حركة «الشباب» الصومالية... عودة الاستنزاف بالإرهاب

بعد نجاح الغارات الأميركية في الوصول لقيادات الصف الأول

تفجير انتحاري نفذته «حركة الشباب» أمام فندق في مقديشو الشهر الماضي (إ.ب.أ)
تفجير انتحاري نفذته «حركة الشباب» أمام فندق في مقديشو الشهر الماضي (إ.ب.أ)
TT

حركة «الشباب» الصومالية... عودة الاستنزاف بالإرهاب

تفجير انتحاري نفذته «حركة الشباب» أمام فندق في مقديشو الشهر الماضي (إ.ب.أ)
تفجير انتحاري نفذته «حركة الشباب» أمام فندق في مقديشو الشهر الماضي (إ.ب.أ)

عملت عدة عوامل ذاتية وموضوعية في سنة 2016، على إحداث تراجع حاد في النشاط الإرهابي لحركة الشباب الصومالية. فبفضل الجهود الإقليمية والدولية خسرت الحركة معظم الأراضي التي كانت تحكمها منذ 2009؛ كما أدت النزاعات الداخلية التي دبت وسط التنظيم الإرهابي، وظهرت للسطح منذ سنة 2012 لخلخلة حقيقية للصف الداخلي للحركة. كما أدت لانشقاق بعض الأفراد عن التنظيم الأم، ومبايعة أبي بكر البغدادي.
أظهرت بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال (أميصوم)، قدرة مهمة على المواجهة؛ خاصة بعد الدعم الأميركي والبريطاني الأوروبي لقواتها، تسليحا وتدريبا. وكذا بعد النجاحات التي حققتها الغارات الأميركية في الوصول لقيادات الصف الأول لهذه الحركة الإرهابية.
ورغم فقدان تنظيم الشباب لأهم معاقله ومصادر تمويله والشح الكبير في المقاتلين الذي يعانيه اليوم؛ فإن حركة الشباب الصومالية، بقيادة الأمير الحالي للمنظمة «أحمد ديري أبو عبيدة»، ما زالت تشكل تهديدا خطيرا للحكومة، والاستقرار الأمني الهش أصلا في كل من الصومال وكينيا وإثيوبيا. فقد استطاع التنظيم التأقلم مع الوضع الجديد لميزان القوة على الأرض؛ وغير منذ 2016 من سياسة المواجهة التقليدية، لقوات الاتحاد الأفريقي والحكومة الصومالية، وتنبي استراتيجية حرب العصابات. وكون لهذا الغرض مجموعة متخصصة في الاستخبارات، وأخرى للعمليات الخاصة.

الضربات المركزة
وضمن سياسته الجديدة، يعمل التنظيم الإرهابي الصومالي على اختيار أهدافه بدقة، مع ضمان بقائه على مسرح الأحداث باعتباره قوة لا يمكن تجاوزها. ويبدو أن النصف الأخير من سنة 2017 التي نعيشها، يعرف تطورا نوعيا لطبيعة المواجهة التي يتبناها التنظيم؛ والتي تقوم على اختيار نوعية الأهداف ووقت المواجهة، والرجوع للمناطق المسيطر عليها للاختباء. في هذا السياق يمكن تفسير أكبر عملية وحشية نفذتها حركة الشباب منذ 2007، حيث استهدف تفجير إرهابي في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 2017 منطقة مزدحمة في قلب العاصمة الصومالية مقديشو مخلفا نحو 250 قتيلا، وعددا كبيرا من الجرحى؛ كما خلف هذا العمل الوحشي خسائر مادية قدرت بنحو 6.3 مليون دولار أميركي.
وفي دعم لسياسة الضربات المركزة، والإبقاء على العاصمة مقديشو تحت «جحيم» الإرهاب؛ شن التنظيم الصومالي هجوما إرهابيا 28 أكتوبر 2017، على فندق «ناسا هابلود 2»؛ خلف أكثر من 70 قتيلا من بينهم برلمانيون سابقون، وضباط في الشرطة برتب عالية، ومسؤولون في الدولة وشخصيات أجنبية. وأعلنت الشرطة الصومالية، أن العملية تمت عن طريق انتحاري قاد السيارة المستعملة في الهجوم، فيما اقتحم مسلحون من تنظيم الشباب الفندق الذي يتردد عليه سياسيون في مقديشو، لقربه من القصر الرأسي.
وفي السياق نفسه الذي يؤكد عودة الشباب لمسرح الأحداث الصومالية، شن التنظيم عملية إرهابية بسيارتين مفخختين السبت 14 أكتوبر 2017، في مكانين مختلفين بالعاصمة مقديشو، أدت إلى مقتل نحو 22 شخصاً وإصابة آخرين.
وأمام هذا التصعيد الذي يمارسه التنظيم الإرهابي، اتخذت الحكومة الصومالية الضعيفة، إجراءات استعجالية لمواجهة هذا الوضع؛ حيث أقالت بتاريخ 29 أكتوبر، قائد الشرطة «عبد الحكيم طاهر ساعد»، ومدير جهاز المخابرات الوطنية «عبد الله محمد سنبلولشي». مما يعني أن التنظيم قادر على التأثير بقوة في الساحة الصومالية، وإرباك السياسة الأمنية للحكومة.
ويستنتج من كل ما سبق، أن الانتصارات التي حققها التنظيم الإرهابي الصومالي مؤخرا، لا تتعلق فقط بزعزعة الأمن والاستقرار؛ بل إن الشهور الأخيرة عرفت تقهقرا وهزائم نكراء للجيش الحكومي أمام مقاتلي الشباب، ونتج عن ذلك أزمة سياسية حقيقية، أضيفت لمشكلات الحكومة الحالية. ويمكن اعتماد انتصارات حركة الشباب، في مواجهتها المسلحة مع الجيش الصومالي مؤخرا بعد شن مقاتلي التنظيم، لهجوم على بلدة بريري التي تبعد 60 كلم جنوب غربي العاصمة مقديشو، مؤشرا بارزا على الإرباك العسكري والسياسي الذي تمثله حركة الشباب للحكومة الحالية.
حيث تمكنت الشباب من قتل نحو 100 عنصر من القوات الخاصة الصومالية العالية التدريب؛ وهو ما أدى إلى استقالة وزير الدفاع، عبد الرشيد عبد الله محمد، والقائد العام للجيش الصومالي الجنرال محمد جمعالي عرفيد.
وفي سياق العودة القوية دائما للتنظيم الإرهابي الصومالي؛ استولت حركة الشباب الصومالية 4 أغسطس (آب) الماضي، على بلدة ليجو التي تبعد عن مقديشو بنحو 130 كيلومترا إلى الشمال الغربي. وتجدر الإشارة أن هذه المنطقة عرفت أسبوعا داميا قبل السيطرة على البلدة، حيث قتل تنظيم الشباب لنحو 12 من قوات حفظ السلام الأفريقية بعد مواجهات عنيفة جدا. من جانب آخر دفع تصاعد وتيرة وقوة الأحداث الإرهابية التي نفذها تنظيم الشباب، بنحو 50 نائبا برلمانيا إلى التوقيع على عريضة تطالب باستقالة الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو، في الأسبوع الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 2017.

تجاوز الأزمة الداخلية
ويبدو أن هناك مجموعة من العوامل ساعدت على تنامي نشاط تنظيم أحمد ديري أبو عبيدة، في مقدمتها تجاوز الخلافات الداخلية. وكانت الحركة قد تأثرت بشكل قوي، بالتجاذب والنزاعات الداخلية؛ منذ أن خرج أحد أعضائها من أصل أميركي عمر حمامي للإعلام سنة 2012 للحديث عن تهميش قيادة التنظيم، لما سماهم «بالمقاتلين الأجانب».
ومما زاد من استفحال الأزمة الداخلية، ظهور رسالة بعنوان «أنا النذير العريان» التي وجّهها إبراهيم الأفغاني إلى زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري، في عام 2013 يكشف فيها الأفغاني ما يعتبره انحرافا في «حركة شباب» الصومال بقيادة أبي الزبير، والتي اتهمها بشن حرب ضد «العلماء والمجاهدين». ويقول أبو بكر الزيلعي المعروف بإبراهيم الأفغاني، في رسالته المشار إليها، أن «معظم الشخصيات في قائمة المطلوبين دوليا بتهمة الإرهاب من قبل أميركا وأوروبا ودول الجوار هم أيضاً نفس المطاردين أو المعتقلين أو المهمشين لدى حركة الشباب».
ومع هذه الأجواء الداخلية المشحونة، نشبت في صيف 2013، مواجهات مسلحة عنيفة وغير مسبوقة بين أفراد التنظيم. بين التيار الموالي لجودان من جانب، والتيار الموالي لمختار روبو وأويس وشونجول من جانب آخر؛ وقد أسفرت المواجهات عن إقصاء نحو 200 عنصر من «جهاز أمنيات» للاستخبارات التابع لتنظيم الشباب. كما تمكن الشباب في هذه المواجهات من قتل الأفغاني في 20 يونيو (حزيران) 2013.
وفيما يخص القيادي والمؤسس مختار روبو، قد خاضت قواته عدة مواجهات مع تنظيم الشباب إلى سنة 2017، واستمر الخلاف بينه وبين التنظيم التابع لـ«القاعدة»؛ وفي 14 أغسطس 2017 تمكن مختار روبو (أبو منصور) من الوصول للعاصمة الصومالية مقديشو جوا، بعد مفاوضات مع الحكومة الحالية، حسمت مستقبله ومستقبل المقاتلين الموالين له. وقد ساعد شطب الولايات المتحدة الأميركية في شهر يونيو 2017 اسم مختار روبو، من لائحة الإرهابيين المطلوبين على التعجيل بهذا التحول.

كسر شوكة التنظيم
يبدو أن جهود كسر شوكة تنظيم الشباب الصومالي، لا تتعلق باستقطاب واحد من أبرز مؤسسيه فقط، بل تتجه جهود الحكومة الصومالية لتعزيز التعاون الدولي والإقليمي لمواجهة التنظيم. فبعد الأحداث الإرهابية المشار إليها أعلاه، والتي مثلت تحديا كبيرا للحكومة؛ قام قبل أيام الرئيس محمد فرماجو بزيارة إقليمية، إلى كل من أوغندا وإثيوبيا وجيبوتي، للحصول على دعم عسكري والتسريع من وتيرة التنسيق لمواجهة حركة الشباب. وفي هذا الإطار نشرت وسائل إعلامية صومالية يوم الخميس الماضي، أن إثيوبيا نشرت قوات إضافية في إقليم جيدو، تقدر بنحو ألف جندي ومدججة بأسلحة ثقيلة. وأعلن مسؤول رسمي صومالي بالولاية، أن هذا التحرك العسكري يأتي في سياق التنسيق الصومالي الإثيوبي، والخاص بالهجوم المرتقب من قوات البلدين على مواقع الحركة الإرهابية في الإقليم استجابة لدعوة الرئيس محمد فرماجو.
رغم كل هذه الجهود الرسمية الصومالية، والدعم الدولي خاصة الغارات الأميركية على مواقع الشباب، المتواصلة (أعلنت واشنطن الجمعة أنها شنت غارتين ضد تنظيم داعش في الصومال وأنهما خلفت عدة قتلى)، ويمكن القول أيضاً أن تنظيم الشباب استعاد كثيرا من عافيته الداخلية، ومكنته تجربته الطويلة في القتال من الخروج من معاركه ضد قوات حفظ السلام الأفريقية بأقل الخسائر.
ورغم الانكماش الكبير جغرافيا الذي يعيشه التنظيم منذ 2016، وعودة آلاف الصوماليين من الدول المجاورة، جراء التحسن المؤقت للوضع الأمني؛ فإن الوضع الداخلي للبلد والانقسامات القبلية والعشائرية، والاختلافات القائمة بين دول الجوار الصومالي، إضافة لقلة التجهيزات والجاهزية العسكرية لقوات حفظ السلام الأفريقية. كلها عوامل تستغلها حركة الشباب لصالحها، خاصة مع الدعم القوي الذي يقدمه لها تنظيم القاعدة؛ والذي يرغب بشدة في استعادة موقعه في الصومال، وجعل البلد قاعدة حقيقية لتنظيم أيمن الظواهري في أفريقيا جنوب الصحراء والقرن الأفريقي، واستقطاب المقاتلين الموالين لـ«داعش» في المنطقة.
وهدا التوجه الجديد لحركة «الشباب»، لا يشكل تهديدا على الصومال فقط؛ بل يتجاوزه ليمس استقرار منطقة القرن الأفريقي، (جيبوتي، وإريتريا، والصومال، وإثيوبيا وكينيا)، وصولا لليمن والخليج العربي. ولهذا يتوجب على القوى الإقليمية والدولية، تقديم مزيد من الدعم للدولة الصومالية، حماية لمصالحها، والمصالح الدولية الاقتصادية والتجارية بالمنطقة.

* أستاذ زائر العلوم السياسية جامعة محمد الخامس - الرباط



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.