إيران و«الإخوان»: الجذور الآيديولوجية للشراكة الحلقة (1): طهران كرّست آلتها الإعلامية لتأييد مرسي.. وبعد انتخابه حاولت التأثير على مساره السياسي

منع استخدام تعبير «الربيع العربي» وترسيخ مفهوم «الصحوة الإسلامية»

الرئيس المصري السابق محمد مرسي أثناء القاء كلمته في مؤتمر حركة عدم الانحياز بطهران في أغسطس (آب) 2012 وعلى يمينه نظيره الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد وأمين عام الامم المتحدة بان كي مون (أ.ف.ب)
الرئيس المصري السابق محمد مرسي أثناء القاء كلمته في مؤتمر حركة عدم الانحياز بطهران في أغسطس (آب) 2012 وعلى يمينه نظيره الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد وأمين عام الامم المتحدة بان كي مون (أ.ف.ب)
TT

إيران و«الإخوان»: الجذور الآيديولوجية للشراكة الحلقة (1): طهران كرّست آلتها الإعلامية لتأييد مرسي.. وبعد انتخابه حاولت التأثير على مساره السياسي

الرئيس المصري السابق محمد مرسي أثناء القاء كلمته في مؤتمر حركة عدم الانحياز بطهران في أغسطس (آب) 2012 وعلى يمينه نظيره الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد وأمين عام الامم المتحدة بان كي مون (أ.ف.ب)
الرئيس المصري السابق محمد مرسي أثناء القاء كلمته في مؤتمر حركة عدم الانحياز بطهران في أغسطس (آب) 2012 وعلى يمينه نظيره الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد وأمين عام الامم المتحدة بان كي مون (أ.ف.ب)

خلال الأسبوع الماضي، أصدر آية الله ناصر مكارم الشيرازي، أحد رجال الدين الخمسة الذين عينتهم الجمهورية الإسلامية كسلطة دينية في «قم»، بيانا يدين فيه ما أطلق عليه «الإجراءات الإجرامية التي اتخذتها السلطات المصرية ضد جماعة الإخوان المسلمين في مصر». كما انتقد «الصمت المخزي لوسائلنا الإعلامية وعلمائنا بشأن القضية». وأعرب عن أمله أن تصبح مصر في يوم ما مثل «إيران الإسلامية»، كما نفى آية الله الرؤية التقليدية حول الخميني باعتباره ممثلا للرؤية الشيعية للإسلام الراديكالي التي لا يمكنها تكوين تحالف مع الرؤية العربية السنية التي تدعو لها جماعة الإخوان المسلمين. وفي هذه السلسلة الجديدة من المقالات، يشير أمير طاهري إلى أن الخمينية والإخوانية لديهما تاريخ طويل من التواصل والتعاون الذي كان يتجاوز الانقسامات الطائفية، وأنهما ربما ما زالا يحاولان البحث عن دور يلعبانه في إعادة تشكيل توازن القوى في الشرق الأوسط وما بعده.
في يوم صيفي حار من عام 2014، كانت طهران تعج بالأحاديث حول تلك «اللحظة التاريخية» الوشيكة، التي من المنتظر أن تقع في قاعة المؤتمرات الجديدة التي تم إنشاؤها لاستضافة قمة حركة عدم الانحياز التي من المزمع أن تسلم فيها مصر زعامة القمة للجمهورية الإسلامية. وكان كل من علي خامنئي، والرئيس المصري المنتخب في ذلك الوقت محمد مرسي، يشار لهما بالبنان باعتبارهما صانعي تلك «اللحظة التاريخية». وكان من المفترض أن يمثل الرجلان انتصارا للإسلام الراديكالي بنسخه المختلفة من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهندي.
وقد اتضح حرص طهران على ذلك اللقاء من خلال الحملات الإعلامية المنظمة التي كانت تمتدح الرئيس المصري إلى الحد الذي يتجاوز المادحين المحترفين. وربما يكون الأكثر أهمية من ذلك هو أن القيادة الخمينية في طهران كانت تشعر بأنه حان الوقت لكي تحصل على المكاسب من الاستثمارات السياسية والدعائية، وربما المالية، التي قدمتها لكي تضمن فوز مرسي بالانتخابات. وتزعم خامنئي ذلك المسار من خلال الحديث حول «الصحوة الإسلامية» في مصر وإنشاء مكتب خاص بقيادة أحد أقدم مستشاريه وهو علي أكبر ولاياتي لمساعدة الإسلاميين على الفوز بالسلطة في العالم العربي. وفي خطاب له، زعم خامنئي أن الإسلام الحديث ليس لديه سوى ثلاثة «مفكرين عظام مؤثرين»، أحدهم هو سيد قطب - منظر جماعة الإخوان المسلمين التي فاز مرشحها، محمد مرسي، برئاسة مصر. (وبالنسبة لخامنئي، فإن المفكرين العظيمين الآخرين هما آية الله الخميني، والصحافي ورجل الدين الباكستاني أبو الأعلى المودودي).
وحرصا على ترسيخ مفهوم «الصحوة الإسلامية»، فرضت وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيرانية على وسائل الإعلام المحلية عدم استخدام مصطلح «الربيع العربي»؛ فما كان يحدث هو «صحوة إسلامية» واضحة ونقية في وجه أكثر من قرن من العلمنة في العالم الإسلامي، حيث أكد ولاياتي: «هذه صحوة إسلامية مستوحاة من ثورة الإمام الخميني في إيران». وفي هذا الإطار، فعندما تقدم الفيلسوف الإيراني داريوش شايغان للحصول على تصريح لنشر كتابه الجديد حول «الربيع العربي»، أخبروه بضرورة تغيير العنوان إلى «الصحوة الإسلامية»، أو يصبح الكتاب معرضا للحظر.
ومن جهة أخرى، تم تجاهل حقيقة أن الجماعات الإسلامية، بما في ذلك الإخوان المسلمون، لم تلعب دورا في المراحل الأولية والحاسمة من الثورات في تونس ومصر. والأهم من ذلك هو أن وسائل الإعلام في طهران اختارت أن تتجاهل حقيقة أن معظم المسلمين العرب لا يتعاطفون مع نظام الخميني «ولاية الفقيه»، الذي بمقتضاه يحصل الملا على سلطة لا نهائية نيابة عن المهدي المنتظر.
ولعدة أسابيع، كرست طهران آلاتها الإعلامية لتأييد مرسي، وبعد انتخابه حاولت التأثير على مساره السياسي. كما أشارت بعض التقارير، وإن كان من الصعب تأكيدها نظرا للطبيعة السرية لنظام الخميني، إلى أن الجمهورية الإسلامية قامت بضخ كميات هائلة من الأموال بالاستعانة برجال أعمال مصريين في لندن لتمويل الحملات الانتخابية لجماعة الإخوان المسلمين.
وكان لدى طهران أسباب أخرى تجعلها تتوقع الشكر من جماعة الإخوان المسلمين. فلمدة تزيد على العقد، كانت الجمهورية الإسلامية أحد أهم الممولين لحماس، وهي الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين، كما استضافت قيادتها وقدمت لها الوحدات العسكرية المزودة بالأسلحة، بالإضافة إلى التدريبات. ولسنوات، كانت طهران تقدم أيضا الدعم المالي والدعائي لفرع جماعة الإخوان بالجزائر. ففي عام 1992، أظهرت الوثائق التي تم تسريبها في ألمانيا أن طهران أودعت أكثر من سبعة ملايين دولار في حسابات بنكية تهيمن عليها «الجبهة الإسلامية للإنقاذ».
أيتام جماعة الإخوان
بعدما تعرضت جماعة الإخوان المسلمين لحملة قمع واسعة النطاق خلال فترة حكم الرئيس حسني مبارك، فقدت الجماعة جانبا كبيرا من قدرتها على مساعدة الكثير من الأفرع التي تتبعها سواء رسميا أو شبه رسمي في أنحاء العالم كافة. وفي الكثير من الحالات، وجد «أيتام» جماعة الإخوان مصادر جديدة للمواساة والدعم في نظام الخميني بطهران. فعلى سبيل المثال، مولت طهران الجماعة التي يقودها «الأخ» كليم صديقي في بريطانيا، كما مولت إنشاء ما أطلق عليه «البرلمان الإسلامي» في لندن.
وفي التسعينات، قدمت طهران التمويل لفرع الجماعة التركي وساعدتهم على توفير الآليات التي يحتاجون إليها للفوز بالانتخابات المحلية والقومية. وعندما أصبح نجم الدين أربكان، السياسي التركي ذو الصلة بجماعة الإخوان، رئيسا للوزراء في عام 1996 - 97، شكلت طهران تحالفا وثيقا مع حكومته في إطار خطط طموحة لإنشاء مجموعة الثماني الإسلامية في مواجهة مجموعة السبع التي تتزعمها الولايات المتحدة.
بدأت الاتصالات الأولى بين نظام الخميني و«الإخوان» في أواخر الثمانينات عندما اندلعت الحرب الإيرانية - العراقية؛ حيث أقام السفير الإيراني لدى الفاتيكان، هادي خسروشاهي، اتصالات مع عدد من قيادات جماعة الإخوان المقيمين بأوروبا. كما أنشأت السفارة الإيرانية لدى الفاتيكان دار نشر ساعدت على ترجمة ونشر عدد من كتب «الإخوان». كما أن خسروشاهي نفسه، الذي يعد من الملالي متوسطي الشأن، كان قد ترجم تاريخ جماعة الإخوان إلى الفارسية في أول رواية مكتملة حول نشأة الحركات الإسلامية وتطورها. ولاحقا، التقى مبعوث إيران لمكتب الأمم المتحدة بجنيف، سايروس ناصري، عددا من المصريين المنفيين في سويسرا، الذين لدى بعضهم صلة بحسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين في عام 1928. وفي بداية التسعينات، أقامت طهران أيضا اتصالات مع راشد الغنوشي رئيس حزب النهضة التونسي، وعباسي مدني زعيم «جبهة الإنقاذ» الجزائرية الإسلامية. ومن الاتصالات الأخرى التي أقيمت بين «الإخوان» وطهران، الاتصال بحسن الترابي، السياسي السوداني الذي رغم أنه ليس عضوا بجماعة الإخوان فإنه تمكن من التأثير عليهم والحصول على دعمهم لمساعيه للوصول إلى السلطة. وقد التقت الأطياف المختلفة للراديكالية الإسلامية في أبريل (نيسان) 1991 فيما يطلق عليه «المؤتمر الإسلامي الشعبي العربي» الذي استضافه الترابي في الخرطوم، وحضره ممثلون عن ما يزيد على 70 تنظيما من 50 دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وكندا. وقد أعلن ذلك الجمع المتنوع من المؤمنين بالراديكالية الإسلامية دعمه وتأييده لجماعة الإخوان المسلمين ونظام الخميني في إيران.
وأرسلت مصر أحد أكبر الوفود المشاركة في المؤتمر، الذي تضمن من سيصبح لاحقا الرجل الثاني في تنظيم القاعدة وهو أيمن الظواهري، بالإضافة إلى إبراهيم شكري. كما حضرت أعداد غفيرة من المجاهدين الأفغان، بما في ذلك عبد رب الرسول سياف، وقلب الدين حكمتيار. وكان الفريق الإيراني بقيادة آية الله مهدي كروبي، الذي كان رئيسا للمجلس الإسلامي (البرلمان) بطهران في ذلك الوقت. كما أرسلت إيران أيضا وفدا من فرعها اللبناني، حزب الله، بقيادة عماد مغنية. وقدم أسامة بن لادن نفسه باعتباره ممثل المملكة العربية السعودية وزعيم ما أطلق عليه «جبهة الإنقاذ الإسلامية»، رغم أنه كان يقيم بالسودان في ذلك الوقت.
وشاركت الجماعات الفلسطينية كافة بأعداد كبيرة، كان بينها شخصيات رفيعة المستوى مثل ياسر عرفات ونايف حواتمة، وخالد مشعل. كما حضر فتحي الشقاقي ممثلا عن حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين التي تدعمها إيران، كما أرسلت العراق في ظل حكم صدام حسين وفدا يترأسه أحد أولاد عمومة الديكتاتور وهو سعد التكريتي. وحضر داود موسى بيتكوك، زعيم «الحزب الإسلامي» في المملكة المتحدة ممثلا عن بريطانيا العظمى، كما حضر عبد الباري عطوان، الصحافي البريطاني من أصل فلسطيني. وكان الفريق اليمني يقوده عبد المجيد زنداني، ومثل عبد القدوس زعيم حركة «أراكان» دولة بورما، بينما مثل عبد الرزاق الجنجلاني «الأفغان العرب» الذين يقاتلون ضد النظام الشيوعي في كابل. كما كانت هناك وفود من الجماعات الإسلامية المسلحة بالفلبين والمعروفة باسم «أبو سياف» وكذلك تايلاند.
ووفقا لمحمد مهدوي، الذي كان في ذلك الوقت يعمل دبلوماسيا في النظام الإيراني، ساهمت طهران في تكلفة إقامة ذلك الحدث بمبلغ قيمته ثلاثة ملايين دولار. وكان الحضور في ذلك المؤتمر يأملون أن يتمكن مسلمو العالم، الذين كانوا يقدرون بنحو 1.2 مليار نسمة في ذلك الوقت، من أن يتحدوا لخلق «قوى عظمى» يمكنها أن تتحدى الهيمنة الأميركية التي تركت وحدها على الساحة بعد انهيار الإمبراطورية السوفياتية. ولكن رغم اتحادهم على كراهية الولايات المتحدة، سواء كانت تلك الكراهية حقيقية أم مختلقة، كان للمشاركين في المؤتمر الكثير من الأجندات المتباينة. وبعدما أنفقت قدرا كبيرا من المال، كانت طهران تتمنى أن تطرح نفسها باعتبارها قائد حركة الوحدة الإسلامية وتسعى للحصول على اعتراف بأن «مرشدها الأعلى» هو زعيم الأمة الإسلامية في جميع أنحاء العالم. ولكن ذلك السيناريو كان يبدو بالنسبة لمعظم المشاركين، على الأقل، سيناريو غريبا. فمن الصعب أن يتقبل المسلمون السنة، الذين يشكلون أغلبية الأمة، أن يصبح «المرشد الأعلى» لإيران الشيعية هو النسخة الحديثة من الخليفة.
ومن جهته، كان للترابي، مدير ذلك المؤتمر، أحلامه الواسعة أيضا، فقد أخبر كاتب سيرته الذاتية الفرنسي بأنه يتمنى الهيمنة على «دولة بترولية واحدة على الأقل» لكي يوفر التمويل الذي يحتاجه لكي يصبح زعيما للعالم الإسلامي. وفي إحدى مفارقات التاريخ، كانت السودان على وشك أن تصبح من كبرى الدول المصدرة للبترول، ولكن الحال انتهى بالترابي في السجن. كما أن المصريين الحاضرين في مؤتمر الخرطوم في ذلك الوقت لم يكونوا يمثلون الكتلة الرئيسة للإخوان المسلمين، ولكن عدد من الجماعات الراديكالية المتطرفة المتورطة في الإرهاب. وكانت أولى أولويات تلك الجماعات، التي كانت في ذلك الوقت تشن هجوما مسلحا ضد الرئيس مبارك، هو محاولة تحويل القواعد الشعبية لـ«الإخوان» إلى حركة راديكالية لمنعها من التوصل إلى مساومات مع النظام الحالي.
ومن جهة أخرى، قام المؤتمر بانتخاب لجنة توجيهية مكونة من تسعة أشخاص، بينهم بن لادن والظواهري، وكان يتم ممارسة نفس التقليد كل عامين. ورغم أنه على المستوى العملي، لم يسفر كل ذلك عن أي شيء وذهبت الخطابات الحماسية التي ألقيت في الخرطوم إلى غياهب النسيان، فقد أبرز ذلك الجمع عددا من النقاط المهمة.
أولا: أظهر أن الحركات الإسلامية على مستوى العالم، بشكل عام، متحدون في نظرتهم المتشككة تجاه العالم الحديث وإن كان بدرجات متفاوتة؛ حيث إنهم يدركون أن الإسلام لم يلعب دورا في تشكيل النظام الدولي الذي نعرفه حاليا. فقد تأسس العالم الحديث على مبادئ اقتصادية وسياسية وفلسفية ومناهج تم تطويرها في أوروبا الغربية، خاصة فرنسا وبريطانيا العظمى وألمانيا وهي دول مسيحية. كما أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ونحو 14 ألفا أو أكثر من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تنظم تقريبا مناحي الحياة كافة في العالم المعاصر - هي نتاج عدة دولة غربية مسيحية.
وبمعنى آخر، وبالنظر إلى ذلك النظام المعقد الذي لم يساعد الإسلام على خلقه ولا يبدو أنه يستطيع استيعابه تماما، يبدو الإسلام دخيلا. فعلى سبيل المثال، كيف يمكن النظر للمؤمنين وغير المؤمنين باعتبارهم متساوين أمام القانون؟ وكيف يمكن للمرء أن يقنع نفسه بفكرة أن الرجال، بل وحتى النساء، وكلاهما فان، لديه الحق في سن التشريعات حتى وإن كان ذلك يعني مراوغة أو تجاهل الشريعة؟
السعي إلى تسوية
في القرن التاسع عشر، حاول الكثير من «المفكرين» المسلمين أن يجدوا طريقة يستطيع عبرها الإسلام أن يتقبل ذلك العالم الغريب ويساعد على تطويره فيما يتفاوض للحصول على مساحة أكبر لمتطلباته الدينية وتلك المتعلقة بالتقاليد.
وبعيدا عن الشكوك في العالم الحديث، أشار ذلك الجمع من الإسلاميين الراديكاليين من جميع أنحاء العالم إلى درجة عالية من الخوف من أن تشق الحضارة الغربية، التي تشهد صعودا منذ القرن السابع عشر، طريقها إلى دار الإسلام وتخلب لب أغلبية المسلمين. وكان ذلك الخوف دائما ما يتردد على ألسنة الكثير من قيادات الإسلام الراديكالي. فدائما ما كان علي خامنئي يكرر: «إن العدو يهاجمنا على الجبهة الثقافية». وقد ترددت أصداء ذلك الخوف بين قيادات جماعة الإخوان المسلمين الذين يزعمون أن «الغرب» الذي لم يتمكن أبدا من تعريفه، مشارك في حرب ثقافية ضد الإسلام. والعامل الثالث المشترك بين ذلك الجمع المتباين من الإسلاميين، بداية من الخمينيين، وصولا إلى الفصائل المختلفة من جماعة الإخوان، هو اعتقادهم أن أنواع السياسة كافة، سواء الداخلية أم الخارجية، تتكون من سلسلة من المؤامرات. فبالنسبة لهم، لا يوجد شيء كما يبدو عليه ولا شيء يمكن أن يحدث من دون قدر من التآمر الذي يحدث سرا. والعامل الرابع المشترك بين هؤلاء الإسلاميين هو اعتقادهم ضرورة وفاعلية العنف الذي يمكن أن يعني في الكثير من الحالات الإرهاب لخدمة الأهداف السياسية.
وكما كان البنا يؤكد: «لقد حقق الإسلام النصر بحد السيف»، متجاهلا حقيقة أن معظم من يتم تصنيفهم حاليا كمسلمين في أكثر من 57 دولة على مستوى العالم لم يتم غزو بلادهم بحد السيف.
ومن جهة أخرى، فإن الإيمان المشترك بضرورة وفاعلية العنف، دفع الإسلاميين المعاصرين إلى تفسير الجهاد بأنه الاغتيالات والعمليات الانتحارية والخطف والحرب.
والنقطة الخامسة المشتركة بين الإسلاميين هي اعتقادهم بالقوى السحرية للقائد ذي الكاريزما، الذي عادة ما يطلق عليه «المرشد الأعلى». ونظرا لاقتناعهم بأن «الأشخاص العاديين» غير قادرين على تقديم مساهمات إيجابية في صناعة القرار في المجتمع، يسعى الخومينيون و«الإخوان» إلى تأسيس نظام أفلاطوني من حكم النخبة يقع فيه «المرشد الأعلى» على قمة هرم صناعة القرار.
وأخيرا، فإن الإسلاميين بطوائفهم كافة يعانون عقدة نقص عميقة الجذور يحاولون إخفاءها بالغطرسة والتعالي. فهم لا يؤمنون بأن الإسلام قوي بما يكفي للصمود عند دخوله في منافسة مع الديانات الأخرى أو مع الحضارات الأخرى، إذا ما نظرنا له باعتباره ثقافة. وقد برزت عقدة النقص تلك من عدة نواح. فعلى سبيل المثال، يحب الكثير من القيادات الإسلامية إبراز حصولهم على لقب «دكتور» وهو لقب غربي، كما أن الكثير منهم يستخدم في خطاباته وأحاديثه استعارات من الأكاديميين والفلاسفة الغربيين «الكفار».
توحي الطريقة التي يتم بها تقديم قيادات جماعة الإخوان المسلمين بأننا نتعامل مع نخبة طبية، فحتى حسن روحاني، الرئيس الجديد للنظام الخميني، يصر دائما على أن يطلق عليه «دكتور»، وفقا لدرجة علمية حصل عليها في «الشريعة» من جامعة خاصة مجهولة في أسكوتلندا، بدلا من أن يطلق عيه حجة الإسلام. ومن قبله، كان الرئيس محمود أحمدي نجاد يفتخر بكونه «دكتورا»، كما كان الرئيس الأول لنظام الخميني أيضا أبو الحسن بني صدر يفعل. ولا حاجة للقول بأن مرسي أيضا كان «دكتورا» قبل أن يكون «أخا». كما كان مرتضى مطهري، وهو الملا الذي ينظر له باعتباره المنظر الرئيس لثورة الخميني، مولعا بهيغل رغم أن كل ما يعرفه عن هذا الفيلسوف الألماني يعتمد على سيرة مختصرة كتبها مؤلف إنجليزي وترجمها للفارسية حامد عنايت.
ورغم تحذيرهم من استمرار عدم الوقوع في فخ الثقافة الغربية، وقع الكثير من الإسلاميين ضحايا لذلك الفخ. فهم يرسلون أولادهم للدراسة في الجامعات الأوروبية والأميركية ويسافرون إلى الغرب في الإجازات وللعلاج ويستثمرون أموالهم في البنوك والعقارات الغربية، وعندما يتم نفيهم أو يضطرون إلى ترك بلدانهم فإنهم يذهبون إلى باريس أو لندن أو نيويورك بدلا من دكا أو كابل أو لاغوس.
والآن، دعونا نعد سريعا إلى ذلك اليوم الحار من أيام أغسطس (آب) في طهران. كان «المرشد الأعلى» علي خامنئي يجلس في غرفة إلى جوار قاعة المؤتمرات منتظرا اتصالا من الرئيس المصري الدكتور مرسي الذي يزور البلاد؛ حيث إن مثل ذلك الاتصال يمكنه أن يعزز رغبة خامنئي في أن يظهر «كقائد للمسلمين كافة » بعدما جاء زعماء العالم الإسلامي للإعراب عن احترامهم، واعترافا بسيادته.
وفيما كان خامنئي ينتظر في غرفته، كان الدكتور مرسي في الغرفة الأخرى التي تقع على بعد 15 مترا، يعقد اجتماعات مع عدد من زعماء دول عدم الانحياز من أنحاء العالم كافة. وبعدما انتهت الاجتماعات، أعلن مرسي أنه سوف يغادر إلى المطار لكي يتمكن من اللحاق برحلته إلى القاهرة في نهاية زيارة استمرت عدة ساعات فقط. أجل، لم يكن لديه وقت للقاء خامنئي. فعلى خامنئي أن ينتظر مناسبة أخرى!
والسبب؟ يعتبر مرسي خامنئي سياسيا متخفيا في هيئة رجل دين، بينما ينظر خامنئي لمرسي باعتباره رجل دين متخفيا في زي السياسي. فإذا ما ذهب أحدهما للآخر فإنه يحتفي بهيمنة الآخر في ذلك النظام التراتبي المتخيل من الأحقية في قيادة الإسلام السياسي. وعندما سمع الرئيس محمود أحمدي نجاد بتلك الأنباء السيئة، شعر بالخزي أمام «المرشد الأعلى» الذي كان قد حصل على وعود بأن المشاركين كافة في القمة سوف يذهبون ويعربون عن احترامهم له. فقد أنفقت إيران 600 مليون دولار لإنشاء قاعة مؤتمرات جديدة والاستعداد للمؤتمر، وانتهى الحال بعدم حصولها على أي شيء. والأسوأ هو أن مرسي كانت لديه الجرأة للنطق بأسماء أبو بكر، وعمر وعثمان، وهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة خلال خطابه بالمؤتمر الذي يبث على الهواء مباشرة على الشاشات المحلية. وفشل مراقبو النظام الذين تمكنوا من حجب أجزاء من خطاب مرسي في الوقت الملائم في حجب ذلك الجزء. فيا لها من كارثة لنظام الخميني!
ومع ذلك، فإن الروابط التي تم تأسيسها قبل عدة عقود اكتسبت قوة آيديولوجية وتنظيمية جديدة بين حركة الخميني الموجودة في السلطة حاليا بإيران، وجماعة الإخوان المسلمين التي وصلت إلى السلطة في القاهرة بعد سقوط النظام الناصري.
كيف تأسست تلك الروابط ومن الأشخاص الرئيسيون الفاعلون بها؟ تلك قصة أخرى سيتم تفنيدها في الجزء الثاني من المقال.



«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.


الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
TT

الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)

تشكلت في الأسابيع الأولى لسقوط نظام بشار الأسد في سوريا قناعة بأن تركيا لعبت الدور الأكبر في الوصول «السلس» لفصائل المعارضة إلى دمشق في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، وتعزز ذلك مع دعم أنقرة السريع للإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، وتقديم نفسها بوصفها أحد «الرعاة الأساسيين» في مرحلة ما بعد الأسد.

كانت تركيا أول دولة ترسل مسؤولاً رفيع المستوى إلى سوريا للقاء الشرع في «قصر الشعب»، إذ زار رئيس مخابراتها، إبراهيم كالين، دمشق يوم 12 ديسمبر 2024، وتوجه للصلاة في الجامع الأموي، ليبدو أنه حقق وعد الرئيس رجب طيب إردوغان، في الأيام الأولى للثورة السورية في 2011، عندما قال سينهار نظام الأسد بأسرع وقت و«سندخل دمشق ونصلي في الجامع الأموي».

وأوحت تصريحات لوزير الخارجية هاكان فيدان بأن تركيا هي من لعبت الدور الرئيسي في سقوط الأسد وفتح الطريق أمام الشرع إلى دمشق، عندما قال، بعد أيام قليلة، إن أنقرة أقنعت روسيا وإيران، خلال الاجتماع بصيغة «آستانة»، على هامش «منتدى الدوحة» في 7 و8 ديسمبر 2024 بعدم التدخل.

من وجهة نظر فيدان، كان «نظام بشار الأسد ضعيفاً للغاية خلال العامَين أو الأعوام الـ3 الماضية، مع مقاومة نسبية في بعض الأماكن، لكن المعارضة دخلت حلب دون إطلاق نار تقريباً. مع ذلك، لو كرر الروس والإيرانيون رد فعلهم في عام 2016، لكان الشعب السوري قد واجه خطر المزيد من إراقة الدماء والنزوح».

وعندما سُئل فيدان: «كيف أقنعتم روسيا بعدم الوقوف إلى جانب الأسد؟». أجاب بكلمة واحدة: «تحدثنا».

إسرائيل قصفت مطار حماة العسكري في مارس الماضي على خلفية تقارير عن استخدامه من جانب تركيا في نقل مواد لوجيستية ومعدات لإقامة قاعدة جوية في حمص (أ.ف.ب)

تقييم الحصاد

في 16 أغسطس (آب) 2025 عقدت مجموعة التنسيق بين المؤسسات التركية اجتماعاً برئاسة نائب وزير الخارجية نوح يلماظ، الذي أصبح الآن سفيراً لتركيا في دمشق، أُجريت خلاله مراجعة شاملة للعلاقات مع سوريا والخطوات التي ستُتخذ خلال الفترة المقبلة لتعزيزها وتنفيذ الاتفاقات التي توصل إليها الجانبان في مختلف المجالات.

خلال الأشهر الـ8 الأولى بعد سقوط الأسد، وعبر تحركات مكثفة، كانت تركيا أول دولة تعيد فتح سفارتها في دمشق، إضافة إلى قنصليتها في حلب، كما وقعت في 12 أغسطس مذكرة تفاهم للتعاون العسكري والتدريب والاستشارات.

وتحركت تركيا على المستوى الثنائي والإقليمي لدعم حكومة الشرع في مكافحة تنظيم «داعش»، وإقناع الولايات المتحدة بمنظور جديد يجعلها تتخلى عن دعمها لـ«قسد» التي تشكل «وحدات حماية الشعب» (الكردية) عمودها الفقري، في السيطرة على شمال شرقي سوريا، بعد التحالف معها في الحرب على «داعش».

في هذا الإطار سعت تركيا إلى تشكيل تحالف يقوم على مبدأ «الملكية الإقليمية»، الذي يعني أن تقوم دول المنطقة بنفسها على حل مشاكلها دون تدخلات خارجية، وبدأت بالفعل جهوداً لتشكيل منصة خماسية تضمها مع كل من الأردن والعراق ولبنان إلى جانب سوريا، وعقد وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء المخابرات في الدول الخمس اجتماعاً في عمان في 9 مارس (آذار) الماضي، لكنه لم يسفر عن تأسيس آلية سعت إليها أنقرة.

نتيجة لذلك شكّلت تركيا آلية تنسيق مع سوريا عبر مركز عمليات مشترك في دمشق، لتأكيد دعمها للحكومة السورية في الحرب على «داعش».

وعقدت خلال الأشهر الـ10 المنقضية 3 اجتماعات لوزراء الخارجية والدفاع ورئيسي المخابرات في البلدين فضلاً عن الزيارات الثنائية المتبادلة على مستوى وزيري الخارجية، وزيارات رئيس المخابرات التركية لدمشق، كما زار الشرع تركيا 3 مرات في الفترة بين فبراير (شباط) وأغسطس.

على الصعيد الاقتصادي، أعادت تركيا تشغيل جميع البوابات الحدودية مع سوريا، وتم توقيع بروتوكول في أنقرة يوم 5 أغسطس الماضي، لإنشاء لجنة اقتصادية وتجارية مشتركة، وبدء دراسة إنشاء مناطق صناعية، بهدف إنعاش الاقتصاد السوري المتضرر من جراء الحرب وتعزيز التجارة بينهما. كما أعاد البلدان الجاران تأسيس مجلس الأعمال المشترك، الذي توقف عن العمل في 2011.

وتقول تركيا إنها تهدف إلى تجاوز عتبة ملياري دولار في صادراتها إلى سوريا بنهاية العام الحالي، مستغلة الزخم في العلاقات التجارية بينهما. واتخذت خطوات جديدة لتسهيل وتسريع التجارة مع سوريا، وتم الاتفاق على أن تصبح حلب مركزاً لوجيستياً قوياً في الفترة المقبلة.

جانب من لقاء ترمب ونتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو 2025 (أ.ف.ب)

تنافس مع إسرائيل

في المقابل، تغيرت أهداف تركيا في سوريا عما كانت عليه خلال حكم بشار الأسد، فبعدما كانت تركز على تأمين حدودها مما تصفه بـ«تهديد (قسد)»، وإنشاء منطقة آمنة على حدودها الجنوبية بعمق يتراوح ما بين 30 و40 كيلومتراً، تسعى اليوم إلى إزالة هذه المجموعة الكردية من المعادلة السورية، عبر ترك أسلحتها والاندماج في مؤسسات الدولة، وإقناع الولايات المتحدة بوقف دعمها لها عبر عرض قيام إدارة سورية جديدة بحراسة سجون «داعش»، ودعمها في هذا الأمر. وزادت على ذلك بالسعي لدى الولايات المتحدة لملء الفراغ، حال انسحاب القوات الأميركية.

لقد أظهرت تحركات تركيا في الواقع السوري الجديد سعيها لملء الفراغ العسكري من خلال العمل على إنشاء قواعد برية وبحرية وجوية في وسط سوريا وعلى سواحلها عبر نموذج يشبه تدخلها في ليبيا بعد القذافي، كما تردد من خلال وسائل إعلام، والانفراد بأكبر دور في الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار والتدخل في جميع المجالات من الصحة إلى التعليم وغيرها، استكمالاً لما بدأته بالفعل منذ سنوات في شمال سوريا.

أثارت هذه التحركات قلق إسرائيل التي تخشى استبدال الوجود التركي بالوجود الإيراني في سوريا، وفرض أمر واقع جديد تكون فيه تركيا هي الضامن سياسياً وأمنياً، اعتماداً على علاقاتها القوية مع الإدارة الجديدة ومع فصائل معادية لها.

جانب من اجتماع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وترمب والشرع لبحث رفع العقوبات المفروضة على سوريا في الرياض مايو الماضي (واس)

«نعم أخذتها»

وبدا أن تركيا نجحت في سباقها لإظهار دورها بوصفها «راعياً» تتشاور معه الإدارة السورية حول مستقبل البلاد، وبرزت بوصفها واحدة من أبرز القوى المهيمنة، وهو ما أكده الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، خلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو (تموز) 2025.

قال ترمب إنه هنّأ إردوغان، في اتصال هاتفي بينهما، على «أخذه سوريا (...) وإنه كان يحاول النفي، ويقول إنه لم يأخذها، وإنه قال له إنك فعلت شيئاً عجز الآخرون عن فعله طوال ألفي عام، مهما تعددت أسماؤها تاريخياً، وإنه (إردوغان) قال في النهاية نعم أخذتها».

وجاء موقف ترمب بعد متابعة حالة التنافس بين تركيا وإسرائيل في سوريا، والمخاوف المتبادلة بينهما التي دفعت إسرائيل إلى تدمير قواعد جوية ومطارات رئيسية، بينها مطار حماة العسكري، والقضاء على مقدرات الجيش السوري، مع تردد أنباء، بعد 3 أشهر من سقوط حكم الأسد، عن سعي تركيا إلى إقامة قواعد جوية في حمص، ما دفع تركيا وإسرائيل إلى إرساء قواعد اشتباك تمنع الصدام بينهما في سوريا خلال اجتماعات فنية في باكو توسطت فيها أذربيجان.

عرض ترمب على نتنياهو حل مشاكله مع تركيا إذا كان منطقياً في طلباته، لافتاً إلى علاقته الجيدة مع إردوغان، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال، قبل مغادرة واشنطن، إن تركيا تريد إنشاء قواعد عسكرية في سوريا، وإنه يرفض إقامتها لأنها تُشكل خطراً على إسرائيل.

بدورها، تؤكد تركيا أن المسألة الرئيسية بالنسبة إليها وللولايات المتحدة هي ضمان ألا تشكل إسرائيل تهديداً لسوريا، وألا تكون سوريا مصدراً لتهديد أي طرف في المنطقة، وأن يحترم الجميع سلامة أراضي وسيادة بعضهم، بحسب ما قال وزير خارجيتها، هاكان فيدان، الذي شارك في جانب من اجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع بالبيت الأبيض في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025.

وعبرت تركيا، أكثر من مرة، عن عدم انزعاجها للمفاوضات بين دمشق وتل أبيب، مشددة على أن هدفها الأول هو وحدة أراضي سوريا وسيادتها.

ورد إردوغان، الذي التقى ترمب في البيت الأبيض في سبتمبر (أيلول) الماضي، على تصريح أخير لنتنياهو، منذ أسابيع قليلة، قال فيه إن إسرائيل «أوقفت تركيا في سوريا»، مطالباً بالتركيز على ما تفعله تركيا بدلاً من التركيز على ما تكتبه الصحافة الإسرائيلية، مضيفاً: «نحن نفعل ما يلزم في إطار أولوياتنا الاستراتيجية، وسنواصل ذلك».

جانب من الاجتماع بصيغة «آستانة» لوزراء خارجية تركيا هاكان فيدان وروسيا سيرغي لافروف وإيران عباس عراقجي على هامش منتدى الدوحة في ديسمبر 2024 (الخارجية التركية)

شبح العقوبات

تحرص تركيا أيضاً على عدم البقاء بعيداً عن أي ملف يتعلق بسوريا، بما في ذلك رفع العقوبات، الذي بدأ بإعلان مفاجئ من ترمب، قال إنه بناء على طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وإردوغان، الذي شارك، عبر الهاتف في اجتماع بالرياض، في مايو (أيار) تمت فيه مناقشة رفع العقوبات.

وأكد إردوغان مواصلة تركيا دعمها لدمشق في حربها ضد التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها «داعش»، واستعدادها لتقديم الدعم فيما يتعلق بإدارة وتأمين مراكز الاحتجاز التي يُحتجز فيها عناصر «داعش»، لافتاً إلى أن قرار ترمب رفع العقوبات عن سوريا يحظى بأهمية تاريخية، وأن هذا القرار سيكون مثالاً للدول الأخرى التي فرضت عقوبات على دمشق، وأن فرص الاستثمار ستشمل مختلف المجالات في سوريا، بعد رفع العقوبات.

وسبق إعلان ترمب رفع العقوبات اجتماع ثلاثي لوزراء الخارجية التركي، هاكان فيدان، والولايات المتحدة، ماركو روبيو، وسوريا، أسعد الشيباني، على هامش «منتدى أنطاليا الدبلوماسي» في جنوب تركيا، في أبريل (نيسان) الماضي، لمناقشة تفاصيل تعهد ترمب بإسقاط العقوبات عن سوريا.

وتلقى فيدان دعوة لزيارة أميركا بالتزامن مع زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع، وشارك في جانب من لقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 10 نوفمبر الماضي.

وعقد فيدان لقاءات مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، والممثل الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترمب في الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، والسفير الأميركي في أنقرة المبعوث الخاص إلى سوريا، توم براك، والعديد من المسؤولين الآخرين في البيت الأبيض، فضلاً عن لقاء مع الشرع ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ولقاء ثلاثي جمعه بالشيباني وروبيو.

وقال فيدان إنه تم خلال الاجتماعات تبادل وجهات النظر حول كيفية إدارة المناطق الإشكالية في شمال وجنوب سوريا، وفي أماكن أخرى، بشكل أفضل وكيف يمكن تنفيذ العمل على إلغاء «قانون قيصر»، وإن التركيز منصبّ حالياً على ما يمكن فعله لرفع العقوبات في إطار «قانون قيصر» بشكل كامل، لمساعدة الاقتصاد السوري على التعافي.

وأشار إلى أن الشرع التقى أعضاءً في الكونغرس، وشدد على أهمية التصويت على إلغاء «قانون قيصر»، مضيفاً أن الرئيس الأميركي يتبنى نهجاً إيجابياً تجاه التعامل مع القضايا السورية.

الشرع وعبدي خلال توقيع اتفاق اندماج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية في دمشق 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

هاجس «قسد»

تعمل تركيا على استغلال حالة التشاور المستمر بشأن سوريا، في ضمان موقف أميركي داعم لتنفيذ الاتفاق الموقع بين الشرع، وقائد «قسد»، مظلوم عبدي، في دمشق 10 مارس الماضي، بشأن اندماجها في الجيش والمؤسسات الأمنية السورية، الذي يفترض أن ينتهي تنفيذه قبل حلول نهاية العام الحالي.

وبعد 47 عاماً من الصراع المسلح، أطلقت تركيا مبادرة العام الماضي، لحل حزب العمال الكردستاني ونزع سلاحه، أسفرت عن دعوة زعيمه، السجين لديها، عبد الله أوجلان في 27 فبراير الماضي، إلى حله والتخلي عن الكفاح المسلح، والتحول إلى العمل الديمقراطي في إطار قانوني.

وتتمسك أنقرة بأن دعوة أوجلان تشمل جميع امتدادات حزب «العمال الكردستاني»، وأن «البنية الحالية لـ(قسد) تقوّض وحدة سوريا وتهدّد الأمن القومي لتركيا وتعرّضه للخطر»، وأنه لا يمكن حصر مسألة نزع سلاح حزب العمال الكردستاني في تركيا وحدها.

وتطالب «قسد» تركيا بعدم عدّ مؤسساتها العسكرية والإدارية والأمنية، والإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، تهديداً لها، لأنها «مؤسسات للسلام والأمن».

وعدّ قائد «قسد»، مظلوم عبدي، أن اتفاق 10 مارس مع الشرع شكل منعطفاً مهماً بإغلاق الطريق أمام محاولات تقسيم سوريا ومنع انزلاقها إلى حرب أهلية، وضمن الاعتراف الدستوري بحقوق الكرد، لكنه أكد أنه «يجب أن تكون هناك سوريا لا مركزية، بحيث يتمكّن كل إقليم من إدارة نفسه».

وذهب الكاتب في صحيفة «حرييت» القريبة من الحكومة التركية، فاتح تشيكرجه، إلى أن أميركا تسعى لتأسيس «نموذج بارزاني» الذي أرسته في شمال العراق ضد إيران، في شمال سوريا، وأن الممر الذي يجري إعداده من العراق إلى سوريا يهدف إلى ذلك، وهو مطلب إسرائيلي أيضاً لمنع نقل الأسلحة من إيران إلى لبنان والمنطقة المحيطة.

ولفت إلى أن تركيا لم تقبل في البداية بنموذج مشابه لـ«بيشمركة بارزاني»، وهي الآن تعد «قسد» الحليفة لأميركا، تنظيماً إرهابياً، لكنها يمكن أن تقبل الأمر بعد ذلك في شمال سوريا كما حدث في إقليم كردستان العراق.

الحال، أن تركيا ستواصل خلال المرحلة المقبلة السعي لترسيخ موقعها بوصفها أبرز قوة مؤثرة في إعادة تشكيل سوريا، مستفيدة من علاقتها الوثيقة بالإدارة الجديدة ودعم واشنطن المتزايد لدورها. ومن المتوقع أن تضغط أنقرة باتجاه استكمال دمج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية وتقليص أي حضور عسكري غير مرغوب فيه قرب حدودها. لكن التنافس مع إسرائيل والحضور الأميركي قد يحدان من قدرة تركيا على فرض رؤيتها بالكامل.