قطعت كل من مصر وتونس والمغرب أشواطاً متفاوتة في مسار تطبيق الإصلاحات الاقتصادية التي يوصي بها صندوق النقد الدولي، وتنظر حكومة كل بلد لقرينتها بعين الدارس لتجارب المنطقة، في محاولة لتفادي الأخطاء. بينما تثير سياسات الصندوق جدلاً واسعاً بين شعوب منطقة شمال أفريقيا.
- المغرب تنظر إلى سياسة الصرف في مصر
قبل أيام من توقيع مصر اتفاقها باقتراض 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن البنك المركزي تخليه تماماً عن التدخل لحماية العملة المحلية، وهو ما قاد الجنيه المصري للانخفاض بشكل متسارع، ليفقد بنهاية 2016 أكثر من نصف قيمتها أمام الدولار. لكن صندوق النقد الدولي أثنى على تحرير العملة المصرية، وإن تم بشكل صادم، لما ساهم فيه من القضاء على تعاملات السوق الموازية التي كانت تستنزف بشكل تدريجي قيمة العملة المحلية، وتقلص من إتاحة السيولة الدولارية في أسواق التعاملات الرسمية.
كما تتسق سياسة سعر الصرف المرنة التي تتبعها مصر حاليا، حيث يتم تحديد سعر العملة بشكل حر تماما في المصارف المختلفة، مع معتقدات الصندوق بأن قوى العرض والطلب يجب أن تظل هي المعيار الأساسي لتحديد الأسعار.
وفي مقابل إشادة المدير الإقليمي بصندوق النقد، جهاد أزعور، بالسياسات النقدية المصرية فقد قال خلال اجتماعات الخريف في واشنطن إنه يترقب خطوة من قبل بنك المغرب المركزي.
وتبدو المغرب مترددة بشأن تحرير سعر الصرف؛ ففي فبراير (شباط) الماضي قال صندوق النقد الدولي، في تقرير عن البلاد، إنه يرى أن الوقت ملائم لتبني سياسة سعر صرف مرنة، لكن تلك الخطوة تأجلت كثيراً بالرغم من أن المغرب سبقت مصر في الحصول على قرض من الصندوق لدعم الإصلاح الاقتصادي بحوالي أربعة أشهر، بلغت قيمته 3.5 مليار دولار. ويأتي تأجيل تحرير سعر الصرف في المغرب مخالفا لتوقعات سابقة باتخاذ هذه الخطوة بحلول منتصف العام الجاري، وقد تسببت تلك التوقعات في إرباك سوق الصرف في البلاد، حيث اضطر البنك المركزي التدخل لحماية العملة خلال مايو (أيار) ويونيو (حزيران)، مما قلص من مستويات احتياطي النقد الأجنبي. وتتركز تفسيرات التأخر المغربي حول تأثير تغيير رئيس الوزراء على صناعة القرار، ولم يحدد رئيس الحكومة الجديد، سعد الدين العثماني، أجلاً محدداً لتطبيق خطوة التعويم.
وبدا الصندوق في ديسمبر (كانون الأول) الماضي وكأنه يطمئن صناع القرار في المغرب إلى أن التعويم في بلادهم لن يكرر التجربة المصرية بالضرورة، فخلال هذا الشهر كان الجنيه المصري قد تهاوى بقوة أمام الدولار، بينما قال الصندوق في تصريحات نقلتها «رويترز»، إن الدرهم لن ينخفض بمجرد سماح السلطات بتطبيق سياسة سعر صرف مرنة.
- التعويم على نار هادئة في تونس
تونس قد تنتظر أيضا خطوة تعويم مماثلة، حيث اعتبر الصندوق في تقرير عن البلاد خلال يوليو (تموز) الماضي أن «سعر الصرف الحقيقي لا يزال مقوما بأعلى من قيمته بناء على فجوة الحساب الجاري في 2016».
«لقد خفضت تونس بالفعل قيمة عملتها بقدر التخفيض نفسه الذي جرى في مصر، ولكن ما حدث في مصر بشكل صادم جرى في بلادنا بشكل تدريجي»، كما تقول جيهان شندول، الباحثة بالمرصد التونسي للاقتصاد لـ«الشرق الأوسط». وبناء على حسابات المرصد التونسي فقد انخفض الدينار التونسي بنحو 50 في المائة خلال الفترة من مارس (آذار) 2014 وحتى يونيو 2017.
وكانت تونس قد توصلت لاتفاق قرض مع صندوق النقد الدولي في أبريل (نيسان) الماضي بقيمة 2.8 مليار دولار، لكن شندول تقول إن الكثير من الإجراءات التحررية في السياسات النقدية سبقت هذا القرض. «سعت السلطات لتعديل السياسات النقدية مؤخرا لكي تقنع صندوق النقد باستحقاقها لقرض جديد، والتي تمثلت في منح البنك المركزي استقلالية أكبر عن الدولة، بما يجعل العملة أكثر عرضة للتغير أمام قوى العرض والطلب بجانب تعديل القانون المنظم للقطاع المصرفي». لكن هذا التوجه التحرري في إدارة السياسة النقدية لم يمنع المركزي التونسي من التدخل في سوق الصرف خلال أبريل الماضي، بعد أن ارتفع سعر اليورو أمام الدينار بمعدلات تفوق المتوسطات المعتادة، كما تضيف شندول.
- التضخم مشكلة مصر الكبرى
وتسببت خطوة التعويم الكبرى في مصر في نوفمبر الماضي في رفع معدلات التضخم بقوة مع زيادة تكاليف الواردات، ويضع صندوق النقد في تقريره الأخير عن الآفاق الاقتصادية مصر في مقدمة البلاد العربية من حيث توقعات التضخم.
حيث تأتي مصر كثاني أعلى بلد عربي في توقعات التضخم لعام 2017 بنسبة 29.8 في المائة، وقد ساهم ارتفاع العملة التدريجي في ارتفاع التضخم أيضا في تونس، ولكن لا تزال البلاد تدور حول معدلات منخفضة نسبيا عن مصر، إذ يتوقع لها الصندوق في ذات العام تضخما بنسبة 4.5 في المائة.
بينما استطاعت المغرب أن تحافظ على معدلات متدنية للتضخم إذ يتوقع لها الصندوق خلال 2017 نسبة 1.1 في المائة.
وسعت مصر لكبح التضخم المرتفع من خلال زيادة كبيرة في أسعار الفائدة، بلغت سبعمائة نقطة أساس منذ نوفمبر الماضي، وهو ما ساعد البلاد على جلب تدفقات نقد أجنبية في سوق الدين السيادي، لكنه رفع من تكاليف الإقراض وأثر على النشاط الاقتصادي.
ونقلت وكالة «بلومبرغ» الإخبارية في تقرير هذا الشهر تعليقاً من بنك أوف أميركا عن أن أسعار الفائدة في مصر مرتفعة لمستوى يعوق النمو الاقتصادي ويصعب على الحكومة الاقتراض، ويشير المسؤولون في مصر إلى خطوة مرتقبة في الأجل القصير لتخفيض أسعار الفائدة مع اتجاه التضخم للانخفاض.
ولا تقتصر أسباب التضخم في مصر وتونس على التعويم فقط، ولكنهما يشتركان أيضا في توجهاتهما لرفع أسعار الوقود الذي كان له انعكاس على الأسعار. ويضاف إلى أسباب التضخم في تونس أيضا المستويات المرتفعة لنمو الأجور، ويثير ملفا الأجور والدعم جدلا واسعا بين شعوب المنطقة، في ظل ضغوط صندوق النقد لتطبيق سياسات تكبح من الإنفاق عليهما لمعالجة العجز المالي.
- تباين حول إجراءات الأجور والدعم
تتباين معدلات الإنفاق على الأجور الحكومية بين البلدان الثلاثة، كنسبة من الناتج الإجمالي، فوفقاً لحسابات صندوق النقد الدولي بلغت تلك النسبة في مصر خلال العام المالي 2017 نحو 6.4 في المائة، بينما ترتفع في المغرب إلى 11.7 في المائة، وتصل إلى أعلى معدلاتها في تونس عند 14.1 في المائة.
وبينما سنت الدولة المصرية تشريعاً في 2015 لكبح معدلات نمو الأجور الحكومية بقوة، قانون الخدمة المدنية، فإن التنظيمات العمالية في تونس كانت تضغط في مسار الحفاظ على وتيرة نمو للأجور تواكب ارتفاع الأسعار.
ويرى صندوق النقد أن «الأجور العامة والمعاشات تمثلان تحديا ماليا جادا على الأجل المتوسط (في تونس)، مع ارتفاع نسبة المنفق عليها من الناتج الإجمالي من 10.7 في المائة في 2010 إلى 14.5 في المائة في 2016».
لكن تونس سعت بقوة لكبح معدلات نمو الوظائف لدى الدولة «وتيرة النمو في تعيين الوظائف الجديدة في الجهاز الحكومي كانت تتراوح بين نحو 20 و30 في المائة بين عامي 2011 و2013، لكن الدولة اتجهت لتخفيض أعداد العاملين بنسبة 2.4 في المائة في 2014 وتقريبا لم تزد الأعداد في 2015 إلى بنسبة 0.1 في المائة»؛ كما تقول الباحثة بالمرصد التونسي.
وعلى صعيد نفقات الدعم، تحظى مصر بنسبة الإنفاق الأكبر 8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في 2017، وتشمل هذه النسبة أيضا المنفق على المنح والمزايا الاجتماعية.
بينما يتم إنفاق 6.7 في المائة من الناتج المحلي في تونس على سياسات الدعم و2.6 في المائة في المغرب.
وترتفع فاتورة الدعم في مصر رغم تبني البلاد لبرنامج للتخارج من دعم الوقود والكهرباء بشكل تدريجي، إلا أن الاعتماد القوي لمصر على الاستيراد لتلبية احتياجاتها الأساسية رفع من كلفة دعم الطاقة والغذاء بقوة بعد التعويم القوي للعملة في نوفمبر.
«صندوق النقد يضغط في مسار إلغاء صندوق الدعم (في تونس) واستبداله بنظام موجه للفقراء» كما تضيف الباحثة بالمرصد التونسي، وهو إجراء مشابه للسياسات المطبقة في مصر حالياً.
وترى شندول أن إلغاء صندوق الدعم سيترتب عليه ارتفاع تكلفة الغذاء على قطاعات من المجتمع التونسي، مضيفة أن دعم الطاقة أيضا مرشح للتحرير في حالة استجابة الحكومة لمطالب الصندوق بتطبيق سياسة الخصخصة في هذا القطاع البترولي.
سياسات الصندوق في مجملها وإن كانت تتسم بقلة الشعبية في بعض الأحيان لكنها تلقى دعما من الحكومات، لما تسهم فيه من تحسين المؤشرات المالية الكلية في مجالات مثل عجز الموازنة واحتياطات النقد الأجنبي.
إلا أن عمرو عادلي، أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأميركية في القاهرة، يرى أن تركيز الصندوق بشكل أساسي على السياسات المالية والنقدية ليس كافيا، وأن الحكومات في حاجة لتطبيق إصلاحات أخرى.
«لا توجد جهود كافية في الوقت الحالي لعلاج مشكلات تنافسية بلدان شمال أفريقيا في الأسواق الدولية لتحسين أدائها بشكل أكبر في مجالي الصادرات وجذب الاستثمارات الأجنبية»، كما يقول عادلي لـ«الشرق الأوسط»، مضيفا: «من دون هذه الإصلاحات فإن الاستقرار المالي الذي أنتجه الصندوق قد يكون مهددا بعدم الاستدامة، وقد تحتاج البلاد لتدخل الصندوق من جديد في الأجل المتوسط».
كيف استجابت بلدان شمال أفريقيا لتوصيات صندوق النقد؟
مصر سبقت في التعويم... وتونس في تخفيض العملة
كيف استجابت بلدان شمال أفريقيا لتوصيات صندوق النقد؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة