إيران و«الإخوان»: الجذور الآيديولوجية للشراكة (الحلقة الأخيرة) : طهران تستعيد «فدائيين الإسلام» الذين «قضت» عليهم وأعدمت قياداتهم

حاولت أن توجد لها موطئ قدم بمصر في عهد مرسي

الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي يستقبل أحمدي نجاد في القاهرة أثناء فترة ولايته
الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي يستقبل أحمدي نجاد في القاهرة أثناء فترة ولايته
TT

إيران و«الإخوان»: الجذور الآيديولوجية للشراكة (الحلقة الأخيرة) : طهران تستعيد «فدائيين الإسلام» الذين «قضت» عليهم وأعدمت قياداتهم

الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي يستقبل أحمدي نجاد في القاهرة أثناء فترة ولايته
الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي يستقبل أحمدي نجاد في القاهرة أثناء فترة ولايته

بحلول عام 1965، كان عقد كامل قد مر على إعلان حكومة طهران «القضاء الكامل» على «فدائيي الإسلام»، أي النسخة الإيرانية من «الإخوان المسلمين»، وذلك في أعقاب إعدام قيادتها المعروفة. ومع ذلك، وفي 22 يناير (كانون الثاني)، عادت الجماعة التي كان يفترض أنها اختفت تماما إلى صدارة المشهد على نحو مباغت، باغتيالها رئيس الوزراء حسن علي منصور. ولاحقا، أخبر الشخص الذي اغتاله، وهو محمد بخاري، المحققين بأن جماعة «الفدائيين» تفرقت وانقسمت إلى جماعات عدة، وأنها «مستعدة لتنفيذ عمليات قتل وللموت أيضا». والأخطر من ذلك هو أن بخاري زعم أن اغتيال رئيس الوزراء كان «بتخويل» من فتوى أصدرها آية الله محمد هادي ميلاني من مشهد. لكنني أجريت حوارا مع ميلاني في عام 1970، في منزله، وعلق على ذلك الزعم قائلا إنه «باطل يستهدف الإساءة لرجال الدين».
على الرغم من أن ميلاني لم يكن متعاطفا مع الفدائيين، كان هناك العديد من رجال الدين الشيعة الآخرين الذين ينظرون لتلك الجماعة بمزيج من الخوف والاحترام. كان الفدائيون قد استعاروا مفهومين رئيسين من «إخوان مصر»؛ أولهما هو تحويل الإسلام من دين إلى آيديولوجيا سياسية، وكان ذلك جديدا تماما بالنسبة لإيران. فمنذ أن قام الصفويون بتحويل المذهب الشيعي الاثني عشري إلى الدين الرسمي لإيران، نأى رجال الدين، الذين جاء معظمهم من لبنان والعراق، بأنفسهم عن السياسة. وكان ذلك راجعا إلى أن العقيدة الشيعية تعتبر الحكومات التي تشكلت في غياب المهدي المنتظر حكومات غير شرعية. وما دام الإمام المنتظر لا يزال مختفيا، لا يجب على المؤمن أن يشارك في السياسة، وعليه أن يقيم أقل قدر ممكن من التواصل مع السلطات الحاكمة. ووفقا لمبدأ «الانتظار»، كانت المهمة الرئيسة للمؤمن هي إعداد نفسه لـ«الظهور».
لكن «الفدائيين»، وفروعهم التي ظهرت لاحقا، لم يكونوا يوافقون على ذلك المبدأ؛ فقد كانوا يصرون على أن المؤمن يجب أن يحاول بفعالية تعجيل «العودة»، ومن ثم فقد أسسوا مفهوم «التعجيل» في مواجهة مفهوم «الانتظار». وبينما كان ميلاني رجلا مؤمنا بـ«الانتظار»، كان الخميني، الذي كان منفيا في العراق، رجل «تعجيل». وكان يطلق على الجماعة التي ينتمي إليها قاتل منصور «تحالف المجتمعات الإسلامية». وهي جماعة ستلعب دورا محوريا في نظام الخميني بعد ذلك، حيث تمكن أحد قادتها، حبيب الله أصغر أولادي، في الاستمرار في العديد من الوزارات في عهد الخميني، وتمكن من جمع ثروة كبيرة وأنهى حياته الطويلة، وهو من أهم الشخصيات في نظام الخميني.
ولم يكن تحالف بخاري هو الفرع الوحيد لـ«الفدائيين»، فقد كانت هناك جماعة أخرى تطلق على نفسها «حزب الأمم الإسلامية»، يقودها عباس دوزدواني، الذي سيصبح، لاحقا، وزير الإرشاد الإسلامي في عهد الخميني، وكانت تلك الجماعة تحلم بـ«الجهاد» المسلح لتحويل العالم كله إلى المذهب الشيعي.
وكان هناك فرع آخر لـ«الفدائيين» هو حزب الله، الذي يقوده حجة الإسلام هادي الجعفري، وهو الرجل الذي قتل في عام 1979 رئيس الوزراء السابق، أمير عباس هويدا، أثناء اقتياده إلى محبسه بعد انتهاء إحدى جلسات المحاكمة. ومن قيادات حزب الله الآخرين، كان هناك آية الله صادق خلخالي، الذي كان مقربا من الخميني والذي قام باعتباره من كبار القضاة الإسلاميين، بالحكم على ما يزيد على خمسة آلاف سجين، بالإعدام مباشرة فور استيلاء الملالي على السلطة في عام 1979.
وبعد الثورة، أصبح إنشاء أفرع لحزب الله في الدول الإسلامية الأخرى ضمن البرامج الحكومية. ففي الفترة ما بين 1979 و1989، جرى إنشاء 17 فرعا، بما في ذلك فرع في لبنان، أسسه وأداره، في البداية، آية الله علي أكبر محتشمي. ولاحقا، خضعت الشبكة للهيمنة المباشرة للحرس الثوري.
ومن جهة أخرى، قرر بعض رجال الدين الذين كانوا يرتبطون، في البداية، بالفدائيين، أن يعقدوا صفقات مع نظام الشاه. ثم تبنوا، تدريجيا، موقفا بعيدا عن السياسة. ومن بينهم كان آية الله كاشاني، والواعظ بالإذاعة محمد تقي فلسفي، والملا شمس الدين قناة العبادي، والواعظ الشهير فخر الدين حجازي. ثم تحول عدد من مؤيدي «الفدائيين» إلى مجال المال والأعمال، من بينهم علي أكبر بهرماني، الذي استخدم الاسم المستعار «هاشمي رفسنجاني» واتجه للعمل كمقاول معماري. وسرعان ما اتجه شباب الملالي والطلاب الدينيون الذين كانوا لا يزالون موالين لـ«الفدائيين» إلى الإقرار بأن الخميني هو قائدهم - وأنه وريث حقيقي لنواب صفوي. وكان من بينهم أشخاص مثل علي خامنئي ومحمد خاتمي. وخلال العقود الثلاثة الماضية، كان من بقي من الفدائيين والمتعاطفين معهم، أو أقرباء لأعضاء التنظيم الأولين، يمثلون جزءا كبيرا من الأفراد الذين يعملون في نظام الخميني. وفي بعض الأحيان، ابتكر الأشخاص الذين كانوا أصغر من أن يكونوا قد لعبوا دورا في تاريخ الفدائيين، روايات تحاول إيجاد صلة بينهم وبين الفدائيين. وقد زعم حسن روحاني، الذي سيصبح، لاحقا، رئيسا للجمهورية الإسلامية، أنه عندما كان طالبا في المدرسة، كان يوزع منشورات نواب صفوي. وزعم الخميني أنه حضر العديد من المحاضرات التي ألقاها صفوي في طهران ومشهد.
وقد لجأ كبار رجال الدين، مثل أية الله أبو القاسم الخوئي (في النجف)، وكاظم شريعتمداري في قم، إلى اتخاذ وضعية رجال الدين الشيعة الأكثر هدوءا وبعدا عن السياسة.
ولكن التعامل مع الإسلام باعتباره أيديولوجيا بدلا من كونه دينا، مكن الإخوان والفدائيين من السعي للحصول على جمهور أوسع باسم الأهداف السياسية المشتركة. وهذا ما عبر عنه أية الله محمد قمي، في حوار أجري معه في 1984: «ففي مناقشة دينية، سرعان ما سيتضح أن هناك خلافا عميقا في فهم الإسلام بين السنة والشيعة، ولا يستطيع أي طرف أن يوافق على النقاط الرئيسة في موقف الآخر. ولكن عندما يأتي الأمر إلى السياسة، يمكنهما أن يتحدا وراء شعارات وأهداف مشتركة. وبمعنى آخر، بينما يفرق الدين المسلمين، تجمعهم الأيديولوجيات السياسية».
وكان الدرس الثاني الذي تعلمه الفدائيون من الإخوان، هو أهمية الفعل المباشر الذي يمكنه، في بعض الأحيان، أن يتحول إلى عنف وربما إلى إرهاب. ومع مرور السنوات، قامت مجموعة من الجماعات الإرهابية التي تعمل باسم الإسلام، أو باسم نسخ مختلفة من الماركسية، بقتل المئات من الأشخاص في إيران. وحتى بعدما جاء الملالي إلى السلطة، استخدم عدد كبير من خصومهم الاغتيالات والأشكال الأخرى من الإرهاب ضدهم، وجميعهم كان يتحرك باسم الإسلام. وفي عهد الخميني، ظهرت جماعة غامضة يطلق عليها «الفرقان»، واغتالت عددا من قيادات النظام الجديد، وبضمنهم رئيس الأركان، ولي الله قراني، وأية الله مرتضى مطهري، وأية الله محمد مفتح، فيما قتل كل من أية الله محمد بهشتي، والرئيس محمد علي رجائي، على يد «مجاهدي الشعب».
ولم يقتصر تسييس استخدام المفرادت الدينية على الفصائل التابعة مباشرة للإخوان و- أو الفدائيين، فقد استخدمت، لاحقا، حركة ماركسية لينينية أطلقت على نفسها «فدائيو خلق»، مصطلح الفدائيين. كما أن حاشية نواب صفوي، كانت تطلق عليه «المجاهد»، وفي الوقت نفسه، كان يطلق ذلك المصطلح على جماعة ماركسية - إسلامية تطلق على نفسها «مجاهدو خلق». وكانت هناك العديد من المصطلحات الأخرى في قاموس الفدائيين التي استخدمتها الجماعات السياسية غير الدينية، مثل مصطلح «الشهيد»، ومصطلح «المنافق». وتطلق تلك الجماعات على مؤيديها مصطلح «إخوة المجاهدين»، فيما تطلق على خصومها اسم «محاربو الله». وكانت هناك حقيقة أساسية ساهمت في التقارب والتعاون الوثيق، لاحقا، بين الإسلاميين المصريين والإيرانيين، وهي التوصل إلى اتفاق بين قم والأزهر في أواخر الأربعينيات، وذلك بمبادرة من أية الله بروجرودي الذي كان يؤمن بضرورة الوحدة بين الأمم المسلمة لكي يجدوا مكانا أفضل في النظام الدولي ما بعد الحرب. وبعد سنوات من المفاوضات، وافقت كل من قم والأزهر على الإقرار بشرعية خمسة مذاهب، وهي المذاهب السنية الأربعة، بالإضافة إلى الشيعة الجعفرية. كما اتفق الجانبان على ألا يرسل أي منهما بعثات إلى أرض الآخر للتبشير بعقيدته. ومن ثم، ففي الفترة من الأربعينيات إلى الخمسنيات، أرسل بروجرودي نحو مائة بعثة إلى أوروبا وآسيا، ولكنه لم يرسل بعثة واحدة إلى مصر. وسهل ذلك التقارب حقيقة أن الأسر المالكة المصرية والإيرانية، كانت تربطهما علاقة وثيقة نظرا لزواج الأميرة فوزية من شاه إيران.
وعلى الرغم من وجود تقلبات عديدة في علاقتهما، أدركت كل من حركة الخميني وجماعة الإخوان المسلمين حاجتهما لبعضهما البعض، على الأقل، كحلفاء لتحقيق أهداف تكتيكية. وكان كلا الفصيلين مناهضين للأوضاع الراهنة، يسعيان إلى تحطيم توازن القوى الذي تم تأسيسه في الشرق الأوسط، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وكان كلاهما يرغب في انتزاع السلطة من النخب الحاكمة التي تعتمد على المؤسسة العسكرية. والأهم من ذلك، هو أن كلاهما كان حاسما في نبذ العالم الحديث، على الأقل ما يتعلق منه بالرسائل السياسية والثقافية. وبالتالي، فليس مفاجئا أن المؤلفات التي كتبها سيد قطب المصري، وأبو علاء المودودي الباكستاني، التي ترجم بعضها خامنئي، تم تقدميها باعتبارها «الفلسفة الإسلامية» في نظام الخميني.
كان نظام الخميني يحتاج إلى الإخوان لسببين:
أولهما، يرجع إلى السياسة الخارجية، حيث يتمتع الإخوان بحضور قوي في تركيا، ويمكن أن يساعدوا طهران في دق إسفين بين أنقرة وواشنطن. وهذا هو السبب الذي دفع نظام الخميني لأن يساند بقوة، حزب نجم الدين أرباكان «رفاه»، قبل وخلال هيمنة الحكومة التركية القصيرة عليه. وأثناء حديثه في جنازة أبيه في عام 2011، أثنى أرباكان على الجمهورية الإسلامية قائلا، إنها «أكثر رموز الإسلام القوي أهمية اليوم».
كما تحتاج طهران إلى العلاقات الطيبة مع الإخوان، لكي تجد موطئ قدم لها في مصر، وهذا هو السبب الذي دفع خامنئي إلى إرسال عدد من المبعوثين إلى محمد مرسي فور انتخابه كرئيس، كان على رأسهم الرئيس محمود أحمدي نجاد، لعرض «شراكة استراتيجية» تبدأ بحزمة مساعدات تقدر بنحو 2 مليار دولار. كما عرضت طهران، علانية، مساعدة الإخوان على «تطهير» مؤسسات الدولة المصرية، وخلق نسخة مصرية من الحرس الثوري لسحق الخصوم المحتملين. ولكن مرسي لم يوافق على ذلك، نظرا لوجود انقسامات داخل قيادة الإخوان حول سياستهم الخارجية.
كما كانت العلاقة بالإخوان ضرورية لإقناع الجماهير العربية بأن دعم إيران للقضية الفلسطينية هو دعم أصيل؛ حيث إن السنوات الطويلة من الاستثمارات الكبيرة في الجهاد الإسلامي، والفرع اللبناني «حزب الله»، لم تقنع العديد من العرب بأن طهران كانت مهتمة حقا بفلسطين.
وعلى النقيض، مكنت العلاقات القوية بحماس، الفرع الفلسطيني للإخوان، نظام الخميني من الحصول على مصداقية أكبر فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
تعد جماعة الإخوان حركة عالمية ماثلة في أكثر من مائة دولة، فيما تعد حركة الخميني حركة حديثة نسبيا، على المشهد العالمي للراديكالية الإسلامية. ومن ثم كان بإمكان الإخوان، من من نواحي عدة، مساعدة الخومينيين على إقامة صلات وإيجاد موطئ قدم لهم في عدد من البلدان، بما في ذلك أندونيسيا، والهند، وشمال أفريقيا، ويوغوسلافيا السابقة، وبالطبع أوروبا والولايات المتحدة. وفي بعض الأحيان، كان يقيم تلك الاتصالات، محمد علي تسخيري، مبعوث الخميني الخاص للتقارب الإسلامي. وفي أحيان أخرى، كان الجنرال قاسم سلماني، رئيس فيلق القدس التابع للحرس الثوري، مسؤولا عن تلك الاتصالات. وقبل عامين، أنشأ خامنئي، كيانا جديدا أطلق عليه «الصحوة الإسلامية»، بالتعاون مع وزير الخارجية السابق علي أكبر ولاياتي، الذي أصبح السكرتير العام لذلك التنظيم، بهدف تعزيز العلاقات مع الإسلاميين الراديكاليين على مستوى العالم. وكان أكثر من نصف الأشخاص الاربعمائة الذين حضروا أول مجلس للمنظمة الجديدة في طهران، من أعضاء جماعة الإخوان المسملين من جميع أنحاء العالم. وكان يترأس وفد الإخوان المصريين كمال الهلباوي، رجل الأعمال المقيم في لندن، الذي كان مدافعا دائما عن النفوذ الإيراني في مصر. كما يوفر تكوين علاقات قوية مع الإخوان لحركة الخميني، مساحة أيديولوجية أوسع يمكن عبرها السعي لتحقيق أهداف نظام طهران سواء السياسية أو الاستراتيجية.
وخلال العقود الماضية، نظم نظام طهران سلسلة من المؤتمرات الدولية، تحت شعارات مختلفة، إحياء لذكرى استحواذ الملالي على السلطة في فبراير (شباط) 1979. وحمل بعض تلك المؤتمرات، عنوان «عالم بدون أميركا»، أو «عالم بدون إسرائيل»، فيما كان يتم الترويج للبعض الآخر باعتباره ندوات لدراسة «الفلسفة الثورية» للخميني.
وكانت الصلات التي يتمتع بها الإخوان على مستوى العالم، قد ساعدت إيران، أيضا، في جهودها لتحقيق الهدف الصعب، وهو تقديم خامنئي كقائد أوحد للمسلمين في العالم. فعندما كان شابا، لم يكن خامنئي يعامل بجدية كقائد ديني مهم داخل إيران، أو حتى في العراق أو لبنان، خاصة وأنه كرجل سياسة، لا يوائم النموذج التقليدي للتراتبية الدينية الشيعية. ولم يترك آيات الله في قم والنجف، مساحة واسعة له لكي يقدم نفسه كزعيم ديني. ومع ذلك، فإذا ما نجح في الحصول على قدر من الاعتراف به من الجماعات الإسلامية خارج إيران، فربما يستطيع تعزيز وضعه الديني داخلها أيضا. ولتحقيق هذا الهدف، كان نظام الخميني بحاجة إلى الإخوان وكانوا هم في المقابل مستعدين للمساعدة.
ومن منظور أكثر شمولا، كان نظام الخميني يحتاج إلى الإخوان لتقليل عزلته في المجتمع الإسلامي، حيث ليس لهم حليف سوى نظام بشار الأسد الطغياني في دمشق. وبفضل العلاقات مع الإخوان، التي تمولها قطر، تستطيع طهران الآن، أن تقوم بمحاولات لتقسيم مجلس التعاون الخليجي كجزء من استراتيجيتها «لفنلندة» قطر وعمان، وتحدي الوضع القيادي للمملكة العربية السعودية في دول الخليج، فيما تعزز العلاقات مع الجماعات الإسلامية السنية في اليمن، ومن ثم تقليل الاعتماد على عملائها من الشيعة الزيدية.
وبإبراز قوتها أمام الشرق الأوسط، مرورا بالعراق وسوريا ولبنان، تستطيع الجمهورية الإسلامية تعزيز وضعها من خلال الظهور كمصدر لدعم الجماعات الإسلامية في الأردن وفلسطين والولايات المتحدة، أو حتى لعقد صفقة معها.
وبالتصرف على غرار القوى الانتهازية في التاريخ، حاولت الجمهورية الإسلامية تنويع محظفتها السياسية والاستثمارية؛ فطهران تدعم فصيل الأسد في سوريا، على الرغم من أنه ليست له علاقة وثيقة بالإسلام أو حتى بالشيعية. وفي العراق، كانت طهران تستثمر جهودها في السنة العرب العلمانيين والأكراد الاشتراكيين، إلى جانب فصائل الشيعة بأطيافهم المختلفة. وفي القوقاز، كانت طهران تدعم روسيا في حملتها للقضاء على الجماعات الإسلامية في الشيشان وداغستان وأنغوشيا. وفي القوقاز أيضا، كانت طهران تنحاز لأرمينيا المسيحية في مواجهة أذربيجان الشيعية. وفي كشمير، كان نظام الخميني يدعم الحكومة الهندية في مواجهة المتمردين المسلمين. ويوفر النظر للإسلام كأيدولوجيا سياسية بدلا من كونه دينا لنظام الخميني، فرصا واسعة للمناورة في الاتجاهات كافة.
وهناك ملاحظة أخيرة مهمة. وهي أن الإسلامية، التي تعني التعامل مع الإسلام كأيدويولجيا سياسية بدلا من كونه دين، هي حقيقة راسخة في حياة العديد من البلدان الإسلامية، بما في ذلك إيران ومصر. ولا يمكننا تجاهل تلك الحقيقة، أو تغييرها بالقوة. فقد جرى العديد من المحاولات لتغيير الوضع بالقوة، بما في ذلك حملات القمع الواسعة التي قام بها الشاه في إيران وناصر في مصر. يجب الإقرار بأن تسييس الدين، يروق لقطاعات من مجتمعاتنا يتراوح عددها بين 5 في المائة إلى 20 في المائة. ففي الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المصرية، جذب مرسى نحو 5 ملايين صوتا تعادل نحو 9 في المائة من مجمل الأصوات التي يحق لها التصويت. فإذا أقام الخمينيون انتخابات نزيهة، كان يمكن لخامنئي أن يحصل على نسبة مشابهة من الأصوات. ويبقى السؤال متعلقا بكيف يمكن دمج تلك الأقليات في نسيج الحياة القومية، من دون سحقهم بالقوة أو السماح لهم بتدمير الأمة برمتها.



«بريكست» بريطانيا... الحمى أقل زخماً

نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تزال تثير جدلاً سياسياً واجتماعياً (أ.ب)
نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تزال تثير جدلاً سياسياً واجتماعياً (أ.ب)
TT

«بريكست» بريطانيا... الحمى أقل زخماً

نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تزال تثير جدلاً سياسياً واجتماعياً (أ.ب)
نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تزال تثير جدلاً سياسياً واجتماعياً (أ.ب)

خلال السنوات الـ8 التي مرت منذ التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) عام 2016، كُتبت ملايين الكلمات عن آثاره. وحتى يومنا هذا، لا تزال قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تقسم البريطانيين.

في المملكة المتحدة، هيمن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على النقاش السياسي لسنوات، سيما بين عامي 2016 و2019. وبدا الأمر وكأن الملحمة لا نهاية لها. كنت نائباً في البرلمان ووزيراً في الحكومة البريطانية طوال ذلك الوقت. وأعلم كم من الوقت استهلك الجدل الذي يبدو بلا نهاية.

لكن الساحة السياسية في المملكة المتحدة اليوم أصبحت أقل زخماً بحمى البريكست. واستقر النقاش الآن على شواغل أطول أجلاً: كيف يمكننا تنمية الاقتصاد؟ وكيف يمكننا التعامل مع مستويات الهجرة المرتفعة للغاية؟ وكيف يمكن للمملكة المتحدة أن ترسم طريقها في الساحة الدولية؟

وزير الخزانة البريطاني السابق كوازي كوارتنغ (غيتي)

في الأثناء، وفي أوروبا نفسها، هناك مشاكل ملحة لا علاقة لها بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والمشاكل التي تواجهها أوروبا تماثل بشكل ملحوظ مشاكل بريطانيا.

يُنظر إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على اعتبار أنه عمل غريب وضرب من الجنون من جانب البريطانيين، في الوقت الذي أصبحت فيه القوى الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي وألمانيا وفرنسا أكثر تركيزاً على الداخل وأكثر تفتتاً من الناحية السياسية.

كان سقوط حكومة ميشال بارنييه بفرنسا، في بداية ديسمبر (كانون الأول)، مثالاً على مشكلة أوروبية لا علاقة لها بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. جاء رحيل بارنييه، بعد 3 أشهر فقط، بعد وقت قصير من انهيار الائتلاف في ألمانيا، الذي دفع باتجاه إجراء انتخابات مبكرة في فبراير (شباط) 2025، بدل الموعد الذي توقعه الجميع في سبتمبر (أيلول).

في بريطانيا، بطبيعة الحال، حصلنا على نصيبنا العادل من الانتخابات المبكرة. كان قرار ريشي سوناك بإجراء الانتخابات في يوليو (تموز) 2024 أحدث دعوة لإجراء انتخابات مبكرة، بعد الانتخابات المبكرة الناجحة التي أجراها بوريس جونسون عام 2019، وانتخابات تيريزا ماي المبكرة الكارثية عام 2017.

تظهر كل هذه الانتخابات المبكرة كيف أن الخروج البريطاني استشرف عصراً يتسم بقدر أكبر من عدم اليقين والفوضى. لا شك أن الأمور أصبحت أقل قابلية للتنبؤ بها بعد خروج بريطانيا، برغم أن المؤرخين سوف يتناقشون بلا أدنى شك حول ما إذا كان خروج بريطانيا أحد أبرز أعراض عصر الاضطرابات، أو بالأحرى أحد تداعياتها.

يشير نجاح دونالد ترمب في الانتخابات الأميركية عام 2016 إلى أن الخروج البريطاني، الذي سبق انتخابات ترمب، كان جزءاً من مجموعة أوسع من المتغيرات.

كانت القضايا التي أدت إلى بريكست؛ بما فيها ركود النمو الاقتصادي والهجرة الجماعية وفقدان الهوية بالنسبة للعديد من الناس في الغرب، هي القضايا نفسها التي ساهمت إلى حد كبير في انتصارات ترمب الانتخابية في عامي 2016 و2024.

يواجه البريطانيون أسئلة ملحة عن النمو الاقتصادي (إ.ب.أ)

في بداية عام 2025، يواجه الاتحاد الأوروبي وبريطانيا مشاكل تراجع النمو وارتفاع الهجرة نفسها. وتكمن خلف هذه الأسئلة القضايا المتعلقة بسياسات الهوية، والسياسات المثيرة للانقسام والمتعلقة بالعرق والجنس.

ويُقال إن الهوس المتصور بسياسات الهوية كان سبباً في إلحاق ضرر هائل بالديمقراطيين، كما بدا واضحاً في أحد الإعلانات الانتخابية الجمهورية، الذي يقول: «كامالا من أجلهم، والرئيس ترمب من أجلكم!».

هذه الرسالة المؤثرة بكل فعالية ألمحت إلى أن الديمقراطيين صاروا منغمسين في قضايا مثل حقوق المتحولين جنسياً، والاستخدام الصحيح للضمائر الشخصية، فضلاً عن مجموعة كاملة من النقاشات «المقبولة سياسياً» التي لم تكن على الإطلاق بين اهتمامات غالبية الأميركيين.

في أوروبا، هناك أيضاً مسألة الطاقة الرخيصة. وإلى أي مدى يتعيّن على الناس العاديين أن يدفعوا مقابل «التحول في الطاقة» لتصفير الكربون في اقتصاد بلدانهم عبر التخلي عن الوقود الأحفوري؟ لم تسبق أي قارة أوروبا في جهود «تصفير الكربون» أو الترويج للتخفيف من استخدام الوقود الأحفوري. ومع ذلك، لم تشهد أي قارة صعوداً أقوى للشعبوية اليمينية من أوروبا. فالشعبوية اليمينية عموماً ليست صديقة لـ«التحول الطاقي» والطاقة الخضراء.

من الواضح أن كل هذه المشاكل تتجاوز قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي تبدو أضيق وأكثر محدودية؛ إذ تنحسر أكثر في الزمن الماضي.

لكن بالنسبة لعشاق الاتحاد الأوروبي، فهناك شعور بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان بمثابة خسارة لكل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. وهم يزعمون أن المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي كان بوسعهما التعامل مع هذه القضايا بشكل أكثر فاعلية.

غير أن الحقيقة الواقعية تشير إلى خلاف ذلك. فمن المرجح ألا يختلف الوضع الراهن من عدم اليقين والخلافات السياسية إذا ظلت المملكة المتحدة داخل الاتحاد الأوروبي. خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في حد ذاته لم يتسبب في الوعكة التي يعيشها الآن كل بلدان الغرب.

*وزير الخزانة البريطاني السابق