في السبعينات من القرن الماضي، وقف مهرجان لايبزغ للأفلام التسجيلية (الذي تأسس سنة 1955)، في الصف الأمامي للمهرجانات المتخصصة في السينما غير الروائية. لايبزغ انتمت آنذاك، بحكم الجغرافيا، إلى القسم الشرقي من ألمانيا. مدينة لا تختلف في هندستها وطرقها ولياليها عن كل المدن الألمانية الكبيرة الواقعة تحت الإدارة الشيوعية. ولأنّ تلك الإدارة حبّذت الأفلام التي تنطق بعناوين التقدم واليسار والثورات على النّظم الرأسمالية فإنّ المهرجان جذب آنذاك كل تلك الأفلام «التقدمية» التي عاشها العالم في تلك الفترة. الحرب الباردة كانت ساخنة على شاشاته عبر الأفلام الآتية من القارات الثلاث، أساساً: آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
المشتركون كانوا من الشرق والغرب معاً. الأفلام تنوّعت من تلك التي تناولت تبعات الحرب الفيتنامية إلى تلك التي تداولت قضايا التحرر الأفريقية. وبالطبع كان للسينما الفلسطينية (والعربية عموماً)، موقع الصدارة. الصراع العربي - الإسرائيلي أصدر أتلالاً من الأفلام المناهضة للصهيونية ولإسرائيل، لكن القليل منها كان يستحق الشرائط التي طبعت عليها. الكثير من الأفلام الفلسطينية ذاتها، بصرف النظر عن حقها في طرح الموضوع الفلسطيني أمام الغرب، بروباغاندا ذات توجهات عاطفية وكثير منها، أعتقد أنّ إظهار بشاعة القتل والدم المراق هو جوهر كسب الصراع الدائر. قليل منها فقط كانت قادرة على التوجه إلى البال والذاكرة وليس القلب والجيد من هذه، فنياً، كان أقل.
اليوم، يختلف هذا المهرجان عمّا كان عليه في تلك الأنحاء. بعد الوحدة الألمانية بدا أقدم مهرجانات السينما التسجيلية في العالم غير واثق الخطى.
كيف سيتآلف مهرجان عُرف بطابعه السياسي المناهض للغرب، في زمن انهارت النّظم والآيديولوجيات التي كان يدافع عنها. موقعه على الشبكة لا يحتوي شيئاً يُذكر عن ماضيه. وإذا فتحت أرشيفه لن تجد شيئاً عن سنواته البعيدة. ينطلق الأرشيف من عام 2012 فقط.
على ذلك، فإن ذلك العام هو عام التحوّل صوب استعادة مكانه في الصف الأول على كثرة مهرجانات اليوم في المجال ذاته. وإذ تنطلق دورته الـ60 في الـ30 من أكتوبر (تشرين الأول) وحتى الخامس من الشهر التالي، فإن العدد الماثل من الاشتراكات العربية حتى الآن لا يتجاوز خمسة أفلام آتية من تونس ولبنان وسوريا وقطر.
غالبيتها ينتقل إلى لايبزغ بعد مروره على شاشات سواه من المهرجانات. الاستثناء الأبرز هو فيلم رضا تليلي التونسي «منسيون»: تسعون دقيقة تدور حول أربعة شبان من بلدة سيدي بوزيد خاضوا أحداث ما سمي بـ«الربيع العربي».
بادرة إماراتية في واشنطن
الغزو العربي للمهرجانات بات تقليدياً في السنوات الأخيرة: دبي وطنجة والقاهرة وقرطاج في الخريطة العربية، ومالمو ولوكارنو وتورنتو وكان وبرلين ولندن وفالينسيا ومرسيليا ونانت في العالم الغربي. لكن الأفلام هي ذاتها. تتغير الشاشات والجمهور الذي أمامها لكنّ الأفلام هي - غالباً - ذاتها، تُطلق في مهرجان واحد ثم توالي السفر والترحال.
واحد من المهرجانات المخصصة للسينما العربية (كما حال مالمو السويدي الذي انتهت أعمال دورته السابعة في العاشر من هذا الشهر) يُقام في العاصمة واشنطن منذ 22 سنة. اسمه «مناظر عربية» (Arabian Sights) لكنّه عرف أيضاَ بـ«مهرجان واشنطن دي سي للسينما العربية». وهو قدّم في دورته الأولى التي عقدت لأربعة أيام من شهر فبراير (شباط) سنة 1996 مما اعتبر، بحق، درر تلك الفترة مثل الفيلم الجزائري «مدينة باب الواد» لمرزاق علواش (بعد عامين من إنتاجه) «وآن الأوان» للبناني جان - كلود قدسي (أيضاً من أعمال 1964) و«كومبارس» للمخرج السوري الراحل نبيل المالح (إنتاج 1993).
السبب في أنّ معظم عروضه هي لأفلام سبقت سنة إقامته بأعوام عاد إلى أن الحماس لم يكن متوفراً لدى السينمائيين العرب (مخرجين ومنتجين) ولم تكن الحوافز المختلفة (معنوياً ومادياً) كافية. كان على المهرجان، الذي تابعته من حين لآخر، يعاني من فتور السينمائيين حياله وبالكاد يجمع حفنة أفلامه.
الحال تبدّل منذ سنوات قريبة ونجاحه في الولايات المتحدة بات مقروناً بالرغبة في الوصول بالقضايا التي من أجلها نشهد كل هذه الحالة من رواج الفيلم العربي اليوم. بل إنّ الحماس الرسمي الذي يصاحبه هذا العام في أعلى ذروته، فهو يقام تحت إشراف سفارة الإمارات العربية المتحدة في واشنطن التي ارتأت أنّ مثل هذا الإسهام في نجاح السينما العربية الآتية من المنطقة العربية هو إسهام في إنجاح الثقافة التي نطمح جميعاً لنشرها.
الأفلام المختارة للدورة الثانية والعشرين التي تنطلق في العشرين من هذا الشهر وتستمر حتى التاسع والعشرين منه، ما زالت تصل لواشنطن بعد مرورها على كثير من عواصم العالم. لكنّها جميعاً من الإنتاجات الحديثة مثل فيلم «إن شا الله استفدت» الفيلم الروائي الأول لمحمود المساد و«جسد غريب» للتونسية رجا عماري و«سوليتير» للبنانية صوفي بطرس. الوجود الإماراتي ذاته متوفر في فيلم «المختارون» لعلي مصطفى (وثبة المخرج إلى سينما النوع المستقبلي). لكنّ الأفلام المصرية هي الأكثر عدداً من سواها فمن بين الأفلام التسعة المشتركة (فيلم لكل يوم) هناك عملان مصريان هما «يوم للستات» لكاملة أبو ذكري و«الأصليين» لمروان حامد.
باقي الأفلام المعروضة هي «ما زلت أخفي الدخان» لمخرجة جزائرية اسمها ريحانا و«في سوريا» لفيليب فان ليوف (إنتاج لبناني وبلجيكي وفرنسي مشترك) و«عمي» للمغربي نسيم عباسي.
- أدوار جديدة؟
خارج إطار العالم العربي، هناك حشد من المهرجانات التي تقع في فترة زمنية واحدة. فبينما يوالي مهرجان لندن أعماله حالياً تسير أربعة مهرجانات في موازاة بعضها البعض وهي هامبورغ الألماني في دورته الـ25، وريو دي جانيرو البرازيلي (الدورة 19) ومهرجان ستيجيز الإسباني للسينما الغرائبية (الدورة 50) ومهرجان أديليد الأسترالي (الدورة 8) ومهرجان حيفا (الدورة 33). هذه المهرجانات بدأت في الخامس من الشهر الحالي وتغلق أبواب صالاتها في 15 (باستثناء مهرجان حيفا الذي بدأ دورته الحالية في الـ15 لكنه ينتهي في الـ14 من الشهر).
مهرجان بوسان الكوري انطلق في 12 من الشهر الحالي ويستمر حتى الـ21 منه. فيينا (في دورته الـ55) يفتح أبوابه في 19 من الشهر ثم يغلقها في الثاني من الشهر المقبل أي قبل يوم واحد من انتهاء مهرجان طوكيو الـ30.
تقاطع المهرجانات مع بعضها البعض ليس جديداً ولا غريباً والمهرجانات العربية تدخل هذا النطاق بجدارة. صحيح أن مراكش توقف هذا العام، وكذلك فعل مهرجان أبوظبي ومهرجان الدوحة، مما خلق بعض المسافات بين المهرجانات الكبرى، لكن الصحيح كذلك أنّها مسافات قليلة. في الأسابيع المقبلة ستتوالى مهرجانات قرطاج والقاهرة ودبي عدا عن مهرجانات أخرى أصغر حجماً في منطقتي الخليج والمغرب العربي.
وفي العام المقبل ينوي مهرجان دمشق العودة إلى النشاط في مثل هذا الشهر وقد يعود مهرجان مراكش بعد التعديل وهذا ما سيعيد تضارب مواعيد المهرجانات العربية إلى سابق عهده.
لكنّ هذا لا يبدو أنّه يقلق أحداً في الوقت الراهن. ومع أنّ الكلام كثير حول «التعاون» وضرورة «أن نعمل معاً» وليس بالضرورة «أن نتنافس»، إلا أن الواقع هو أنّ التنافس حالة لا بد منها. والوضع القائم حالياً يتجه إلى مزيد من التنافس حقاً.
في السنوات السابقة خلق وجود مهرجانين في دولة الإمارات وضعاً مثالياً للتنافس. كان مهرجان دبي (تأسس سنة 2004) وبعد ثلاث سنوات تبعه مهرجان أبوظبي. وسريعاً انضم إليهما مهرجان الدوحة الذي سرعان ما افتقر إلى دور يلعبه فتوقف ليتم تفريخ مهرجانين صغيرين عنه غير قابلين للتنافس مع سواهما من مهرجانات المنطقة.
مهرجانا دولة الإمارات أثريا النشاط السينمائي في منطقة الخليج بأسرها، كذلك فعل مهرجان «السينما الخليجية» الذي أقيم أيضاً في دبي. لكنّ مهرجان أبوظبي ومهرجان السينما الخليجية توقفا منذ ثلاث سنوات ليبقى مهرجان «دبي» وحده.
من ناحية أخرى، منح توقف مهرجان أبوظبي ميزة انفراد دبي بنشاطاته السينمائية وتأكيد حضوره كأكبر هذه المهرجانات، لكن، ومن ناحية ثانية، لا يمكن إلّا ملاحظة أنّ هذا الوضع الذي يجد فيه مهرجان دبي نفسه منفرداً ينمّ عن اضمحلال فرص التحديات التي كانت موجودة والتي كانت تعني، بالضرورة، العمل الحثيث على تبوء المركز الأول ما يعود على الجمهور بالنفع الكبير.
الآن، يشكل مهرجان الجونة الذي أطلق قبل أسابيع في دورة أولى ناجحة احتمال قيام منافسة جديدة بينه وبين مهرجان دبي. نعم، من المبكر الحديث عن هذا الشأن، لكن ليس من المبكر ملاحظة أنّ المهرجان الجديد وضع مهرجان القاهرة على المحك، في الوقت الذي يحتاج مهرجان القاهرة لكل الجهود المتضافرة لمساعدته تجاوز محن وأزمات مادية يواجهها منذ سنوات.
مهرجانات الربع الأخير من العام تشمل الشرق والغرب معاً
تتغير الشاشات والجمهور... لكن الافلام هي ذاتها
مهرجانات الربع الأخير من العام تشمل الشرق والغرب معاً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة