منذ فترة قريبة اجتمعت مجموعة من المهندسين والعلماء البارعين في مدينة بورتلاند بالولايات المتحدة لعرض تقنية لم تكن قبل سنوات، سوى على أنها ضرب من ضروب السحر، ففي مؤتمرهم هذا الذي يدعى «كومبيوتر فيجن آند باترن ريكوغنيشن (سي في بي آر)» أرادوا أن يؤسسوا لعالم تقوم السيارات فيه بقيادة نفسها، والآلات والماكينات بالتعرف على الأشخاص، والروبوتات التي تقلد الإنسان، بالسفر لوحدها من دون أن يرافقها أحد، لتنجز مهام عادية دنيوية، وصولا إلى أعمال المصانع، وعمليات الإغاثة في حالات الطوارئ.
وهذا المؤتمر ملتقى سنوي لعلماء الكومبيوتر، والطلاب، وقراصنة البرمجيات، من ذوي الرؤية المستقبلية، وأكثر من ذلك، فقد بات في السنوات الأخيرة محط اهتمام رجال الأعمال، الذين يتوقعون وثبة تقنية كبيرة يستفيدون من خلالها ماليا وتجاريا. على أي حال، يشكل المؤتمر خطوة مهمة نحو الجيل المقبل من عالم الكومبيوتر، والروبوتات، والذكاء الصناعي.
نظم ذكية
إن القدرات الكومبيوترية المتنامية تسمح بأن تقوم السيارات بقيادة نفسها، والروبوتات العاملة في الحقول والمزارع، بإظهار ما تستطيع القيام به، بينما تتطور ما تعرف بتقنية التعرف على النطق والكلام، والملاحة الدقيقة جدا، فضلا عن التغيرات الكبيرة التي حصلت في مضمار العمليات الكومبيوترية الشخصية والإنترنت؛ التقنيات التي حددت ملامح العقود الثلاثة الأخيرة.
«خلال العقد المقبل سيحل (الذكاء) في كل الأمور»، كما يقول إيد لازوواسكا عالم الكومبيوتر في جامعة واشنطن، الخبير في «بيغ ديتا»، أي عالم البيانات والمعلومات الواسعة، الذي تابع قائلا: «ستكون هناك منازل ذكية، وسيارات ذكية، وصحة بدنية ذكية، وروبوتات ذكية، وجموع من الناس ذكية، وتفاعل ذكي بين الكومبيوتر والإنسان».
وأضاف أن هذا الكم الهائل من المعلومات والبيانات التي تولدها المستشعرات رخيصة الثمن، بات عاملا مهما في تغيير مركز الجاذبية في عالم الكومبيوتر، التي من شأنها أن تنقل الذكاء الصناعي، مثل الآلات التي تتعلم من ذاتها، إلى أبعد مما تقدمه أجهزة الكومبيوتر الحالية، سواء المكتبية أو المحمولة.
وكانت «أبل» الأكثر نجاحا والأولى في ابتكار وترويج ما يدعى «الكومبيوتر كلي الوجود»، أي الحاضر والموجود في كل مكان. وكانت الفكرة هذه قد اقترحها مارك ويزر عالم الكومبيوتر في «زيروكس»، التي تنطوي على وضع معالجات وشرائح إلكترونية قوية في كل المنتجات التي تسيّر الأمور اليومية.
وكان ستيف جوبز في ولايته الثانية على «أبل»، الأسرع في استيعاب تداعيات هبوط أسعار وكلفة ذكاء الكومبيوتر. وقد استغل ذلك أولا بإنتاج مشغل الموسيقى الرقمية «آي بود»، وبالتالي تطوير الاتصالات الجوالة عن طريق هاتف «آي فون». وبات مثل هذا الابتكار يغزو كل مناحي المنتجات الاستهلاكية.
ويقول بول ستافو المدير الإداري لمؤسسة «ديسكرين أنالاتيكس» للأبحاث في سان فرانسيسكو، إن «أهم مؤسسة منتجة جديدة في وادي السليكون ليست شركة صانعة للكومبيوترات أبدا، بل إنها (تيسلا) Tesla السيارة الكهربائية التي أصبحت مفصلا مهما في الشبكة، وجهاز كومبيوتر بحد ذاتها، إنها في الواقع روبوت بدائي يلتف حولك».
ذكاء صناعي
وفيما يلي مجالات عدة التي ستستطيع من خلالها النظم الكومبيوترية من الجيل المقبل، وخوارزميات البرمجيات القوية، تطوير العالم في النصف المقبل من العقد الحالي.
* الذكاء الصناعي: لقد مضت سنتان منذ أن قام برنامج الذكاء الصناعي «واطسون» الذي ابتكرته «آي بي إم» بالتغلب على اثنين من أفضل لاعبي لعبة «جيوباردي». و«واطسون» هذا يستطيع الوصول إلى نحو 200 مليون صفحة من المعلومات، وبالتالي فهم واستيعاب الاستفهامات باللغة الطبيعية والإجابة عنها.
وكانت «آي بي إم» في الأصل قد خططت لاختبار النظام هذا بوصفه مستشارا ذا خبرة عالية للأطباء، ليصبح بمثابة دائرة معارف يرجع إليها هؤلاء في تشخيص الأمراض. وفي مايو (أيار) الماضي ذهبت الشركة هذه خطوة أبعد بالإعلان عن نسخة متعددة الأغراض من برنامجها هذا الذي دعته «آي بي إم واطسون إنغيجمانت أدفايزر» «I.B.M. Watson Engagement Advisor». وكانت الفكرة من وراء ذلك، هي جعل نظام السؤال والجواب هذا متوفرا لأغراض أوسع، وبوصفه دعما فنيا، وتطبيقا لعمليات البيع والدعم عن طريق الهاتف، خاصة أن الشركة كانت قد أفادت سابقا أن نحو 61 في المائة من جميع عمليات الدعم الفني عن طريق الهاتف فشلت، لكون موظفي مركز الدعم الفني غير قادرين على توفير المعلومات الصحيحة، أو الكاملة.
وتقول «آي بي إم» إن «واطسون» سيستخدم لمساعدة مشغلي هذا المركز من البشر، أو يمكن استخدامه على أنه خدمة ذاتية بحيث يتفاعل الزبائن معه مباشرة عن طريق طباعة الأسئلة على متصفح للشبكة، أو الكلام مع برنامج للتعرف على النطق.
روبوتات متقدمة
* الروبوتات: هنالك سباق يجري لتصنيع روبوتات يمكنها السير، وفتح الأبواب، وتسلق السلالم، والحلول محل البشر في المهمات الخطرة.
وفي ديسمبر (كانون الأول) المقبل، ستقوم «داربا» التابعة للبنتاغون في أميركا، بتنظيم حدثين لإجراء مسابقة جائزتها مليونا دولار، لتصنيع روبوت يمكنه الحلول محل عمال الإنقاذ والإغاثة في البيئات الصعبة، مثلما حدث في محطة فوكوشيما اليابانية قبل سنوات.
ومن المقرر أن تجرى هذه المباريات في ميامي، التي تشمل قيام الروبوتات بقيادة السيارات، واجتياز الأنقاض والمناطق المنكوبة، واستخدام العدد والأدوات الآلية، وإغلاق الصمامات.
وإضافة إلى روبوتات «داربا»، ثمة آلات ذكية في طريقها إلينا من «ريثينك روبوتس»، التي مقرها مدينة بوسطن، ومن «يونيفيرسال روبوتس» في كوبنهاغن، التي شرعت في تسويق روبوتات متهاودة السعر، مزودة بذراعين للمساعدة في المصانع. وجميع روبوتات هاتين الشركتين تفتقر إلى القوائم السفلية، أو حتى العجلات، لكنها الأولى التي تتوفر تجاريا، والتي لا تحتاج إلى أقفاص لكونها قادرة على مراقبة زملائها من العمال البشر، والتعاطف معهم من دون إيذائهم.
وبالنسبة للمنازل، تقوم الشركات حاليا بتصميم روبوتات أكثر تعقيدا من المكانس الكهربائية التي تعمل بالشفط. وكانت شركة «هولوها روبوتكس» التي أسسها مدير «مايكروسوفت» السابق تاندي تاور، قد ذكرت أخيرا أنها تنوي تصنيع روبوتات للعناية بالمسنين، وجعلهم يعتمدون على ذاتهم في حياتهم اليومية.
وستكون سبعة من الروبوتات التي ستشترك في مسابقة «داربا» على شاكلة ربوت «أطلس» الذي هو على شكل إنسان من إنتاج شركة «بوسطن ديناميكس»، التي مقرها والتهام، في ولاية ماساتشوستس في أميركا.
* النقل الذكي: في عام 2004 قامت «داربا» بإجراء أول مسابقة «غراند تشالنجيس» التي من شأنها أن توقظ الاهتمام في تطوير سيارات تقود نفسها بنفسها. وقد أدت المسابقة هذه إلى تقنيات مهمة جدا، مثل إمكانية تقديم المساعدة على الطرق المزدحمة، والقيادة على الطرق السريعة الأوتوماتيكية، كالتي عرضتها شركة «جنرال موتورز»، وإمكانية قيام السيارات بركن ذاتها أوتوماتيكيا، وهي خاصية موجودة سلفا في عدد من الشركات المنتجة للسيارات. ومن المنتظر أن تقوم هذه الشركة وشركة «نيسان» بطرح سيارات ذاتية القيادة بنهاية العقد الحالي. وتقوم «غوغل» وصانعو السيارات، باستخدام تشكيلة منوعة من أجهزة الاستشعار، والرادارات، والكاميرات، وإشعاعات الليزر، بغية صهر جميع بياناتها التي تجمعها، لتأمين خريطة مفصلة للعالم السريع المتغير حول السيارة المتحركة.
كومبيوتر متعاطف
* الكومبيوتر المتعاطف: في روضة للأطفال قرب جامعة كاليفورنيا في سان دييغو يقوم روبوت بحجم الأطفال يدعى «روبي» Rubi باللعب معهم، والإصغاء إليهم، والتحدث معهم، وفهم واستيعاب تعبيرات وجوههم.
و«روبي» هذا هو مشروع تجريبي للبروفسور خافيير موفيلان المتخصص في الروبوتات وتعليم الآلات. وهو واحد من عدد من الباحثين يعملون حاليا على صنف من الكومبيوترات يمكنه التواصل مع البشر، بما في ذلك إجراء محادثات معهم.
والكومبيوترات التي يمكنها فهم مشاعرنا العميقة معقودة الآمال عليها في صنع عالم مليء بالآلات الذكية.. لكنها أيضا تثير المخاوف من الاطلاع على الخصوصيات بحجم غير مسبوق. فعن طريق التقدم خطوة تتجاوز التعرف على الوجوه، إلى القدرة على مراقبة مجموعة من عضلات الوجه، وفك شفرة آلاف الحركات الممكنة، ويمكن فهم ما الذي يدور في خلد الناس، وما يختلج في صدورهم. وبذلك ستكون هناك آلات تدرك ما إذا كان الأشخاص يضحكون، أو يبكون، أو أنهم يشعرون بالخوف أو الريبة.
* خدمة «نيويورك تايمز»