«الحياة بنقالة متهالكة»... قصيدة الشباب السوداء

يتمثل جيل القصيدة العربية الشاب إيهاماً موازياً عسيراً، وهو يحاول احتواء وجعه من دون أن يتخلى عن أحلامه. يكاد هذا الوضع أن يذهب بالشعر والشعراء بعيداً عن تلك «الجمالية» المكرسة التي لم تعد تتسع للقصيدة العربية الشابة، ضحية العنف المتنوع والمتعدد، في بلداننا العربية، من بغداد إلى نواكشوط، حيث الثيمة الأكثر إلحاحاً هي الموت غير المتوقع (أو المتوقع) عندما لا يعرف الشاعر العربي الشاب هل سيعود هذا المساء إلى بيته أم لا!
الشاعر العراقي أكثر إخوته العرب مكابدة في ميدان العنف المستشري، وهو هنا يلوح لنا بقصيدته من هناك، من دار السلام التي صارت داراً للحرب، منذ أعوام بعيدة، فالقتل في تلك الدار صار معتقاً، لا صوت للقتيل يعلو على صوت آخر، منذ الشعار القومي الشهير «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».
في مجموعته الشعرية الجديدة «الحياة بنقالة متهالكة» يحيل شاعرها عمر الجفّال، بادئاً بالعنوان، إلى نقالة الإسعاف، وإذ نرافقه في تدوين يوميات هذه «النقالة» نكاد نمنحه يداً أخوية لتعينه على حمل وجعه، أو قصيدته الجريحة إذا كانت محظوظة حتى الآن.
الحرب: قوة غاشمة تقطع الطريق على الخطوة البسيطة، الحالمة بأشد أشكال التواضع يأساً، عندما تصبح الحرب قدراً لا فكاك منه يأخذ بتلابيب القصيدة أو يتشبث بأردانها من دون أن يترك لها (القصيدة) أن تتأمل لغتها المحايثة، واللاهثة، تحت وطأة الموت المتربص بالناس، رغم «اقتراح» الشاعر لنصه في أن يتجاور «التقريري» و«الشعري»، كي يتناوبا اندلاع النيران تحت أقدام المارة، ويضع الحرف الأبيض لـ«الشعري» والأسود لـ«التقريري»؛ لكن ثمة لونين للنص نفسه، هما الأحمر والأسود، بعيداً عن ستاندال هنا، إذ هي العيون، حمرٌ أو سودٌ، بفعل الغضب والدخان معاً.
يمهد الجفّال بالآتي، معتمداً الحرف الأبيض، حرف الشعر:
«هل ستحظى بما فكرت - بما أرّقك وأنت تنوح بجانب الستائر الذابلة - من مشى في مخيلتك، تتمناه أن يكون خليلك، رغم كرهك الأعمى لمن وجدك تتخبط بالأعمدة وهي تضيء العقيدة بالخوف...».
حسناً، ثمة من ينوح بجانب الستائر الذابلة، وهو نفسه من يتخبط بالأعمدة (المخاطب واحد هنا) حيث الأعمدة وهي تضيء العقيدة بالخوف. أي عقيدة يقصدها الشاعر؟ ولمَ هي مضاءة بالخوف؟.
التأويل ضروري، أخطأ المؤوّل أم أصاب؛ لكن المستوى الأول، للوهلة الأولى، كما يقال، يضعنا أمام مفهوم «العقيدة» التي هي آيديولوجية بالضرورة، ومن هنا يتاح لنا أن نقول، في «حرب العقائد» لا يقتل العقائديون وحدهم، فانفجاراتهم العنيفة وشظاياها المتناثرة تطال الآخرين أيضاً، حتى لو كانوا يؤمنون بـ«عقائد أخرى» مضادة: عقيدة الحب، عقيدة السلام، عقيدة الجمال.
المقطع «التقريري» التالي للمقطع السالف يؤكد ما ظنناه:
«بعد خمسة أيام من كل أسبوع، أقضيها مضطراً خارج المنزل، يتفاقم فيها خوف من قتل على الهوية، أو موت بسيارة مفخخة، أو حفلة إطلاقات نارية هوجاء، أرجع إلى أمي التي تستقبلني وكأني عائد للتو من جبهات القتال. تشم ملابسي بحثاً عن رائحة البارود، وتتفقد ملامحي لتطمئن على أن سحنتي لم يطلها جنون العاصمة الذي ينشر الرعب في الشوارع...».
هكذا، لم يعد للقصيدة العربية الجديدة شكل واحد، ولو تشابه الشعراء لبارت القصائد، رغم أن هذا الشكل الذي كتب به الجفال معروف وسبقه إليه شعراء عراقيون معروفون. بين «التقريري» و«الشعري» ثمة حكاية، أو سرد بقناع الشعر، وبالعكس. هكذا تستمر «الحياة بنقالة متهالكة» حتى قُبيل الصفحات الأخيرة من المجموعة، التي تتوفر فيها مشاهد متركبة ومرتبكة، مثل الشارع العمومي، حيث تعثر على كل شيء ما عدا جثتك.
يكتب الجفال، وكأنه يحدق في المرآة، حكايته:
«ما الذي تغير لتفكر في حكايتك الآن؟ أنت ابن اهتزازٍ وليلة سريعة في انطفائها، امضِ كأنك تنفذ الحكاية. الجدة نفضت عباءتها - رمت الحكاية على وجهك ونامت مع الأولياء، لا نوم بعدُ - الإغماضة لا تثق بالحلم...».
هذه المجموعة هي «حكاية شعرية» أو «أقصوصة» أو «رواية قصيرة»، وأضع هذا بين قويسات لأدرأ خطر النقاد المتزمتين.
أكرر: في عصر «الأثر المفتوح» حسب أمبرتو إيكو ومن سبقه في «تقابل الفنون» الفرنسي إيتيان سوريو، لم يعد للنص جنس واحد، أو تصنيف أو غرض.
أو: دع أبناءنا يلعبون في الفسحة الخلفية للحرب، عندما تحتل الدبابات قلب البيت، وتذهب القصيدة ضحية القتل على الهوية، مثلما تقتل زهرة دفلى بلا سبب سوى أنها تلفت الانتباه، وإن كانت بلا عطر يذكر.
في إغواء الكتابة تأخذ اللغة شاعرها، أو كاتبها، إلى مناطق جذّابة، شكلياً، خصوصاً في التجارب الشابة، فثمة زوائد لغوية وزعانف لا تعين السمكة على الطيران وإن كانت ضرورية في المياه، ويمكن للشاعر، الكاتب، بعد الدربة والتجربة، أن يتخلص من تواتر المضاف والمضاف إليه والصفة والموصوف، إذا توفر له التقاط المفردة الذكية التي تعوضه عن الإسراف في «الشكلانية» أو «الصورية» التي باتت موضة قديمة، كما لعبها غيوم أبولونير عندما كتب قصائده الصورية وهو يرسم أشكال أوانٍ أو مفاتيح أو مزهريات من جبهة الحرب، وكان يهدف منها المزاح مع أصدقائه، كما اعترف بنفسه.
هذا لا يقلل من «متن» التجربة الشعرية الشابة لعمر الجفال، في هذه المجموعة المفعمة بالأسى وهو يسرد «حكاية» بغداد دار السلام التي تحولت إلى دار الحرب، راصداً الألم اليومي لحياة على قيد الموت، حيث ينطوي الألم من «أمل» دفين، ينوس بشكل غير مرئي تحت طبقات نصه الشعري.