حركة «الشباب» الصومالية... عودة الاستنزاف بالإرهاب

بعد نجاح الغارات الأميركية في الوصول لقيادات الصف الأول

تفجير انتحاري نفذته «حركة الشباب» أمام فندق في مقديشو الشهر الماضي (إ.ب.أ)
تفجير انتحاري نفذته «حركة الشباب» أمام فندق في مقديشو الشهر الماضي (إ.ب.أ)
TT

حركة «الشباب» الصومالية... عودة الاستنزاف بالإرهاب

تفجير انتحاري نفذته «حركة الشباب» أمام فندق في مقديشو الشهر الماضي (إ.ب.أ)
تفجير انتحاري نفذته «حركة الشباب» أمام فندق في مقديشو الشهر الماضي (إ.ب.أ)

عملت عدة عوامل ذاتية وموضوعية في سنة 2016، على إحداث تراجع حاد في النشاط الإرهابي لحركة الشباب الصومالية. فبفضل الجهود الإقليمية والدولية خسرت الحركة معظم الأراضي التي كانت تحكمها منذ 2009؛ كما أدت النزاعات الداخلية التي دبت وسط التنظيم الإرهابي، وظهرت للسطح منذ سنة 2012 لخلخلة حقيقية للصف الداخلي للحركة. كما أدت لانشقاق بعض الأفراد عن التنظيم الأم، ومبايعة أبي بكر البغدادي.
أظهرت بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال (أميصوم)، قدرة مهمة على المواجهة؛ خاصة بعد الدعم الأميركي والبريطاني الأوروبي لقواتها، تسليحا وتدريبا. وكذا بعد النجاحات التي حققتها الغارات الأميركية في الوصول لقيادات الصف الأول لهذه الحركة الإرهابية.
ورغم فقدان تنظيم الشباب لأهم معاقله ومصادر تمويله والشح الكبير في المقاتلين الذي يعانيه اليوم؛ فإن حركة الشباب الصومالية، بقيادة الأمير الحالي للمنظمة «أحمد ديري أبو عبيدة»، ما زالت تشكل تهديدا خطيرا للحكومة، والاستقرار الأمني الهش أصلا في كل من الصومال وكينيا وإثيوبيا. فقد استطاع التنظيم التأقلم مع الوضع الجديد لميزان القوة على الأرض؛ وغير منذ 2016 من سياسة المواجهة التقليدية، لقوات الاتحاد الأفريقي والحكومة الصومالية، وتنبي استراتيجية حرب العصابات. وكون لهذا الغرض مجموعة متخصصة في الاستخبارات، وأخرى للعمليات الخاصة.

الضربات المركزة
وضمن سياسته الجديدة، يعمل التنظيم الإرهابي الصومالي على اختيار أهدافه بدقة، مع ضمان بقائه على مسرح الأحداث باعتباره قوة لا يمكن تجاوزها. ويبدو أن النصف الأخير من سنة 2017 التي نعيشها، يعرف تطورا نوعيا لطبيعة المواجهة التي يتبناها التنظيم؛ والتي تقوم على اختيار نوعية الأهداف ووقت المواجهة، والرجوع للمناطق المسيطر عليها للاختباء. في هذا السياق يمكن تفسير أكبر عملية وحشية نفذتها حركة الشباب منذ 2007، حيث استهدف تفجير إرهابي في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 2017 منطقة مزدحمة في قلب العاصمة الصومالية مقديشو مخلفا نحو 250 قتيلا، وعددا كبيرا من الجرحى؛ كما خلف هذا العمل الوحشي خسائر مادية قدرت بنحو 6.3 مليون دولار أميركي.
وفي دعم لسياسة الضربات المركزة، والإبقاء على العاصمة مقديشو تحت «جحيم» الإرهاب؛ شن التنظيم الصومالي هجوما إرهابيا 28 أكتوبر 2017، على فندق «ناسا هابلود 2»؛ خلف أكثر من 70 قتيلا من بينهم برلمانيون سابقون، وضباط في الشرطة برتب عالية، ومسؤولون في الدولة وشخصيات أجنبية. وأعلنت الشرطة الصومالية، أن العملية تمت عن طريق انتحاري قاد السيارة المستعملة في الهجوم، فيما اقتحم مسلحون من تنظيم الشباب الفندق الذي يتردد عليه سياسيون في مقديشو، لقربه من القصر الرأسي.
وفي السياق نفسه الذي يؤكد عودة الشباب لمسرح الأحداث الصومالية، شن التنظيم عملية إرهابية بسيارتين مفخختين السبت 14 أكتوبر 2017، في مكانين مختلفين بالعاصمة مقديشو، أدت إلى مقتل نحو 22 شخصاً وإصابة آخرين.
وأمام هذا التصعيد الذي يمارسه التنظيم الإرهابي، اتخذت الحكومة الصومالية الضعيفة، إجراءات استعجالية لمواجهة هذا الوضع؛ حيث أقالت بتاريخ 29 أكتوبر، قائد الشرطة «عبد الحكيم طاهر ساعد»، ومدير جهاز المخابرات الوطنية «عبد الله محمد سنبلولشي». مما يعني أن التنظيم قادر على التأثير بقوة في الساحة الصومالية، وإرباك السياسة الأمنية للحكومة.
ويستنتج من كل ما سبق، أن الانتصارات التي حققها التنظيم الإرهابي الصومالي مؤخرا، لا تتعلق فقط بزعزعة الأمن والاستقرار؛ بل إن الشهور الأخيرة عرفت تقهقرا وهزائم نكراء للجيش الحكومي أمام مقاتلي الشباب، ونتج عن ذلك أزمة سياسية حقيقية، أضيفت لمشكلات الحكومة الحالية. ويمكن اعتماد انتصارات حركة الشباب، في مواجهتها المسلحة مع الجيش الصومالي مؤخرا بعد شن مقاتلي التنظيم، لهجوم على بلدة بريري التي تبعد 60 كلم جنوب غربي العاصمة مقديشو، مؤشرا بارزا على الإرباك العسكري والسياسي الذي تمثله حركة الشباب للحكومة الحالية.
حيث تمكنت الشباب من قتل نحو 100 عنصر من القوات الخاصة الصومالية العالية التدريب؛ وهو ما أدى إلى استقالة وزير الدفاع، عبد الرشيد عبد الله محمد، والقائد العام للجيش الصومالي الجنرال محمد جمعالي عرفيد.
وفي سياق العودة القوية دائما للتنظيم الإرهابي الصومالي؛ استولت حركة الشباب الصومالية 4 أغسطس (آب) الماضي، على بلدة ليجو التي تبعد عن مقديشو بنحو 130 كيلومترا إلى الشمال الغربي. وتجدر الإشارة أن هذه المنطقة عرفت أسبوعا داميا قبل السيطرة على البلدة، حيث قتل تنظيم الشباب لنحو 12 من قوات حفظ السلام الأفريقية بعد مواجهات عنيفة جدا. من جانب آخر دفع تصاعد وتيرة وقوة الأحداث الإرهابية التي نفذها تنظيم الشباب، بنحو 50 نائبا برلمانيا إلى التوقيع على عريضة تطالب باستقالة الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو، في الأسبوع الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 2017.

تجاوز الأزمة الداخلية
ويبدو أن هناك مجموعة من العوامل ساعدت على تنامي نشاط تنظيم أحمد ديري أبو عبيدة، في مقدمتها تجاوز الخلافات الداخلية. وكانت الحركة قد تأثرت بشكل قوي، بالتجاذب والنزاعات الداخلية؛ منذ أن خرج أحد أعضائها من أصل أميركي عمر حمامي للإعلام سنة 2012 للحديث عن تهميش قيادة التنظيم، لما سماهم «بالمقاتلين الأجانب».
ومما زاد من استفحال الأزمة الداخلية، ظهور رسالة بعنوان «أنا النذير العريان» التي وجّهها إبراهيم الأفغاني إلى زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري، في عام 2013 يكشف فيها الأفغاني ما يعتبره انحرافا في «حركة شباب» الصومال بقيادة أبي الزبير، والتي اتهمها بشن حرب ضد «العلماء والمجاهدين». ويقول أبو بكر الزيلعي المعروف بإبراهيم الأفغاني، في رسالته المشار إليها، أن «معظم الشخصيات في قائمة المطلوبين دوليا بتهمة الإرهاب من قبل أميركا وأوروبا ودول الجوار هم أيضاً نفس المطاردين أو المعتقلين أو المهمشين لدى حركة الشباب».
ومع هذه الأجواء الداخلية المشحونة، نشبت في صيف 2013، مواجهات مسلحة عنيفة وغير مسبوقة بين أفراد التنظيم. بين التيار الموالي لجودان من جانب، والتيار الموالي لمختار روبو وأويس وشونجول من جانب آخر؛ وقد أسفرت المواجهات عن إقصاء نحو 200 عنصر من «جهاز أمنيات» للاستخبارات التابع لتنظيم الشباب. كما تمكن الشباب في هذه المواجهات من قتل الأفغاني في 20 يونيو (حزيران) 2013.
وفيما يخص القيادي والمؤسس مختار روبو، قد خاضت قواته عدة مواجهات مع تنظيم الشباب إلى سنة 2017، واستمر الخلاف بينه وبين التنظيم التابع لـ«القاعدة»؛ وفي 14 أغسطس 2017 تمكن مختار روبو (أبو منصور) من الوصول للعاصمة الصومالية مقديشو جوا، بعد مفاوضات مع الحكومة الحالية، حسمت مستقبله ومستقبل المقاتلين الموالين له. وقد ساعد شطب الولايات المتحدة الأميركية في شهر يونيو 2017 اسم مختار روبو، من لائحة الإرهابيين المطلوبين على التعجيل بهذا التحول.

كسر شوكة التنظيم
يبدو أن جهود كسر شوكة تنظيم الشباب الصومالي، لا تتعلق باستقطاب واحد من أبرز مؤسسيه فقط، بل تتجه جهود الحكومة الصومالية لتعزيز التعاون الدولي والإقليمي لمواجهة التنظيم. فبعد الأحداث الإرهابية المشار إليها أعلاه، والتي مثلت تحديا كبيرا للحكومة؛ قام قبل أيام الرئيس محمد فرماجو بزيارة إقليمية، إلى كل من أوغندا وإثيوبيا وجيبوتي، للحصول على دعم عسكري والتسريع من وتيرة التنسيق لمواجهة حركة الشباب. وفي هذا الإطار نشرت وسائل إعلامية صومالية يوم الخميس الماضي، أن إثيوبيا نشرت قوات إضافية في إقليم جيدو، تقدر بنحو ألف جندي ومدججة بأسلحة ثقيلة. وأعلن مسؤول رسمي صومالي بالولاية، أن هذا التحرك العسكري يأتي في سياق التنسيق الصومالي الإثيوبي، والخاص بالهجوم المرتقب من قوات البلدين على مواقع الحركة الإرهابية في الإقليم استجابة لدعوة الرئيس محمد فرماجو.
رغم كل هذه الجهود الرسمية الصومالية، والدعم الدولي خاصة الغارات الأميركية على مواقع الشباب، المتواصلة (أعلنت واشنطن الجمعة أنها شنت غارتين ضد تنظيم داعش في الصومال وأنهما خلفت عدة قتلى)، ويمكن القول أيضاً أن تنظيم الشباب استعاد كثيرا من عافيته الداخلية، ومكنته تجربته الطويلة في القتال من الخروج من معاركه ضد قوات حفظ السلام الأفريقية بأقل الخسائر.
ورغم الانكماش الكبير جغرافيا الذي يعيشه التنظيم منذ 2016، وعودة آلاف الصوماليين من الدول المجاورة، جراء التحسن المؤقت للوضع الأمني؛ فإن الوضع الداخلي للبلد والانقسامات القبلية والعشائرية، والاختلافات القائمة بين دول الجوار الصومالي، إضافة لقلة التجهيزات والجاهزية العسكرية لقوات حفظ السلام الأفريقية. كلها عوامل تستغلها حركة الشباب لصالحها، خاصة مع الدعم القوي الذي يقدمه لها تنظيم القاعدة؛ والذي يرغب بشدة في استعادة موقعه في الصومال، وجعل البلد قاعدة حقيقية لتنظيم أيمن الظواهري في أفريقيا جنوب الصحراء والقرن الأفريقي، واستقطاب المقاتلين الموالين لـ«داعش» في المنطقة.
وهدا التوجه الجديد لحركة «الشباب»، لا يشكل تهديدا على الصومال فقط؛ بل يتجاوزه ليمس استقرار منطقة القرن الأفريقي، (جيبوتي، وإريتريا، والصومال، وإثيوبيا وكينيا)، وصولا لليمن والخليج العربي. ولهذا يتوجب على القوى الإقليمية والدولية، تقديم مزيد من الدعم للدولة الصومالية، حماية لمصالحها، والمصالح الدولية الاقتصادية والتجارية بالمنطقة.

* أستاذ زائر العلوم السياسية جامعة محمد الخامس - الرباط



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.