بودلير... كيف تحول إلى أكبر شاعر فرنسي؟

«لوبوان» و«لوموند» تصدران عددين خاصين بمناسبة مرور 150 عاماً على رحيله

غلاف مجلة «لوبوان» المكرس لبودلير
غلاف مجلة «لوبوان» المكرس لبودلير
TT

بودلير... كيف تحول إلى أكبر شاعر فرنسي؟

غلاف مجلة «لوبوان» المكرس لبودلير
غلاف مجلة «لوبوان» المكرس لبودلير

من بين الإصدارات الفرنسية التي لفتت الانتباه في الآونة الأخيرة، عددان خاصان كبيران عن بودلير صادران عن مجلة «لوبوان» وجريدة «لوموند»، وذلك بمناسبة مرور قرن ونصف على رحيله هذا العالم. فالجرائد هنا في فرنسا ليست فقط جرائد ومجلات؛ وإنما هي أيضاً مؤسسات كبرى تعنى بشؤون الثقافة والفكر؛ بل وحتى الدين! والسبب هو أن السياسة وحدها غير كافية لخلع الأهمية والمشروعية والأبّهة على الصحف الفرنسية. السياسة من دون ثقافة صفر، أو حتى مهزلة. حتى جاك شيراك فهم ذلك عندما قال: «نحن رؤساء الجمهوريات عابرون زائلون، على عكس الكتّاب والشعراء والمفكرين الكبار. بعد عشرين سنة لن يبقى لنا اسم؛ ما عدا ديغول. لماذا؟ لأنه أولا بطل تاريخي، ثم لأنه ثانيا كاتب كبير حتى بالمعنى الأسلوبي للكلمة. اقرأوا مذكراته. أسألكم: من يعرف اسم ملك فرنسا في عهد شارل بودلير؟ أو رئيس جمهورية فرنسا في عهد فيكتور هيغو؟ إنه جول غريفي. هل يعني لكم هذا الاسم شيئا؟ صحيح أن نابليون بقي وليس فقط شاتوبريان. ولكن نابليون كان أيضا بطلا تاريخيا عظيما. ومؤخرا لم يطلب دونالد ترمب شيئا، ما عدا زيارة قبره في الأنفاليد عندما دعاه ماكرون إلى باريس. حتى هيغل رأى فيه جوهر العالم وحركة التاريخ وروح الأزمنة الحديثة. هناك إذن الأبطال الذين يسطرون الشعر عمليا من خلال المعارك والفتوحات، وهناك الكتّاب الذين يكتبون الشعر من خلال مؤلفات خالدة يبلى الزمن ولا تبلى. من يستطيع أن ينسى مذكرات (ما وراء القبر) لشاتوبريان؟ أو (الأحمر والأسود) لستندال؟ أو (الكوميديا البشرية) لبلزاك؟ إلخ... هذا ناهيك بدون كيشوت وروائع شكسبير... إلخ؟ ولهذا السبب، فإن كثيرا من الزعماء وقادة العالم يحسدون الشعراء والكتاب وليس العكس. فالكتّاب خالدون والساسة عابرون».
لكن لنعد إلى صديقنا بودلير والإضاءات الساطعة الملقاة عليه مؤخرا من قبل هذين المنبرين الفرنسيين. فقد كرست له أعداد خاصة بمناسبة مرور 150 سنة على وفاته كما ذكرنا. وفرنسا الأدبية تحتفل بالذكرى هذه الأيام. بالطبع لن نستطيع التحدث عن كل شيء، فهذا يتطلب مقالات كثيرة وربما مجلدات. ولكن دعونا نطرح هذا السؤال: كيف تحول بودلير إلى أكبر شاعر فرنسي وغطى حتى على فيكتور هيغو في حين أنه مات مغمورا، مجهولا، فقيرا فقرا مدقعا؟
لنترك حق الكلام لمن هم أكثر منا علما ومعرفة بالموضوع، وأولهم البروفسور أنطوان كومبانيون، أستاذ الآداب الفرنسية في «كوليج دو فرنس» التي هي أعلى من السوربون. فما رأيه؟ إنه يقول ما معناه: إذا كان شارل بودلير يجسد اليوم في شخصه الشعر الفرنسي في أعلى تجلياته، فإن الأمر لم يكن هكذا في السابق. في الماضي كان فيكتور هيغو هو الذي يمثل ذلك ويتربع على عرش الآداب الفرنسية شعرا ونثرا. والواقع أن مسيرة بودلير نحو الشهرة والمجد ابتدأت بعد وفاته لا في حياته. وكانت مسيرة طويلة استغرقت أكثر من قرن قبل أن يتربع على عرش الشعر الفرنسي مع رامبو مُزيحاً بذلك فيكتور هيغو. ثم يضيف: «كان بودلير على المستوى الشخصي يعاني من هشاشات داخلية وآلام نفسية مبرحة. وعن هذه الهشاشات والآلام الداخلية نتج الشعر بأعظم ما يكون. ويرى بعض النقاد أنه إذا كان ديوان (أزهار الشر) يمثل ذروة الرومانطيقية وخاتمتها، فإن أشعاره النثرية تمثل بداية مطلقة في تاريخ الشعر الفرنسي؛ فقد دشن قصيدة النثر وخلع عليها المشروعية بفضل موهبته الشعرية الضخمة التي لا تضاهى».
أما المقابلة الكبرى التي أجرتها جريدة «لوموند» عن بودلير وأهميته في تاريخ الشعر، فقد كانت مع البروفسور آندريه غويو، الأستاذ في جامعة السوربون. وهو أحد المؤرخين الكبار للأدب الفرنسي إبان القرن التاسع عشر، أي في الفترة نفسها التي ولد فيها بودلير ورامبو وفيرلين ومالارميه وبقية الكبار. عندما طرحوا عليه السؤال التالي: ما الأحداث الكبرى في حياة بودلير؟ أجاب: «في رأيي هناك ثلاثة أحداث أساسية حسمت مصيره. الأول هو زواج أمه بعد وفاة والده بفترة قصيرة وكان عمره فقط ست سنوات. هذا الحدث هدّه هدّاً. وبشكل من الأشكال لم يقم منه أبداً. فقد كانت أمه له وحده، ينعم بحنانها وظلالها، فإذا بشخص غريب يدخل البيت فجأة لكي ينافسه عليها، بل ويأخذها منه. منذ تلك اللحظة ابتدأ الجرح السيكولوجي أو الصدع الأنطولوجي داخل أعماق بودلير. منذ تلك اللحظة اصطدم لأول مرة بتجربة المرارة. منذ تلك اللحظة عرف أن الشر موجود أيضا؛ بل وينخر في أحشاء العالم، وليس فقط الانسجام والنقاء والصفاء. هذه الضربة لم يقم منها بودلير حتى وفاته. وقد ظل يلوم أمه عليها حتى آخر لحظة عندما انفجر في وجهها قائلا: (من كان لها ابن مثلي فلا تتزوج)»!
أما الحدث الثاني الذي أثر عليه في رأي البروفسور غويو، فهو محاكمة ديوانه «أزهار الشر» من قبل محاكم باريس. فلم يدفّعوه غرامة كبيرة فقط، وإنما شوهوا سمعته بصفته شخصا معاديا للدين المسيحي والأخلاق الفاضلة. ولم تتجرأ أي شخصية كبرى على الوقوف إلى جانبه، على عكس فلوبير الذي حظي بتدخل أخت الإمبراطور فنجا من العقوبة. ومعلوم أنه أدين للأسباب نفسها على روايته «مدام بوفاري». لاحظوا سخرية الأقدار: الآن أصبح ديوان بودلير ورواية فلوبير من روائع الأدب الفرنسي ومن الأمجاد المكرسة مدرسيا وجامعيا... وكل شيء. فرنسا تفتخر بهما الآن أمام العالم، ولكن في وقتهما كانا مدانين وملعونين ومنبوذين. وهذا يعني أن الأعمال الطليعية أو الريادية تكون أحيانا سابقة لزمانها بكثير.
أما الحدث الثالث الذي دمر بودلير ونخر فيه من الداخل، فهو إصابته بمرض «السيفليس» أو الزُهَري وهو مراهق في أول الشباب. ومعلوم أن هذا المرض كان مرعبا آنذاك ولا علاج له مثل مرض الإيدز حاليا. كان مجرد ذكر اسمه يثير الذعر في النفوس. والآن لنطرح هذا السؤال: ماذا يقول العظماء عنه؟ الناقد الشهير سانت بيف قدوة طه حسين يقول له في رسالة خاصة: «أعتقد أنك تعذبت كثيرا يا ولدي. لقد اخترت الجحيم وجعلت من نفسك الشيطان. لقد أردت أن تنتزع من الجن والعفاريت أسرارها. وقد فعلت ذلك بمرونة وذكاء ولباقة وموهبة غريبة الشكل».
وتحدث نيتشه عن بودلير قائلاً ما معناه: هذا الشخص غريب الأطوار بودلير، هذا الشخص المجنون بثلاثة أرباع، هو صاحب ديوان «أزهار الشر». إنه داعر، زنديق، متصوف... «شيطاني»، ولكنه بشكل خاص من جماعة فاغنر.
أما جورج بومبيدو، رئيس فرنسا السابق الذي خلف ديغول، والذي كان عاشقا للشعر ويترنم به حتى في مؤتمراته الصحافية الكبرى، فماذا يقول عن بودلير؟
يقول ما معناه: لقد تحدثوا كثيرا عن بودلير المسيحي، أو عن علاقته بالإيمان. وأنا أعتقد شخصيا أن الإيمان كان بالنسبة له ضروريا وغائبا في آن معا. لم يكن يستطيع التخلي عنه ولم يكن يستطيع الإيمان به في آن معا.
ويقول الشاعر الكبير بول فاليري: «يعود الفضل في ديمومة شعر بودلير وتأثيره القوي على النفوس إلى امتلاء لهجته، وحدّة فرادتها التي تميزها عن كل ما سواها. لقد عابوا عليه عقمه الشعري؛ أي قلة إنتاجه. ولكنهم لم يفهموا أن أهمية الشعر لا تقاس بالكمية، وإنما بالنوعية وبالتأثير المديد على الأجيال...».
ويقول بول بورجيه هذه الكلمات المهمة جدا جدا:
«هذا الإنسان الأعلى كان ينطوي في شخصيته على شيء مقلق وسري مخيف حتى بالنسبة لأصدقائه الحميمين. وهذا الشيء كان يرعبهم فيه أو يسحرهم...».



من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)
وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)
TT

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)
وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

في الدورة الرابعة من مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، تنافست أعمال استثنائية نقلت قصصاً إنسانية مؤثّرة عن واقع المرأة في إيران وأفغانستان. وسط أجواء الاحتفاء بالفنّ السينمائي بوصفه وسيلةً للتعبير والتغيير، قدَّم فيلما «السادسة صباحاً» للإيراني مهران مديري، و«أغنية سيما» للأفغانية رؤيا سادات، شهادتين بارزتين على تحدّيات النساء في بيئاتهن الاجتماعية والسياسية.

«السادسة صباحاً»... دراما الصراع مع السلطة

يروي الفيلم قصة «سارة»، الشابة الإيرانية التي تتأهّب لمغادرة طهران لإكمال دراستها في كندا. تتحوّل ليلة وداعها مواجهةً مفاجئةً مع «شرطة الأخلاق»؛ إذ يقتحم أفرادها حفلاً صغيراً في منزل صديقتها. يكشف العمل، بأسلوب مشوّق، الضغط الذي تعيشه النساء الإيرانيات في ظلّ نظام تحكمه الرقابة الصارمة على الحرّيات الفردية، ويبرز الخوف الذي يطاردهن حتى في أكثر اللحظات بساطة.

الفيلم، الذي أخرجه مهران مديري، المعروف بسخريته اللاذعة، يجمع بين التوتّر النفسي والإسقاطات الاجتماعية. وتُشارك في بطولته سميرة حسنبور ومهران مديري نفسه الذي يظهر بدور مفاوض شرطة يضيف أبعاداً مرعبة ومعقَّدة إلى المشهد، فيقدّم دراما تشويقية.

لقطة من فيلم «أغنية سيما» المُقدَّر (غيتي)

«أغنية سيما»... شهادة على شجاعة الأفغانيات

أما فيلم «أغنية سيما»، فهو رحلة ملحمية في زمن مضطرب من تاريخ أفغانستان. تدور الأحداث في سبعينات القرن الماضي، حين واجهت البلاد صراعات سياسية وآيديولوجية بين الشيوعيين والإسلاميين. يتبع العمل حياة «ثريا»، الشابة الشيوعية التي تناضل من أجل حقوق المرأة، وصديقتها «سيما»، الموسيقية الحالمة التي تبتعد عن السياسة.

الفيلم، الذي أخرجته رؤيا سادات، يستعرض العلاقة المعقَّدة بين الصديقتين في ظلّ انقسام آيديولوجي حاد، ويُظهر كيف حاولت النساء الأفغانيات الحفاظ على شجاعتهن وكرامتهن وسط دوامة الحرب والاضطهاد. بأداء باهر من موزداح جمال زاده ونيلوفر كوخاني، تتراءى تعقيدات الهوية الأنثوية في مواجهة المتغيّرات الاجتماعية والسياسية.

من خلال هذين الفيلمين، يقدّم مهرجان «البحر الأحمر» فرصة فريدة لفهم قضايا المرأة في المجتمعات المحافظة والمضطربة سياسياً. فـ«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة، مع الإضاءة على دور الفنّ الحاسم في رفع الصوت ضدّ الظلم.

في هذا السياق، يقول الناقد السينمائي الدكتور محمد البشير لـ«الشرق الأوسط»، إنّ فيلم «السادسة صباحاً» ينساب ضمن وحدة زمانية ومكانية لنقد التسلُّط الديني لا السلطة الدينية، واقتحام النيات والمنازل، وممارسة النفوذ بمحاكمة الناس، وما تُسبّبه تلك الممارسات من ضياع مستقبل الشباب، مثل «سارة»، أو تعريض أخيها للانتحار. فهذه المآلات القاسية، مرَّرها المخرج بذكاء، وبأداء رائع من البطلة سميرة حسنبور، علماً بأنّ معظم الأحداث تدور في مكان واحد، وإنما تواليها يُشعر المُشاهد بأنه في فضاء رحب يحاكي اتّساع الكون، واستنساخ المكان وإسقاطه على آخر يمكن أن يعاني أبناؤه التسلّط الذي تعيشه البطلة ومَن يشاركها ظروفها.

على الصعيد الفنّي، يقول البشير: «أجاد المخرج بتأثيث المكان، واختيار لوحات لها رمزيتها، مثل لوحة الفتاة ذات القرط اللؤلؤي للهولندي يوهانس فيرمير، ورسومات مايكل أنجلو على سقف كنيسة سيستينا في الفاتيكان، وغيرها من الرموز والاختيارات المونتاجية، التي تبطئ اللقطات في زمن عابر، أو زمن محدود، واللقطات الواسعة والضيقة».

يأتي ذلك تأكيداً على انفتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي»، ومراهنته على مكانته المرتقبة في قائمة المهرجانات العالمية، وترحيبه دائماً بكل القضايا المشروعة.

ونَيل «أغنية سيما» و«السادسة صباحاً» وغيرهما من أفلام هذه الدورة، التقدير، وتتويج «الذراري الحمر» للتونسي لطفي عاشور بجائزة «اليُسر الذهبية»، لتقديمه حادثة واقعية عن تصفية خلايا إرهابية شخصاً بريئاً... كلها دليل على أهمية صوت السينما التي أصبحت أهم وسيلة عصرية لمناصرة القضايا العادلة متى قدّمها مُنصفون.

وأظهر المهرجان الذي حمل شعار «للسينما بيت جديد» التزامه بدعم الأفلام التي تحمل قضايا إنسانية عميقة، مما يعزّز مكانته بوصفه منصةً حيويةً للأصوات المبدعة والمهمَّشة من مختلف أنحاء العالم.