طريق شائكة وطويلة لبناء جيش ليبي موحد

تساؤلات «العقيدة العسكرية» و«الشرعية» و«الولاء» تنتظر إجابات

أفراد من الجيش الوطني الليبي يشتبكون مع عناصر متشددة في أحد أسواق بنغازي في مايو الماضي (غيتي) - المشير خليفة حفتر (رويترز)
أفراد من الجيش الوطني الليبي يشتبكون مع عناصر متشددة في أحد أسواق بنغازي في مايو الماضي (غيتي) - المشير خليفة حفتر (رويترز)
TT

طريق شائكة وطويلة لبناء جيش ليبي موحد

أفراد من الجيش الوطني الليبي يشتبكون مع عناصر متشددة في أحد أسواق بنغازي في مايو الماضي (غيتي) - المشير خليفة حفتر (رويترز)
أفراد من الجيش الوطني الليبي يشتبكون مع عناصر متشددة في أحد أسواق بنغازي في مايو الماضي (غيتي) - المشير خليفة حفتر (رويترز)

أعاد المُشير خليفة حفتر، في 2014، لَمْلَمة القوات العسكرية الليبية، بعد أن تفرقت بها السبل وتعرضت لضعف وانقسام، جراء انتفاضة مسلحة دعمها حلف شمال الأطلسي (ناتو) ضد حكم معمر القذافي. لكن عدد الضباط والجنود في ظل النظام السابق كان يزيد قليلا على 140 ألف عنصر نظامي، وفقا للضابط السابق والسياسي الحالي، أحمد قذاف الدم. واليوم يبلغ قوام القوات المنضوية تحت قيادة حفتر نحو 35 ألفا فقط. فأين ذهب الباقون، بأسلحتهم وعتادهم وعقيدتهم العسكرية؟
رغم ظروفٍ صعبة تمرُّ بها المؤسسة العسكرية، منذ مقتل القذافي في مثل هذا الشهر من عام 2011، فإن حفتر تمكَّن من تحقيق أمرين... الأول قتالي؛ ويخص طرد جماعات متطرفة من معظم مناطق الشرق والجنوب. والآخر يتعلق بإصلاحات هيكلية في بنية الجيش الموروثة من العهد السابق، وهي - كما يقول العميد أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش الليبي - أن تَكُوْن «الكتائب الأمنية»، مثلها مثل «كتائب الجيش» تابعة، فقط، للقيادة العامة للقوات المسلحة.

ظهرت «الكتائب»، بأسلحتها الثقيلة كالدبابات الروسية والمدرعات وراجمات الصواريخ وقذائف الهاون، مصطلحا سيئ السمعة، لقمع الانتفاضة المسلحة ضد حكم العقيد الراحل. ولم يكن لها قيادة موحدة تُذكر. بيدَ أنَّ قذاف الدم، الذي بدأ حياته العسكرية مع القذافي، يرى أن الأمر لم يكن بهذه الصُّورة القاتمة. وعلى العكس من ذلك، يقول: إن كل المقاتلين كانوا يخضعون للقوات المُسلَّحة، وكانوا يدافعون عن الوطن في 2011.
على كل حال، تبدو الطريق اليوم طويلة، من أجل الوصول إلى جيشٍ مُوحَّد. ولا يُحب العسكريون في ليبيا - مثل غيرهم في أي مكان آخر في العالم - الكلمات التي تتعلق بالتساؤل عما إذا كانت هناك انقسامات في مؤسسة الجيش وعقيدته، أم لا، سواء بالنسبة للضباط الذين ما زالوا محسوبين على نظام القذافي، أو العسكريين المحسوبين على انتفاضة فبراير (شباط) التي أسقطت «العقيد الراحل»؛ والمقصود بهم حفتر وخصومه من قادة تلك الانتفاضة.
وبينما تجري محاولات لتوحيد الجيش الليبي، انطلاقاً من مصر، بالتزامن مع جُهود المبعوث الدولي غسَّان سلامة، لإنهاء الخلافات، تستطيع أن تقول في يأس: ماذا يفعل الإنسان إذا كانت بعض الأسئلة لا تجد إجابات شافية من داخل الوحدات العسكرية المنتشرة في ربوع ليبيا؟
مثلا... كيف يمكن تفسير موقف العميد المخضرم مصطفى الشركسي، الذي كان آمرا لمنطقة بنغازي العسكرية، ثم وجد نفسه خصما لحفتر ويقود «سرايا الدفاع» المتهمة بالإرهاب والمصنفة في القائمة المرتبطة بقطر.
وبعد حديث مطول مع الشَّركَسي، وهو وسط الصحراء، تستطيع أن تدرك أن بعض الأمور يمكن أن تُحل بخليطٍ من الحُوار، وحُسن النوايا، وإظهار القوة أيضا. فهناك عملية جراحية يظهر أنه لا بد منها، كما يقول أحد آمري الاستخبارات العسكرية هنا، وهي «الإقدام سريعا على فك ارتباط ضباط كبار، معروفين، بأي ميليشيات مذهبية أو مناطقية».
ويرى أن الأمر نفسه يسري على قيادات عسكرية أخرى مبعثرة هنا وهناك. مثلا... ما ملابسات موقف الفريق علِي كَنَّة، الذي كان من الضباط الأقوياء أيام النظام السابق؟ لقد كان متحمسا لإصلاح أوضاع المؤسسة العسكرية عقب مقتل القذافي. غير أنَّ دوره اليوم يبدو أنه يتقلص إلى مجرد مدافع، مع جنوده وضباطه، عن قبيلته «الطوارق»، ذات الأصول غير العربية، في إقليم فزان جنوب ليبيا.
لقد تحوَّل موقف كَنَّة، في نظر بعض العسكريين المنتمين لقبائل عربية هناك، ومنهم آمر الاستخبارات المشار إليه، إلى مصدر قلق، في بعض الأحيان، بشأن تهيئة البلاد للتقسيم، وبخاصة بعد استقالة ابن قبيلته، موسى الكوني، من المجلس الرئاسي المدعوم دوليا، والذي يرأسه فايز السراج؛ وذلك بالنظر أيضا إلى شرحٍ مماثلٍ قدَّمه الدكتور محمد الورفلي، القيادي السابق في مؤتمر القبائل الليبية.
ومع هذا، ورغم أطماع دول عدة للهيمنة على الجنوب - منها فرنسا - ومحاولاتها استقطاب الفريق كَنَّة بعيدا عن مؤسسة الجيش، فإن هذا العسكري قليل الكلام، لديه رؤية تتعلق بتوحيد المؤسسة، وبإمكانه أن يكون إضافة مهمة لها في عموم البلاد، وليس في الجنوب فقط.
ويقول أحد مساعديه من الضباط ذوي الأصول الطوارقية: نحن ليبيون... هدفنا الحفاظ على وحدة ليبيا. وهذا لن يتحقق إلا بوحدة المؤسسة العسكرية. المشكلة، أن التواصل بين القيادات في عموم البلاد أصبح أقل من السابق... أو هذا على الأقل ما نلاحظه في الجنوب، حتى بالنسبة إلى العسكريين من قبيلة التبو (وهي قبيلة من أصول غير عربية أيضا، ومنافسة كذلك للطوارق في الجنوب).
وفي منطقة الوسط الليبي، اختفى من المشهد العميد محمد أحمودة، الذي قاد عملية «البرق الخاطف» ضمن الجيش الذي يتزعمه حفتر، لتحرير الموانئ النفطية من الميليشيات مطلع هذا العام. ويقول أحد وجهاء قبيلته إنه «موجود في بيته، ولا يفضل الظهور في الإعلام، أو التحدث عن سبب اختفائه من المشهد العسكري... لقد كان مخيفا للخصوم». ويشير إلى أن العميد أحمودة... «ربما صادفته خلافات مع بعض القادة، وقد يكون رأى من الأفضل أن ينسحب، بدلا من زيادة المشاكل في هذه الظروف الصعبة».
وفي العاصمة، هناك العميد محمود زَقَل، قائد «الحرس الوطني». وهو رجل يتميز بلغة نظامية صلبة، ويقود مئات عدة من الضباط والجنود. ومحسوب على «المؤتمر الوطني (البرلمان السابق)» المنبثق عنه حكومة الإنقاذ التي يرأسها خليفة الغويل. ما موقف العميد زَقَل من الإعراب في أي ترتيبات جديدة؟
يبدو من إجاباته - ومن خلال الاستماع إليه مرات عدة في الفترة الأخيرة - أنه معارض متشدد لحفتر وحربه في الشرق. ويقول: «أنا شخصيا لن أرضى في أي يوم من الأيام أن يكون حفتر في المشهد. إنه يطمع في السيطرة على السلطة. إنه يريد أن يكرر تجربة القذافي. وهذا غير مقبول لدينا».
ويوجد أيضا العميد عمر عبد الجليل، آمر غرفة تحرير مدينة صبراتة، الشهير بأدبه الجم وصبره الطويل، والذي أعلن، عقب طرده الميليشيات المسلحة من منطقته في غرب طرابلس، قبل أسبوع، أنه يتبع السراج، بعد أن ساد اعتقادٌ بأنَّه يتبع حفتر. وللعلم، يستمد المشير حفتر شرعيته من «البرلمان»، بينما يستند العميد عبد الجليل في تلقي الأوامر من السراج، على القرار رقم 4 الذي أصدره رئيس المجلس الرئاسي في 2016 بتشكيل حكومته. وهو قرار لم يُعتمد من «البرلمان» حتى الآن. ويلعب مثل هذا التضارب في السلطات دورا في تشرذم العسكريين.
وأيضا العميد نجمي الناكوع، القائد العسكري الأسمر، الذي يعتمد عليه السراج في حفظ الأمن في مناطق بطرابلس، حيث يقوم الرجل، برئاسة «الحرس الرئاسي»، ويحاول جذب عسكريين سابقين للعودة إلى صفوف الجيش، وقد شمَّر كُمَّي بزته العسكرية... كأن الموضوع صعب تحقيقه. وهو يظهر أنه كذلك بالفعل، في ظل وجود منافسه «الحرس الوطني»، بقيادة العميد زَقَل، داخل العاصمة نفسها!
ويوجد بعض من القادة العسكريين الآخرين، وجنودهم، ممن كانوا بمثابة العمود الفقري لجيش الدولة في عهد النظام السابق، وقد وجدوا أنفسهم، بعد نحو سبع سنوات من رحيل القذافي، والفوضى السياسية، وغياب السلطة المركزية، يعملون إما كجزر منعزلة في مناطقهم، أو ينتظرون في دول الجوار إلى حين، كما يفعل آلاف عدة منهم.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما يعرف بـ«قوات البنيان المرصوص»، وأغلب قادتها العسكريين من مدينة مصراتة، وتولت، تحت قيادة السراج، مهمة تطهير سرت من تنظيم داعش، أواخر العام الماضي، بعد أن أصبح التنظيم يمثل خطرا على المدينة. لكن هذه القوات لم تعد اليوم على نفس درجة الوفاق مع السراج.
أثناء الانتفاضة المسلحة، كان صراخ بعض الأطراف يعلو من جبروت «الكتائب الأمنية» باعتبار أنها كتائب غير منضوية تحت سلطة الجيش، وتدافع عن شخص القذافي. لكن قذاف الدم الذي رافق العقيد الراحل لسنوات طويلة يقول: إن «هذه مسميات كانت جزءا من الحرب النفسية».
ويضيف: «الحقيقة أن القوات المسلحة العربية الليبية كانت في ذلك الوقت تتشكل من أربع قوات، هي القوات البرية، والبحرية، والجوية، والدفاع الجوي... وتحتها سلسلة من الفروع. مثلا كان في القوات البرية، الوحدات الأمنية، والردع، والحرس، والمناوبة الشعبية، والحرس الشعبي... هذه كلها أفرع من القوات المسلحة، وتتبع القائد العام، ورئيس أركان القوات البرية».
ويشير في هذا السياق إلى نقطة لافتة، تتعلق بما كان يعرف في الجيش الليبي بـ«المناوبة الشعبية المسلحة»، التي يوضح أنها كانت «تشبه ما هو موجود لدى جيش الدفاع الإسرائيلي». ويقول إنه في حالة النفير «كان العدد يصل إلى نحو 450 ألف مقاتل؛ لأن الشعب الليبي كان، كله، مُجيشّا في وحدات قتالية. وكل الطلبة الليبيين، من المرحلة الثانوية إلى الجامعة، كانوا يتدربون على حمل السلاح، ويدخلون في تخصصات».
وعما إذا كان انضمام بعض القيادات العسكرية، في الأعوام الثلاثة الأخيرة، إلى جماعات مذهبية أو جهوية أو بعض القبائل، أثرت في عقيدة الجيش، يجيب قائلا: «لا... لأن الجيش الليبي عادة معبأ نفسيا ومعنويا، مثل أي جيش في العالم، للدفاع عن الوطن».
أما عن بعض القيادات العسكرية التي انضمت مع ميليشيات ومع جهات أخرى، ولا تعمل تحت قيادة حفتر، وهل هذا يمكن أن يؤدي إلى تقسيم ليبيا؟ يجيب مرة أخرى موضحا: «لا... معظم العسكريين الآن في مدنهم، وقراهم، يحاولون الالتحاق بالجيش، بغض النظر عمن يقود؛ لأنه، في الحقيقة، لا أحد يقود في ليبيا. كلها هياكل وَهْمِية. العسكريون تنادوا، اليوم، لكي يثبِّتوا الأمن، ويواجهوا التطرف الموجود في مناطقهم... يشكلون وحدات قتالية لمواجهة هذا الخلل».
رغم كل شيء تمكنت القوات العسكرية التي جمعها حفتر في ظروف صعبة، من أن تفرض نفسها، وهي تقصف بمدافع الهاوزر أوكار الجماعات المتطرفة، ليس في منطقة واحدة، ولكن في مواقع عدة، بدأت من الشرق ووصلت إلى الجنوب، وأعينها الآن على غرب البلاد. وكما يقول أحد أعضاء لجنة الحوار السياسي التابعة للبعثة الأممية: على الأقل تستطيع القول إنه أصبح يوجد في ليبيا جنرال يمكن التحدث معه. هذا سيساعد على إقناع المجتمع الدولي برفع الحظر عن تسليح الجيش المفروض عليه منذ عام 2011.
ولدى حفتر ضباط أقوياء، مثل اللواء المبروك سحبان، آمر المنطقة العسكرية الوسطى الممتدة من إجدابيا إلى سرت. ويعد اللواء سحبان، بقواته، ومعظمها من النخبة التي جرى تدريبها أيام القذافي، العائق الوحيد، حتى الآن، لانفصال المنطقة الشرقية عن إقليمي طرابلس غربا وفزان جنوبا، كما يقول الدكتور الورفلي. بالإضافة إلى أن قوات حفتر تمكنت، خلال الشهور الماضية، من التمركز في مناطق مهمة في الجنوب وطرد ميليشيات عدة إلى الصحراء، إضافة إلى مغازلة ضباط كبار في غرب طرابلس.
ويقول مصدر عسكري تابع لغرفة عمليات سرت الكبرى: إذا عرفت أننا أصلحنا أسلحة قديمة عمرها يزيد على 30 عاما، واستخدمناها بكفاءة، فهذه إنجازات ضخمة بالنظر إلى استمرار الحظر الدولي على تسليح الجيش. وبالنظر إلى استمرار بعض الجهات الإقليمية في تدليل ودعم زعماء ميليشيات من خصوم حفتر وبخاصة في طرابلس، وبالنظر إلى محاولات لاستقطاب قادة عسكريين من غرب البلاد وجنوبها.
ويضيف: مهما كان، فنحن نعمل بما لدينا من إمكانات ضعيفة، لكننا نتقدم. وتستطيع أن ترى آثار هذا التقدم على وجوه الليبيين، على الأقل في المنطقة الشرقية، حيث ارتاحوا أخيرا من جرائم المتطرفين. التعويل اليوم على توحيد مؤسسة الجيش، وهذا سيحدث قريبا.
وردا على سؤال بشأن ظهور دعوات في بعض المناطق الليبية بترشيح حفتر ليكون رئيسا للبلاد، وما يمكن أن يؤدي إليه مثل هذا التحرك من غضب لدى قادة عسكريين متربصين، أصلا، بتحركاته، يقول أحد القادة المقربين من الجنرال في قاعدة الرجمة: إن الهدف من توحيد الجيش ليس سياسيا، و«الحقيقة أن حفتر لا يسعى لمنصب سياسي... نحن ندافع عن بلادنا المعرّضة للضياع، وليس عن سياسيين».
لقد كانت مسألة توحيد الجيش مجرد حلم وفكرة، إلا أن عزيمة حفتر، كما يرى البعض، نقلت هذه الفكرة إلى طاولة الحوار، إقليميا ودوليا. ودخلت مصر لتأخذ بيد الليبيين في هذا الاتجاه. بَيْدَ أنَّ التحدي هو كيفية دمج القادة الآخرين، بضباطهم وجنودهم، في كيان واحد والالتفاف حول عقيدة واحدة. ويقول العميد المسماري: «بالتأكيد عقيدة الجيش الليبي هي عقيدة دفاعية، للدفاع عن ليبيا، وعن مكتسبات الشعب الليبي، وفرض سيطرة الدولة على إقليمها الجغرافي بالكامل».
لكن، مرة أخرى، ما العمل تجاه استقطاب جهوي ومذهبي يبدو أنه يجرُف ضباطا كبارا في غرب ليبيا وجنوبها، بعيدا عن سلطة الجنرال حفتر، وهو أمر يرى البعض أنه يمكن أن يدفع إلى تفتيت البلاد، كما يوضح الدكتور الورفلي.
ومع ذلك، ورغم الجانب القاتم من القصة، ما زالت توجد فُرص، وضغطٌ دولي، وجهودٌ عربية ومصرية، لإنقاذ الدولة الليبية. فقد التقى حفتر، المَزهوّ بانتصارات جنوده، قبل أيام، مع سلامة، في مكتبه في قاعدة الرجمة العسكرية، على بعد 40 كيلومترا من مدينة بنغازي. وسبق لعواصم مثل موسكو وباريس وروما، استقبال الجنرال الذي يحتفظ بعلاقات قوية ومهمة، مع كل من القاهرة وأبوظبي.
وقبل نهاية الشهر الماضي اتفق عسكريون ليبيون في القاهرة، على تشكيل لجان فنية ونوعية مشتركة لبحث آليات توحيد مؤسسة الجيش الليبي. ويقول المسماري: «لقد قررنا الآن البدء في عمل هذه اللجان بمصر».
وعما إذا كان يرى أن النزعات الجهوية والمذهبية لبعض العسكريين يمكن أن تؤثر على الجيش، يجيب المسماري قائلا: «أنا أتحدث عن القوات المسلحة... الجيش الوطني الليبي. كل العناصر التي تنتمي إلى الجيش الوطني الليبي، لا تنتمي إلى قبائل، ولا تنتمي إلى تكتلات معينة، أو أحزاب معينة، كل من ينتمون لهذه الأحزاب، أو ينتمون لهذه العقائد القبلية، أو الميليشياوية، أو الحزبية... هؤلاء خارج القيادة العامة للقوات المسلحة».
أما المحلل السياسي الأميركي شريف الحلوة، الذي كان يتجول بين مدن عدة في الغرب الليبي، فيرى الأمور من منظور مختلف. ويوضح قائلا إن وجود قيادات عسكرية ليبية كبيرة خارج سلطة حفتر، يؤثر في الجيش بالفعل... «هذا أمر طبيعي، ويمكن أن تتسبب مثل هذه القيادات في الجنوب والغرب في تقسيم البلاد إلى ثلاث دول أو أقاليم... ولا بُدَّ أنْ تعلم أن الفوضى التي مرت على ليبيا جعلت لكل قيادة أتباعها في منطقتها».
ولا يمكن - كما يقول الحلوة - تجاهُل وجهات نظر قيادات عسكرية معتبرة، أو التغاضي عن أسباب رفضها العمل تحت قيادة حفتر حتى الآن. ويضيف: «أعتقد أن حفتر عسكري، قد يكون ذكيا، لكنه ربما يفتقر إلى مَلَكات تجعله زعيما مُوحِدا لكل الأطراف الليبية، حتى الآن». ويشير إلى أن محاولات توحيد الجيش لا تقتصر فقط على الجهود التي يقوم بها حفتر انطلاقا من شرق ليبيا، أو من مصر، ولكن «يوجد الآن، كما نرى، محاولات لتوحيد بعض القيادات العسكرية، وتوحيد الصف العسكري، في مناطق أخرى من البلاد».
ويقول أيضا: «هناك، من بين هؤلاء القادة العسكريين، من لهم علاقة وطيدة بوزارة الدفاع الأميركية، ويمكن أن يكون لهم دور في مستقبل ليبيا... كما أن هناك قيادات عسكرية لا تريد الدخول في المشهد في الوقت الراهن، حتى لا يُحسبوا على أي من الأطراف المتنازعة سياسيا».
ويتابع الحلوة: «أعتقد أنه مهما حدث فإن الجيش لن يستمر في حالة الانقسام... ما أعرفه أنه يوجد تواصل بين قياداته؛ لأنهم، في الأصل، أبناء مؤسسة واحدة، مهما حدث من تغيرات سياسية».
ويقول العميد زَقَل: «نحن نريد حكومة ليبية تستطيع جمع الليبيين... تكون ديمقراطية مدنية... والجيش مهامه معروفة، في أي دولة ديمقراطية؛ وهي حماية الوطن... وألا يتدخل في الأمور السياسية».
أما العميد الشركسي، خريج الأكاديمية العليا لضباط الطيران في بولندا، والذي سبق وأعلن استعداده لحل سرايا الدفاع عن بنغازي، فيرفض رفضا تاما التعامل مع حفتر.. «نحن خلافنا واحد؛ حفتر... إذا خرج حفتر من المشهد فنحن لسنا انتقاميين. نحن نريد قيام مؤسسات الدولة».
ومنذ أكثر من سنة كلفت القاهرة الفريق محمود حجازي، رئيس أركان الجيش المصري، برئاسة لجنة معنية بليبيا. وعقدت اللجنة لقاءات مع سياسيين وناشطين ليبيين، والأهم، مع عسكريين من أتباع حفتر ومن منافسيه، في محاولة لتوحيد الجيش، حتى يكون قادرا على إنهاء حالة الفوضى والانفلات الأمني والقدرة على حراسة حدود الدولة الليبية.
وتطور الأمر، خلال مناقشات القاهرة، إلى استلهام تجربة قديمة تعود لعام 1939 حين بدأ تأسيس جيش التحرير الليبي، بمساعدة من البريطانيين، انطلاقا من ضاحية أبو رواش في غرب العاصمة المصرية، من أجل تحرير ليبيا من الاحتلال الإيطالي حينذاك.
وكان والد قذاف الدم أحد قيادات هذا الجيش الوليد، حيث تولى في خمسينات وستينات القرن الماضي موقع آمر منطقة إقليم فزان. وعقب اجتماع لقيادات من الجيش الليبي مع الفريق حجازي، قبل أيام، صرح العميد أركان حرب تآمر الرفاعي، الناطق باسم الجيش المصري، بأن أبناء المؤسسة العسكرية الليبية اختاروا مصر لتكون نقطة البدء في إعادة تنظيم الجيش الليبي، كما كانت نقطة البدء عند التأسيس، في النصف الأول من القرن الماضي.
ويقول الرفاعي: «نعم... ما يمكن قوله أن الاجتماع تطرق لمختلف الشواغل التي عرقلت مسيرة توحيد المؤسسة العسكرية الليبية. كما تطرق الاجتماع أيضا لمختلف الأفكار والحلول لتدشين مرحلة جديدة على مسيرة توحيد المؤسسة العسكرية الليبية».
ومن جانبه، يبدو العميد المسماري متفائلا، مثل معظم قيادات الجيش التي جاءت إلى القاهرة خلال الشهور الأخيرة، أو تلك التي تترقب من بعيد، بمن فيهم ضباط من مدينة مصراتة التي تعد من أقوى المدن تسليحا وعداء لحفتر.
وعلى العموم، يمكن كذلك ملاحظة تغيُّر في لهجة عسكريين من مصراتة. فالعقيد سالم جحا، مثلا، وهو ممن شاركوا في دعم الانتفاضة ضد القذافي، بدا، أخيراً، أنه يُفضِّل التوصل إلى حلول وسط من أجل توحيد الجيش، رغم أنه ما زال هناك ضباط متشددون، من مصراتة، ضد الجنرال حفتر، مثلهم مثل العميد زَقَل في طرابلس، والعميد الشَّركسي، ابن بنغازي، وغيرهم.
وبينما تمر الأيام، يبدو أن قطار توحيد الجيش الليبي يستعد للانطلاق من مصر، بمن لديه الرغبة في ذلك، بغض النظر عن أي مواقف مسبقة. ومن جانبه، يقول المسماري: «سيبدأ في مصر عمل اللجان الفنية... الغرض دراسة ضم، أو توحيد، كل المؤسسة العسكرية، بضباط من المنطقة الغربية، والشرقية، والجنوبية. وستعمل هذه اللجان برئاسة الفريق حجازي».
وعلى كل حال، من السهل أن تلمس شعوراً بالثِّقة لدى ضباط مصريين كبار بشأن إمكانية إنجاز المهمة قبل فوات الأوان. ومع ذلك، تبدو ظروف تأسيس الجيش الليبي في غرب القاهرة عام 1939 مختلفة عما يجري اليوم، إلا أن بارقة الأمل ما زالت تلوح في الأفق أمامهم ولو بعد حين.



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.