إيتل عدنان تعود للنثر بمجموعة قصص قصيرة

إيتل عدنان
إيتل عدنان
TT

إيتل عدنان تعود للنثر بمجموعة قصص قصيرة

إيتل عدنان
إيتل عدنان

ها هي الشاعرة إيتل عدنان تعود للنثر بهذا الكتاب الجميل «سيد الكسوف»، وهو مجموعة قصص قصيرة بعد «الست ماري روز» رائعتها الروائية المفردة وكتابها «باريس حين تتعرى»، وهي نصوص مستعصية عن التحديد، نصوص تقع في مكان ما غامض بين أدب الرحلة والتأملات، نصوص يلفها الضباب وقبلها كتابها نساء ومدن: رسائل إلى فواز طرابلسي، وهذه الرسائل تجمع هي أيضا بين السيرة والتأمل الفلسفي واليوميات وأدب الرحلة بما أنها كتبت في أماكن ومدن متباعدة.
ولكن ما هي أبجدية إيتل عدنان في الكتابة؟ هذا السؤال مؤرّق لأنك لا تستطيع ضبط متنها في قالب محدد، والأمر قد يعود في رأيي إلى اكتشافها الأول للعالم من خلال الفنان التشكيلي القابع في أعماقها في دياجير الداخل.
بدأت إيتل عدنان بكتاب البحر، وهو ديوانها الأول الذي نشرته في العشرينات من عمرها هو صور متتالية. ولأنها إنسانة المرئيات يبدو لي أن إحساسها بالمادّة يطغى على حسها بالكلمات، وحتى عندما تكتب هي ترسم باستمرار مشاهد وبطريقة عفوية تاركة للوعي سيلانه دون تدخل العقل... إن ما يشدني إلى كتابتها هو ذاك الانتقال الحر والتلقائي بين عوالم الذات والحلم والواقع المباشر فهي في هذه القصص لا تعتمد سرد الوقائع هي تصور في الآن الداخل بلغة الحلم تذكرني بديانة الأحلام لدى سكان أستراليا الأصليين الذين يعتقدون أن عالم الحلم هو عالم الحقيقة والواقع النهاري هو صورة فوتوغرافية سالبة بالأبيض والأسود لا تكاد تبين.
تعيدني تقنية الكاتبة في هذه النصوص أو القصص القصيرة إلى عوالم التعبيريين التجريديين الأميركان أو ما يسمى مدرسة نيويورك في الرسم التي تعود جذورها إلى منجزات السريالية وأدواتها المتمثلة في الكتابة الأوتوماتيكية، واعتمادها على عوالم اللاوعي وشبه الوعي، واعتبار فعل الإبداع التلقائي سطحا وعمقا في الآن، فضربات الفرشاة المتوترة لدى بولوك وتبقيعه هو فعل آني وميتافيزيقي في الآن، هكذا يتبدى لي نثر إيتل ضربات متتالية انتقالا حرا سفرا بين عوالم الذات والعالم.
أيضا، ثمة سبب آخر يضاف ويمنح نصوصها ذاك الإبحار الحر وهو لغوي. إيتل عدنان تكتب بلغة محايدة، لا هي العربية التي تشكل جذورها الثقافية، ولا هي الفرنسية التي تعلمتها في مدارس الرهبان الكاثوليكية، لا سلطان لأي ماضٍ لغوي عليها، ولا سلطان للثقافة الكولونيالية أيضا هي متخففة من عصاب الفرنكوفونيين العرب في المغرب العربي ولبنان، أولئك المرتبكي الهوية، حيث يكون الواحد منهم عربيا في فرنسا وفرنسيا في بلاده، متحولا إلى مستشرق محلي، مبشرا بحداثة هي أشبه بالنقل على ورق الكربون أو بلغة الكومبيوتر اليوم قطع ولصق.
إنها تكتب داخل جغرافيا حيادية بالإنجليزية، حيث ليس لديها تابوهات ولا عادات لغوية وذاكرة لغوية تشدها إلى الماضي...
في هذه المجموعة المتشكلة من ثلاث عشرة قصة قصيرة تستمر إيتل في ذاك نية الريبورتاج على خلفية شعرية يبدأ الكتاب بقصة لقائها بالشاعر العراقي بلند الحيدري في مهرجان شعري في جبلينا إحدى مدن شمال صقلية عندما كانت تمطر القنابل على العراق، وهي أطول قصص المجموعة يتحدّث فيها بلند عن مكابدات طفولته، عن علاقته بصدام حسين في جمل شبه مفككة، حيث تنتقل إيتل من الآني وهو يقرأ الشعر إلى ماضي الشاعر. وفي هذا السرد الأقرب إلى الحلم تفكك إيتل أو بلند الآليات النفسية والثقافية لرجل السلطة في العراق. تقول:
«ما زلت أسمعه يقول إنه يخاف الحياة أكثر مما يخاف الموت، يلقي شعرا كما لو كان رثاء عن ثيران تتعثر في الضباب».
ثم توغل في الغرابة، تقول كما لو أنها تتحدث إلى شبح بلند الحيدري يتكلم: ذهبت إلى بغداد في منتصف السبعينات... قادتني الزيارة إلى مكان كان فيه دجلة سيد المشهد... كانت ليالي مليئة بالاحتفالات ملفوفة بزمن نقي يتواصل في انسيابه يخرج النسيم من تحت التراب أول الزهر في الصحراء الحاضرة أبدا....
يغور صوت بلند ثم يعود:
أحببت صدام، لكنّي فيما بعد بكيت بكاء مرا لأنني فعلت ذلك... أصبح العار لا يطاق إلى أن هربت من البلد...».
وتستمر إيتل في تفكيك سيكولوجية الطاغية والقتل الذي يبعث الإحساس بالعظمة وتلازم العظمة بالبارانويا التي يؤدي هذيانها إلى ذاك النوسان النفسي بين الإحساس بالعظمة والإحساس بتآمر الآخرين إلى مزيد من القتل، وهكذا تدخل السلطة والمجتمع إلى دوامة تأخذ الكل...
هكذا هي قصص المجموعة، ليست مجرد سرد لأحداث ووقائع كما هو الشأن في غالب الكتابات العربية اليوم، وإنما ثمة وراء السرد الشعري وعي بالعالم، رؤية للعالم تمنح القارئ اتساعا في الرؤية إلى حياته.
في قصة «قدرة الموت» تروي إيتل عدنان تجربة واصف الرجل الشرقي الذي يذهب طالبا إلى أوروبا ويعيش قصة حب يرفضها. حبيبته إيريكا السويدية هي مجرد تجزئة للوقت، يعود واصف إلى دمشق ليتزوج ويقنع نفسه بأنه لم يكن حبا. واصف الرجل المبرمج عاد إلى تقاليده وتزوج بامرأة هي تخيل أكثر منها واقعا، وانخرط في حياة هي ليست حياته، استجاب للمجتمع، يعني أعدم نفسه وفي الخمسين تعود إليه تلك العلاقة الحبية.
مثل شياطين الظهيرة وتلح عليه ليعود إلى السويد باحثا عن إيريكا، رواية الطيب صالح صورة أخرى لهذا الصراع الذي يخوضه الشرقي في علاقاته مع الغربيات، حيث يفتقد صورة أمه...
في قصة بوح الشاب الشرقي وهو يعلن لأمه قراره بالزواج وكأنه يعلن اعترافا بإثم كبير. نص يفكك تلك العلاقة المرضية التي تشد الأبناء إلى الأمهات والأمهات اللواتي يحببن السرد المتأرجح بين السيرة الذاتية وعوالم التخييل ويعتبرن أبناءهن ملكية خاصة لا يحق لأحد مشاركتهن في هذه الملكية، والقصة أيضا امتحان لهذا الشاب الذي ينتهي به الأمر إلى التحرر من ربقة الأم.
وهو الأمر الذي يقابل لدينا دراما قتل الأب لدى الغربيين؛ لأن سلطان الأم على الأبناء في ثقافتنا ومجتمعاتنا يفوق بكثير سلطة الأب لدى الغربيين.
في المجموعة أيضا أطراف من سيرة إيتل الذاتية في أميركا وقصص عن طبيعة السلطة لدينا ومآسي الحروب الأهلية، وعطف على الفقراء والمهمشين والضحايا التي الكثيرة التي تفرزها حياتنا المعقدة...
بقي أن أقول في الأخير، إن هذا الكتاب منقول عن الإنجليزية، لكن من ون ذكر المترجم!



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».