدة والتقنيات والسلع الفاخرة مثل الحرير والخزف والمجوهرات والبخور والعاج. في قاعة جانبية خافتة الإضاءة نرى تجسيداً لانتعاش التجارة في ظل الحضارات الإسلامية متمثلاً في قطعة سجاد «أوشاك» من زمن الإمبراطورية العثمانية (1480).
وتأخذنا الزيارة نحو أزمنة ومنجزات حضارية أخرى، فنتأمل لوحة للعبقري ليوناردو دافنشي تعبر في تألقها عن منجزات عصر النهضة الذي شهد إنجازات فنية وعلمية بارعة. ونستمر نحو القرون التالية ومنجزات الحضارة البشرية في القرون الـ17 و18 وتداعيات الثورة الصناعية الضخمة، وحركة الاستعمار الأوروبي، وتأثيرها على مختلف الحضارات، وما مثلته من إلهام للفنانين الأوروبيين.
الفن الحديث والمعاصر
في القاعات المتقدمة نرى نماذج لأعمال أشهر فناني العصر الحديث عبر سلسلة من اللوحات الفنية تشمل «لعبة ورق بزيك» للفنان غوستاف كايبوت و«عذوبة الشرق» للفنان بول كلي و«الغجري» للفنان مانيه وغيرها من الروائع. أما عشّاق الأعمال الفنية المعاصرة، فيخاطبهم المتحف عبر مجموعة متميّزة تضم تسع لوحات قماشية من إبداعات الرسام الأميركي سي تومبلي، والمنحوتة التذكارية من الفنان آي ويوي (1957)، بالإضافة إلى الأعمال التركيبية التي قام اللوفر أبوظبي بتكليف فنايين معاصرين بتنفيذها.
جرعة هائلة من التاريخ والفن والحضارة في أجنحة اللوفر أبوظبي
المعروضات تنتظم لتروي تاريخ البشرية بأسلوب جديد
جرعة هائلة من التاريخ والفن والحضارة في أجنحة اللوفر أبوظبي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة