إيران و«الإخوان»: الجذور الآيديولوجية للشراكة (الحلقة الأخيرة) : طهران تستعيد «فدائيين الإسلام» الذين «قضت» عليهم وأعدمت قياداتهم

حاولت أن توجد لها موطئ قدم بمصر في عهد مرسي

الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي يستقبل أحمدي نجاد في القاهرة أثناء فترة ولايته
الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي يستقبل أحمدي نجاد في القاهرة أثناء فترة ولايته
TT

إيران و«الإخوان»: الجذور الآيديولوجية للشراكة (الحلقة الأخيرة) : طهران تستعيد «فدائيين الإسلام» الذين «قضت» عليهم وأعدمت قياداتهم

الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي يستقبل أحمدي نجاد في القاهرة أثناء فترة ولايته
الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي يستقبل أحمدي نجاد في القاهرة أثناء فترة ولايته

بحلول عام 1965، كان عقد كامل قد مر على إعلان حكومة طهران «القضاء الكامل» على «فدائيي الإسلام»، أي النسخة الإيرانية من «الإخوان المسلمين»، وذلك في أعقاب إعدام قيادتها المعروفة. ومع ذلك، وفي 22 يناير (كانون الثاني)، عادت الجماعة التي كان يفترض أنها اختفت تماما إلى صدارة المشهد على نحو مباغت، باغتيالها رئيس الوزراء حسن علي منصور. ولاحقا، أخبر الشخص الذي اغتاله، وهو محمد بخاري، المحققين بأن جماعة «الفدائيين» تفرقت وانقسمت إلى جماعات عدة، وأنها «مستعدة لتنفيذ عمليات قتل وللموت أيضا». والأخطر من ذلك هو أن بخاري زعم أن اغتيال رئيس الوزراء كان «بتخويل» من فتوى أصدرها آية الله محمد هادي ميلاني من مشهد. لكنني أجريت حوارا مع ميلاني في عام 1970، في منزله، وعلق على ذلك الزعم قائلا إنه «باطل يستهدف الإساءة لرجال الدين».
على الرغم من أن ميلاني لم يكن متعاطفا مع الفدائيين، كان هناك العديد من رجال الدين الشيعة الآخرين الذين ينظرون لتلك الجماعة بمزيج من الخوف والاحترام. كان الفدائيون قد استعاروا مفهومين رئيسين من «إخوان مصر»؛ أولهما هو تحويل الإسلام من دين إلى آيديولوجيا سياسية، وكان ذلك جديدا تماما بالنسبة لإيران. فمنذ أن قام الصفويون بتحويل المذهب الشيعي الاثني عشري إلى الدين الرسمي لإيران، نأى رجال الدين، الذين جاء معظمهم من لبنان والعراق، بأنفسهم عن السياسة. وكان ذلك راجعا إلى أن العقيدة الشيعية تعتبر الحكومات التي تشكلت في غياب المهدي المنتظر حكومات غير شرعية. وما دام الإمام المنتظر لا يزال مختفيا، لا يجب على المؤمن أن يشارك في السياسة، وعليه أن يقيم أقل قدر ممكن من التواصل مع السلطات الحاكمة. ووفقا لمبدأ «الانتظار»، كانت المهمة الرئيسة للمؤمن هي إعداد نفسه لـ«الظهور».
لكن «الفدائيين»، وفروعهم التي ظهرت لاحقا، لم يكونوا يوافقون على ذلك المبدأ؛ فقد كانوا يصرون على أن المؤمن يجب أن يحاول بفعالية تعجيل «العودة»، ومن ثم فقد أسسوا مفهوم «التعجيل» في مواجهة مفهوم «الانتظار». وبينما كان ميلاني رجلا مؤمنا بـ«الانتظار»، كان الخميني، الذي كان منفيا في العراق، رجل «تعجيل». وكان يطلق على الجماعة التي ينتمي إليها قاتل منصور «تحالف المجتمعات الإسلامية». وهي جماعة ستلعب دورا محوريا في نظام الخميني بعد ذلك، حيث تمكن أحد قادتها، حبيب الله أصغر أولادي، في الاستمرار في العديد من الوزارات في عهد الخميني، وتمكن من جمع ثروة كبيرة وأنهى حياته الطويلة، وهو من أهم الشخصيات في نظام الخميني.
ولم يكن تحالف بخاري هو الفرع الوحيد لـ«الفدائيين»، فقد كانت هناك جماعة أخرى تطلق على نفسها «حزب الأمم الإسلامية»، يقودها عباس دوزدواني، الذي سيصبح، لاحقا، وزير الإرشاد الإسلامي في عهد الخميني، وكانت تلك الجماعة تحلم بـ«الجهاد» المسلح لتحويل العالم كله إلى المذهب الشيعي.
وكان هناك فرع آخر لـ«الفدائيين» هو حزب الله، الذي يقوده حجة الإسلام هادي الجعفري، وهو الرجل الذي قتل في عام 1979 رئيس الوزراء السابق، أمير عباس هويدا، أثناء اقتياده إلى محبسه بعد انتهاء إحدى جلسات المحاكمة. ومن قيادات حزب الله الآخرين، كان هناك آية الله صادق خلخالي، الذي كان مقربا من الخميني والذي قام باعتباره من كبار القضاة الإسلاميين، بالحكم على ما يزيد على خمسة آلاف سجين، بالإعدام مباشرة فور استيلاء الملالي على السلطة في عام 1979.
وبعد الثورة، أصبح إنشاء أفرع لحزب الله في الدول الإسلامية الأخرى ضمن البرامج الحكومية. ففي الفترة ما بين 1979 و1989، جرى إنشاء 17 فرعا، بما في ذلك فرع في لبنان، أسسه وأداره، في البداية، آية الله علي أكبر محتشمي. ولاحقا، خضعت الشبكة للهيمنة المباشرة للحرس الثوري.
ومن جهة أخرى، قرر بعض رجال الدين الذين كانوا يرتبطون، في البداية، بالفدائيين، أن يعقدوا صفقات مع نظام الشاه. ثم تبنوا، تدريجيا، موقفا بعيدا عن السياسة. ومن بينهم كان آية الله كاشاني، والواعظ بالإذاعة محمد تقي فلسفي، والملا شمس الدين قناة العبادي، والواعظ الشهير فخر الدين حجازي. ثم تحول عدد من مؤيدي «الفدائيين» إلى مجال المال والأعمال، من بينهم علي أكبر بهرماني، الذي استخدم الاسم المستعار «هاشمي رفسنجاني» واتجه للعمل كمقاول معماري. وسرعان ما اتجه شباب الملالي والطلاب الدينيون الذين كانوا لا يزالون موالين لـ«الفدائيين» إلى الإقرار بأن الخميني هو قائدهم - وأنه وريث حقيقي لنواب صفوي. وكان من بينهم أشخاص مثل علي خامنئي ومحمد خاتمي. وخلال العقود الثلاثة الماضية، كان من بقي من الفدائيين والمتعاطفين معهم، أو أقرباء لأعضاء التنظيم الأولين، يمثلون جزءا كبيرا من الأفراد الذين يعملون في نظام الخميني. وفي بعض الأحيان، ابتكر الأشخاص الذين كانوا أصغر من أن يكونوا قد لعبوا دورا في تاريخ الفدائيين، روايات تحاول إيجاد صلة بينهم وبين الفدائيين. وقد زعم حسن روحاني، الذي سيصبح، لاحقا، رئيسا للجمهورية الإسلامية، أنه عندما كان طالبا في المدرسة، كان يوزع منشورات نواب صفوي. وزعم الخميني أنه حضر العديد من المحاضرات التي ألقاها صفوي في طهران ومشهد.
وقد لجأ كبار رجال الدين، مثل أية الله أبو القاسم الخوئي (في النجف)، وكاظم شريعتمداري في قم، إلى اتخاذ وضعية رجال الدين الشيعة الأكثر هدوءا وبعدا عن السياسة.
ولكن التعامل مع الإسلام باعتباره أيديولوجيا بدلا من كونه دينا، مكن الإخوان والفدائيين من السعي للحصول على جمهور أوسع باسم الأهداف السياسية المشتركة. وهذا ما عبر عنه أية الله محمد قمي، في حوار أجري معه في 1984: «ففي مناقشة دينية، سرعان ما سيتضح أن هناك خلافا عميقا في فهم الإسلام بين السنة والشيعة، ولا يستطيع أي طرف أن يوافق على النقاط الرئيسة في موقف الآخر. ولكن عندما يأتي الأمر إلى السياسة، يمكنهما أن يتحدا وراء شعارات وأهداف مشتركة. وبمعنى آخر، بينما يفرق الدين المسلمين، تجمعهم الأيديولوجيات السياسية».
وكان الدرس الثاني الذي تعلمه الفدائيون من الإخوان، هو أهمية الفعل المباشر الذي يمكنه، في بعض الأحيان، أن يتحول إلى عنف وربما إلى إرهاب. ومع مرور السنوات، قامت مجموعة من الجماعات الإرهابية التي تعمل باسم الإسلام، أو باسم نسخ مختلفة من الماركسية، بقتل المئات من الأشخاص في إيران. وحتى بعدما جاء الملالي إلى السلطة، استخدم عدد كبير من خصومهم الاغتيالات والأشكال الأخرى من الإرهاب ضدهم، وجميعهم كان يتحرك باسم الإسلام. وفي عهد الخميني، ظهرت جماعة غامضة يطلق عليها «الفرقان»، واغتالت عددا من قيادات النظام الجديد، وبضمنهم رئيس الأركان، ولي الله قراني، وأية الله مرتضى مطهري، وأية الله محمد مفتح، فيما قتل كل من أية الله محمد بهشتي، والرئيس محمد علي رجائي، على يد «مجاهدي الشعب».
ولم يقتصر تسييس استخدام المفرادت الدينية على الفصائل التابعة مباشرة للإخوان و- أو الفدائيين، فقد استخدمت، لاحقا، حركة ماركسية لينينية أطلقت على نفسها «فدائيو خلق»، مصطلح الفدائيين. كما أن حاشية نواب صفوي، كانت تطلق عليه «المجاهد»، وفي الوقت نفسه، كان يطلق ذلك المصطلح على جماعة ماركسية - إسلامية تطلق على نفسها «مجاهدو خلق». وكانت هناك العديد من المصطلحات الأخرى في قاموس الفدائيين التي استخدمتها الجماعات السياسية غير الدينية، مثل مصطلح «الشهيد»، ومصطلح «المنافق». وتطلق تلك الجماعات على مؤيديها مصطلح «إخوة المجاهدين»، فيما تطلق على خصومها اسم «محاربو الله». وكانت هناك حقيقة أساسية ساهمت في التقارب والتعاون الوثيق، لاحقا، بين الإسلاميين المصريين والإيرانيين، وهي التوصل إلى اتفاق بين قم والأزهر في أواخر الأربعينيات، وذلك بمبادرة من أية الله بروجرودي الذي كان يؤمن بضرورة الوحدة بين الأمم المسلمة لكي يجدوا مكانا أفضل في النظام الدولي ما بعد الحرب. وبعد سنوات من المفاوضات، وافقت كل من قم والأزهر على الإقرار بشرعية خمسة مذاهب، وهي المذاهب السنية الأربعة، بالإضافة إلى الشيعة الجعفرية. كما اتفق الجانبان على ألا يرسل أي منهما بعثات إلى أرض الآخر للتبشير بعقيدته. ومن ثم، ففي الفترة من الأربعينيات إلى الخمسنيات، أرسل بروجرودي نحو مائة بعثة إلى أوروبا وآسيا، ولكنه لم يرسل بعثة واحدة إلى مصر. وسهل ذلك التقارب حقيقة أن الأسر المالكة المصرية والإيرانية، كانت تربطهما علاقة وثيقة نظرا لزواج الأميرة فوزية من شاه إيران.
وعلى الرغم من وجود تقلبات عديدة في علاقتهما، أدركت كل من حركة الخميني وجماعة الإخوان المسلمين حاجتهما لبعضهما البعض، على الأقل، كحلفاء لتحقيق أهداف تكتيكية. وكان كلا الفصيلين مناهضين للأوضاع الراهنة، يسعيان إلى تحطيم توازن القوى الذي تم تأسيسه في الشرق الأوسط، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وكان كلاهما يرغب في انتزاع السلطة من النخب الحاكمة التي تعتمد على المؤسسة العسكرية. والأهم من ذلك، هو أن كلاهما كان حاسما في نبذ العالم الحديث، على الأقل ما يتعلق منه بالرسائل السياسية والثقافية. وبالتالي، فليس مفاجئا أن المؤلفات التي كتبها سيد قطب المصري، وأبو علاء المودودي الباكستاني، التي ترجم بعضها خامنئي، تم تقدميها باعتبارها «الفلسفة الإسلامية» في نظام الخميني.
كان نظام الخميني يحتاج إلى الإخوان لسببين:
أولهما، يرجع إلى السياسة الخارجية، حيث يتمتع الإخوان بحضور قوي في تركيا، ويمكن أن يساعدوا طهران في دق إسفين بين أنقرة وواشنطن. وهذا هو السبب الذي دفع نظام الخميني لأن يساند بقوة، حزب نجم الدين أرباكان «رفاه»، قبل وخلال هيمنة الحكومة التركية القصيرة عليه. وأثناء حديثه في جنازة أبيه في عام 2011، أثنى أرباكان على الجمهورية الإسلامية قائلا، إنها «أكثر رموز الإسلام القوي أهمية اليوم».
كما تحتاج طهران إلى العلاقات الطيبة مع الإخوان، لكي تجد موطئ قدم لها في مصر، وهذا هو السبب الذي دفع خامنئي إلى إرسال عدد من المبعوثين إلى محمد مرسي فور انتخابه كرئيس، كان على رأسهم الرئيس محمود أحمدي نجاد، لعرض «شراكة استراتيجية» تبدأ بحزمة مساعدات تقدر بنحو 2 مليار دولار. كما عرضت طهران، علانية، مساعدة الإخوان على «تطهير» مؤسسات الدولة المصرية، وخلق نسخة مصرية من الحرس الثوري لسحق الخصوم المحتملين. ولكن مرسي لم يوافق على ذلك، نظرا لوجود انقسامات داخل قيادة الإخوان حول سياستهم الخارجية.
كما كانت العلاقة بالإخوان ضرورية لإقناع الجماهير العربية بأن دعم إيران للقضية الفلسطينية هو دعم أصيل؛ حيث إن السنوات الطويلة من الاستثمارات الكبيرة في الجهاد الإسلامي، والفرع اللبناني «حزب الله»، لم تقنع العديد من العرب بأن طهران كانت مهتمة حقا بفلسطين.
وعلى النقيض، مكنت العلاقات القوية بحماس، الفرع الفلسطيني للإخوان، نظام الخميني من الحصول على مصداقية أكبر فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
تعد جماعة الإخوان حركة عالمية ماثلة في أكثر من مائة دولة، فيما تعد حركة الخميني حركة حديثة نسبيا، على المشهد العالمي للراديكالية الإسلامية. ومن ثم كان بإمكان الإخوان، من من نواحي عدة، مساعدة الخومينيين على إقامة صلات وإيجاد موطئ قدم لهم في عدد من البلدان، بما في ذلك أندونيسيا، والهند، وشمال أفريقيا، ويوغوسلافيا السابقة، وبالطبع أوروبا والولايات المتحدة. وفي بعض الأحيان، كان يقيم تلك الاتصالات، محمد علي تسخيري، مبعوث الخميني الخاص للتقارب الإسلامي. وفي أحيان أخرى، كان الجنرال قاسم سلماني، رئيس فيلق القدس التابع للحرس الثوري، مسؤولا عن تلك الاتصالات. وقبل عامين، أنشأ خامنئي، كيانا جديدا أطلق عليه «الصحوة الإسلامية»، بالتعاون مع وزير الخارجية السابق علي أكبر ولاياتي، الذي أصبح السكرتير العام لذلك التنظيم، بهدف تعزيز العلاقات مع الإسلاميين الراديكاليين على مستوى العالم. وكان أكثر من نصف الأشخاص الاربعمائة الذين حضروا أول مجلس للمنظمة الجديدة في طهران، من أعضاء جماعة الإخوان المسملين من جميع أنحاء العالم. وكان يترأس وفد الإخوان المصريين كمال الهلباوي، رجل الأعمال المقيم في لندن، الذي كان مدافعا دائما عن النفوذ الإيراني في مصر. كما يوفر تكوين علاقات قوية مع الإخوان لحركة الخميني، مساحة أيديولوجية أوسع يمكن عبرها السعي لتحقيق أهداف نظام طهران سواء السياسية أو الاستراتيجية.
وخلال العقود الماضية، نظم نظام طهران سلسلة من المؤتمرات الدولية، تحت شعارات مختلفة، إحياء لذكرى استحواذ الملالي على السلطة في فبراير (شباط) 1979. وحمل بعض تلك المؤتمرات، عنوان «عالم بدون أميركا»، أو «عالم بدون إسرائيل»، فيما كان يتم الترويج للبعض الآخر باعتباره ندوات لدراسة «الفلسفة الثورية» للخميني.
وكانت الصلات التي يتمتع بها الإخوان على مستوى العالم، قد ساعدت إيران، أيضا، في جهودها لتحقيق الهدف الصعب، وهو تقديم خامنئي كقائد أوحد للمسلمين في العالم. فعندما كان شابا، لم يكن خامنئي يعامل بجدية كقائد ديني مهم داخل إيران، أو حتى في العراق أو لبنان، خاصة وأنه كرجل سياسة، لا يوائم النموذج التقليدي للتراتبية الدينية الشيعية. ولم يترك آيات الله في قم والنجف، مساحة واسعة له لكي يقدم نفسه كزعيم ديني. ومع ذلك، فإذا ما نجح في الحصول على قدر من الاعتراف به من الجماعات الإسلامية خارج إيران، فربما يستطيع تعزيز وضعه الديني داخلها أيضا. ولتحقيق هذا الهدف، كان نظام الخميني بحاجة إلى الإخوان وكانوا هم في المقابل مستعدين للمساعدة.
ومن منظور أكثر شمولا، كان نظام الخميني يحتاج إلى الإخوان لتقليل عزلته في المجتمع الإسلامي، حيث ليس لهم حليف سوى نظام بشار الأسد الطغياني في دمشق. وبفضل العلاقات مع الإخوان، التي تمولها قطر، تستطيع طهران الآن، أن تقوم بمحاولات لتقسيم مجلس التعاون الخليجي كجزء من استراتيجيتها «لفنلندة» قطر وعمان، وتحدي الوضع القيادي للمملكة العربية السعودية في دول الخليج، فيما تعزز العلاقات مع الجماعات الإسلامية السنية في اليمن، ومن ثم تقليل الاعتماد على عملائها من الشيعة الزيدية.
وبإبراز قوتها أمام الشرق الأوسط، مرورا بالعراق وسوريا ولبنان، تستطيع الجمهورية الإسلامية تعزيز وضعها من خلال الظهور كمصدر لدعم الجماعات الإسلامية في الأردن وفلسطين والولايات المتحدة، أو حتى لعقد صفقة معها.
وبالتصرف على غرار القوى الانتهازية في التاريخ، حاولت الجمهورية الإسلامية تنويع محظفتها السياسية والاستثمارية؛ فطهران تدعم فصيل الأسد في سوريا، على الرغم من أنه ليست له علاقة وثيقة بالإسلام أو حتى بالشيعية. وفي العراق، كانت طهران تستثمر جهودها في السنة العرب العلمانيين والأكراد الاشتراكيين، إلى جانب فصائل الشيعة بأطيافهم المختلفة. وفي القوقاز، كانت طهران تدعم روسيا في حملتها للقضاء على الجماعات الإسلامية في الشيشان وداغستان وأنغوشيا. وفي القوقاز أيضا، كانت طهران تنحاز لأرمينيا المسيحية في مواجهة أذربيجان الشيعية. وفي كشمير، كان نظام الخميني يدعم الحكومة الهندية في مواجهة المتمردين المسلمين. ويوفر النظر للإسلام كأيدولوجيا سياسية بدلا من كونه دينا لنظام الخميني، فرصا واسعة للمناورة في الاتجاهات كافة.
وهناك ملاحظة أخيرة مهمة. وهي أن الإسلامية، التي تعني التعامل مع الإسلام كأيدويولجيا سياسية بدلا من كونه دين، هي حقيقة راسخة في حياة العديد من البلدان الإسلامية، بما في ذلك إيران ومصر. ولا يمكننا تجاهل تلك الحقيقة، أو تغييرها بالقوة. فقد جرى العديد من المحاولات لتغيير الوضع بالقوة، بما في ذلك حملات القمع الواسعة التي قام بها الشاه في إيران وناصر في مصر. يجب الإقرار بأن تسييس الدين، يروق لقطاعات من مجتمعاتنا يتراوح عددها بين 5 في المائة إلى 20 في المائة. ففي الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المصرية، جذب مرسى نحو 5 ملايين صوتا تعادل نحو 9 في المائة من مجمل الأصوات التي يحق لها التصويت. فإذا أقام الخمينيون انتخابات نزيهة، كان يمكن لخامنئي أن يحصل على نسبة مشابهة من الأصوات. ويبقى السؤال متعلقا بكيف يمكن دمج تلك الأقليات في نسيج الحياة القومية، من دون سحقهم بالقوة أو السماح لهم بتدمير الأمة برمتها.



البشرية من الخوارزميات إلى الذكاء الاصطناعي

نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)
نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)
TT

البشرية من الخوارزميات إلى الذكاء الاصطناعي

نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)
نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)

على مدار السنوات الـ25 الماضية، تسارعت وتيرة الابتكار التكنولوجي بشكل غير مسبوق، مما أدى إلى تحول المجتمعات في جميع أنحاء العالم. تاريخياً، استغرقت التقنيات مثل الكهرباء والهاتف عقوداً للوصول إلى 25 في المائة من الأسر الأميركية - 46 و35 عاماً على التوالي. على النقيض من ذلك تماماً، حقّق الإنترنت ذلك في 7 سنوات فقط.

اكتسبت منصات مثل «فيسبوك» 50 مليون مستخدم في عامين، وأعادت «نتفليكس» تعريف استهلاك الوسائط بسرعة، وجذب «شات جي بي تي» أكثر من مليون مستخدم في 5 أيام فقط. يؤكد هذا التقَبّل السريع للتقدم التكنولوجي والتحول المجتمعي وأثره في تبني الابتكار.

قادت هذه الموجة شركة «غوغل»، وهي شركة ناشئة تأسست في مرآب. في عام 1998، قدمت «غوغل» خوارزمية «بيچ رانك»، ما أحدث ثورة في تنظيم المعلومات على الويب. على عكس محركات البحث التقليدية التي تركز على تكرار الكلمات الرئيسية، عملت خوارزمية «بيچ رانك» على تقييم أهمية الصفحة من خلال تحليل الارتباطات التبادلية، ومعاملة الروابط التشعبية على أنها أصوات ثقة واستيعاب الحكمة الجماعية للإنترنت. أصبح العثور على المعلومات ذات الصلة أسرع وأكثر سهولة، ما جعل محرك البحث «غوغل» لا غنى عنه على مستوى العالم.

تحوّل «نتفليكس»

في خضم ثورة البيانات، ظهر نموذج جديد للحوسبة: التعلم الآلي. بدأ المطورون في إنشاء خوارزميات تتعلم من البيانات وتتحسن بمرور الوقت، مبتعدين عن البرمجة الصريحة. جسّدت «نتفليكس» هذا التحول بجائزتها البالغة مليون دولار لعام 2006 لتحسين خوارزمية التوصية خاصتها بنسبة 10 في المائة. في عام 2009، نجحت خوارزمية «براغماتيك كايوس» لشركة «بيلكور» في استخدام التعلم الآلي المتقدم، ما يسلّط الضوء على قوة الخوارزميات التكيفية.

ثم توغل الباحثون في مجال التعلم العميق، وهو مجموعة متفرعة عن التعلم الآلي تتضمن خوارزميات تتعلم من بيانات ضخمة غير منظمة. في عام 2011، أظهر نظام «واتسون» الحاسوبي من شركة «آي بي إم» قوة التعلم العميق في لعبة «چيوباردي»! في منافسة ضد البطلين «براد روتر» و«كين جينينغز»، أظهر «واتسون» القدرة على فهم الفروق الدقيقة في اللغة المعقدة، والتورية، والألغاز، مما يحقق النصر. أفسح هذا العرض المهم لمعالجة اللغة بالذكاء الاصطناعي المجال أمام العديد من تطبيقات معالجة اللغة الطبيعية.

في عام 2016، حقق برنامج «ألفاغو» الحاسوبي من شركة «غوغل ديب مايند» إنجازاً تاريخياً بهزيمة «لي سيدول» بطل العالم في لعبة «غو». كانت لعبة «غو»، المعروفة بمعقداتها وتفكيرها الحدسي، خارج نطاق الذكاء الاصطناعي. أدهش فوز «ألفاغو» العالم بأسره، مشيراً إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكنه معالجة المشكلات التي تتطلب التفكير الاستراتيجي من خلال الشبكات العصبية.

ثورة تجارة التجزئة

مع ازدياد قدرات الذكاء الاصطناعي، بدأت الشركات في دمج هذه التقنيات لإحداث الابتكار. أحدثت «أمازون» ثورة في تجارة التجزئة عبر الاستفادة من الذكاء الاصطناعي للتسوق الشخصي. من خلال تحليل عادات العملاء، أوصت خوارزميات «أمازون» بالمنتجات بدقة، ويسّرت الخدمات اللوجيستية، وحسّنت المخزون. وصار التخصيص حجر الزاوية في نجاح «أمازون»، مما وضع توقعات جديدة لخدمة العملاء.

في قطاع السيارات، قادت شركة «تسلا» عملية دمج الذكاء الاصطناعي في المنتجات الاستهلاكية. من خلال «أوتوبايلوت»، قدمت «تسلا» لمحة عن مستقبل النقل. في البداية، استخدم «أوتوبايلوت» الذكاء الاصطناعي لمعالجة البيانات من الكاميرات وأجهزة الاستشعار، مما يتيح التحكم التكيفي في السرعة، ومَرْكَزَة المسار، ومواقف السيارات الذاتية. بحلول عام 2024، سمح نظام القيادة الذاتية الكاملة (FSD) للسيارات بالتنقل مع تدخل بشري طفيف. أعادت تلك الوثبة تعريف القيادة وعجلت بالجهود الرامية لتطوير السيارات ذاتية القيادة مثل «وايمو».

كما شهد قطاع الرعاية الصحية التأثير التحويلي للذكاء الاصطناعي، إذ طوّر الباحثون خوارزميات تكتشف الأنماط في بيانات التصوير غير المُدرَكة للبشر. على سبيل المثال، حلّل نظام الذكاء الاصطناعي صور الثدي بالأشعة السينية للتعرف على التغيرات الدقيقة التي تتنبأ بالسرطان، مما يتيح تدخلات مبكرة وربما إنقاذ الأرواح.

في عام 2020، حقق برنامج «ألفافولد» من شركة «ديب مايند» إنجازاً تاريخياً: التنبؤ الدقيق بهياكل البروتين من تسلسلات الأحماض الأمينية - وهو تحدٍّ أربك العلماء لعقود. يعد فهم انْثِناء البروتين أمراً بالغ الأهمية لاكتشاف الأدوية وأبحاث الأمراض. تستفيد مختبرات «أيسومورفيك لابس» التابعة لشركة «ديب مايند»، من أحدث نماذج «ألفافولد» وتتعاون مع شركات الأدوية الكبرى لتسريع الأبحاث الطبية الحيوية، مما قد يؤدي إلى علاجات جديدة بوتيرة غير مسبوقة.

سرعان ما تبنى قطاع التمويل ابتكارات الذكاء الاصطناعي. نفذت شركة «باي بال» خوارزميات متقدمة للكشف عن الاحتيال ومنعه في الوقت الفعلي، مما يزيد من الثقة في المدفوعات الرقمية. استخدمت شركات التداول عالية التردد خوارزميات لتنفيذ الصفقات في أجزاء من الثانية. واستخدمت شركات مثل «رينيسانس تكنولوجيز» التعلم الآلي في استراتيجيات التداول، محققة عوائد رائعة. أصبح التداول الخوارزمي الآن يمثل جزءاً كبيراً من حجم التداول، مما يزيد من الكفاءة لكنه يُثير مخاوف بشأن استقرار السوق، كما هو الحال في انهيار عام 2010.

في عام 2014، طوّر إيان غودفيلو وزملاؤه الشبكات التنافسية التوليدية (GANs)، التي تتكون من شبكتين عصبيتين - المُولّد والمميّز - تتنافسان ضد بعضهما. مكّنت هذه الديناميكية من إنشاء بيانات اصطناعية واقعية للغاية، بما في ذلك الصور ومقاطع الفيديو. لقد أنتجت الشبكات التنافسية التوليدية وجوهاً بشرية واقعية، وأنشأت أعمالاً فنية، وساعدت في التصوير الطبي من خلال إنتاج بيانات اصطناعية للتدريب، مما يعزز قوة نماذج التشخيص.

في عام 2017، قدمت هيكليات المحولات «ترانسفورمر» تحولاً كبيراً في منهجية الذكاء الاصطناعي، مما غيّر بشكل جذري من معالجة اللغة الطبيعية. ابتعدت «ترانسفورمر» عن الشبكات العصبية التكرارية والالتفافية التقليدية. وتعتمد كلياً على آليات الانتباه لالتقاط التبعيات العالمية، مما يسمح بالتعامد الفعال ومعالجة السياقات المطولة.

روبوت يعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي (أ.ف.ب)

نص بشري يكتبه روبوت

بناء على ذلك، طوّرت شركة «أوبن إيه آي» سلسلة «المحول المُولّد المدرب مسبقاً» (GPT)، وأظهر «جي بي تي – 3»، الصادر عام 2020، قدرات غير مسبوقة في توليد نص يشبه النص البشري مع فهم السياق. على عكس النماذج السابقة التي تتطلب تدريباً محدداً للمهمة، يمكن لـ«جي بي تي – 3» أداء مجموعة واسعة من مهام اللغة مع الحد الأدنى من الضبط الدقيق، مما يُظهر قوة التدريب المسبق غير الخاضع للإشراف على نطاق واسع والتعلم قليل اللقطات. بدأت الشركات في دمج نماذج «جي بي تي» في التطبيقات من إنشاء المحتوى وتوليد التعليمات البرمجية إلى خدمة العملاء. حالياً، تتسابق العديد من النماذج لتحقيق «الذكاء الاصطناعي العام» (AGI) الذي يفهم، ويفسر، ويخلق محتوى متفوقاً على البشر.

الرحلة من الخوارزميات إلى الذكاء الاصطناعي على مدار السنوات الـ25 الماضية هي شهادة على الفضول البشري، والإبداع، والسعي الدؤوب نحو التقدم. لقد انتقلنا من الخوارزميات الأساسية إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي المتطورة التي تفهم اللغة، وتفسر البيانات المعقدة، وتُظهر الإبداع. أدى النمو الهائل في قوة الحوسبة، والبيانات الضخمة، والاختراقات في مجال التعلم الآلي إلى تسريع تطوير الذكاء الاصطناعي بوتيرة لا يمكن تصورها.

بالتطلع إلى المستقبل، يشكل التنبؤ بالـ25 عاماً المقبلة تحدياً كبيراً. ومع تقدم الذكاء الاصطناعي، قد يفتح المجال أمام حلول للتحديات التي نعتبرها مستعصية اليوم - من علاج الأمراض، وحل مشاكل الطاقة، إلى التخفيف من تغير المناخ، واستكشاف الفضاء العميق.

إن إمكانات الذكاء الاصطناعي في إحداث ثورة في كل جانب من جوانب حياتنا هائلة. ورغم أن المسار الدقيق غير مؤكد، فإن اندماج إبداع الإنسان والذكاء الاصطناعي يعد بمستقبل غني بالإمكانات. ويتساءل المرء متى وأين قد تظهر شركة «غوغل» أو «أوبن إيه آي» التالية، وما الخير الكبير الذي قد تجلبه للعالم؟