شينزو آبي... سياسي محنّك بالفطرة والوراثة

يأمل في إنجاز إضافي بعد الانتخابات اليابانية العامة

شينزو آبي... سياسي محنّك بالفطرة والوراثة
TT

شينزو آبي... سياسي محنّك بالفطرة والوراثة

شينزو آبي... سياسي محنّك بالفطرة والوراثة

تعيش اليابان حالياً أجواء حملة انتخابية بعد إقدام رئيس الوزراء شينزو آبي على حلّ البرلمان (الداييت)، والدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة وعاجلة يوم 22 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري يأمل منها في تعزيز قبضة حزبه المحافظ، الحزب الديمقراطي الحر، على السلطة وإطلاق يده في سلسلة تدابير يراها مهمة في المرحلة الراهنة من تاريخ البلاد. غير أن أحدث استطلاعات الرأي التي أخذت قبل أقل من أسابيع من موعد الاقتراع تعطي مؤشرات إلى أنه يواجه منافسة شديدة قد تحرمه الغالبية المطلقة يشكلها الليبرالي يوكيو إيدانو، كبير أمناء الحكومة السابق وزعيم حزب الديمقراطيين الدستوريين، ومنافسته الأخرى يوريكو كويكي عمدة العاصمة طوكيو التي تقود حزبها الجديد حزب الأمل.
للديمقراطية في اليابان نكهة خاصة. إنها نكهة يابانية تجمع التقاليد بالتطور، ومساومات العائلات السياسية بصناديق الاقتراع.
المعجزة الاقتصادية اليابانية بناها الاستقرار السياسي بعد ولادة الحزب الديمقراطي الحر في عقد الخمسينات من اندماج حزبين يمينيين في عز احتدام الحرب الباردة بين الشيوعية والرأسمالية، ومواجهة «الشرق والغرب» التي فرزت عدداً من دول الشرق الأقصى وشهدت الهيمنة الشيوعية على عدد من الدول بعد انتصارها في الصين. وحقاً، أسس الحزب الديمقراطي الحر رسمياً عام 1955 باندماج الحزب الليبرالي – أو الحزب الحر – بزعامة يوشيدا والحزب الديمقراطي بزعامة إيتشيرو هاتوياما ونوبوسوكي كيشي، وكانت ثمرة تلاقي الحزبين اليمينيين المناوئين للشيوعية في شرق آسيا الحزب الديمقراطي الحر، الذي احتكر عملياً، أو كاد، المشهد السياسي في اليابان حتى اليوم.
لقد قدّم هذا الحزب «المؤسساتي» الكبير معظم رجال الدولة الذين قادوا اليابان نحو نصف قرن من الزمن، وعبر عن مصالح مؤسسات الأعمال والشركات الكبرى، بجانب الهوية الثقافية لليابان التي تقدمت عبر الإصلاح التدريجي لا الثورة الراديكالية.
ومن ثم، باستثناء حالات اعتراضية نجم بعضها عن فضائح مالية أو مسلكية، أو تبدل عابر في مزاج الناخبين، انحصر الصراع داخل الساحة السياسية اليابانية بين عدة أجنحة داخل الحزب نفسه تتصرف ككتل تقودها شخصيات، بل عائلات، متمكنة تجيد الموازنة بين المصالح الانتخابية والعافية الاقتصادية والولاء الحزبي.

بطاقة هوية
شينزو آبي، رئيس وزراء الحالي، الذي بات يوم 26 ديسمبر (كانون الأول) 2012 أول رئيس وزراء في «يابان ما بعد الاحتلال الأميركي» (إثر نهاية الحرب العالمية الثانية) يتولى الحكم في فترتين منفصلتين، ابن إحدى العائلات السياسية العريقة في اليابان. فهو لجهة الأب ابن شينتارو آبي، وزير الخارجية الأسبق (بين 1982 1986) وزعيم ثاني أكبر أجنحة الحزب الديمقراطي الحر، وحفيد السياسي والبرلماني القديم البارز كان آبي (والد شينتارو). ولجهة الأم فإن أمه يوكو كيشي ابنة رئيس الوزراء الأسبق نوبوسوكي كيشي (حكم بين 1957 و1960)، وعمها رئيس الوزراء الأسبق وحامل جائزة نوبل للسلام إيساكو ساتو (حكم بين 1964 و1972).
ولد شينزو آبي في العاصمة اليابانية طوكيو يوم 21 سبتمبر (أيلول) عام 1954. لعائلة سياسية عريقة وذات نفوذ كبير وقديم في إقليم ياماغوتشي، بجنوب جزيرة هونشو كبرى جزر الأرخبيل الياباني، وهذا الجزء من البلاد أعطاها عدداً لافتاً من كبار ساستها وقادتها البارزين.
تلقى آبي تعليمه في مدارس سايكاي الابتدائية والمتوسطة والثانوية، ثم التحق بجامعة سايكاي الراقية في طوكيو حيث تخرج بشهادة بكالوريوس في العلوم السياسية عام 1977. ثم تابع لفترة قصيرة دراسات عليا في الإدارة العامة بجامعة كاليفورنيا الجنوبية في مدينة لوس أنجليس الأميركية.
عام 1979 عمل في شركة كوبي ستيل للفولاذ، ثم بدأ مسيرته السياسية عام 1982 عندما شغل بعض المناصب بينها مساعد تنفيذي لوزير الخارجية وسكرتير خاص لرئيس مجلس الحزب الديمقراطي الحر وسكرتير خاص لأمين عام الحزب.
وفي عام 1993 انتخب آبي نائباً في مجلس النواب عن الدائرة الانتخابية البرلمانية الأولى في إقليم ياماغوتشي، معقل عائلته، وذلك في أعقاب وفاة والده عام 1991. وعام 1999 صار مدير قسم الشؤون الاجتماعية ونائباً لأمين مجلس الوزراء في حكومتي يوشيرو موري وجونيتشيرو كويزومي. وفي عام 2003 عيّن أميناً عاماً للحزب الديمقراطي الحر. وكان موري قد قاد الجناح الحزبي الذي كان يتزعمه أبوه شينتارو آبي، كما كان كويزومي لفترة من الفترات أحد أركانه قبل أن يغادره.

في القمة
يوم 20 سبتمبر 2006 انتخب شينزو آبي رئيساً للحزب بعدما انسحب لصالحه ياسوو فوكودا (ابن الجناح الحزبي نفسه، جناح فوكودا – آبي – موري)، ونافسه تارو آسو وساداكازو تانيغاكي. وبعد ستة أيام اختير رئيساً للوزراء عندما كان له من العمر 52 سنة، فبات أصغر مَن يحتل المنصب منذ الأمير فوميمارو كونويه عام 1941.
إلا أن آبي اضطر للاستقالة خلال أقل من سنة، يوم 12 سبتمبر 2007 لأسباب صحية إذ عانى من التهابات تقرّحية في القولون، وتفاقم الوضع مع التدني الكبير في شعبية حكومته وتعرض الحزب الديمقراطي الحر لنكسة كبرى في انتخابات المجلس الأعلى (مجلس المستشارين) في البرلمان حيث فقد غالبيته لأول مرة منذ 52 سنة، وكذلك هزت حكومته فضيحتان لاثنين من وزرائه. وفي نهاية المطاف أعلن قرار الاستقالة. وعند هذه النقطة تخيل كثيرون من المحللين والمتابعين أن هذه المحطة ستكون نهاية مسيرة آبي السياسية، لا سيما أنه لم يسبق لرئيس وزراء ياباني أن عاد إلى المنصب بعد مغادرته منذ بداية مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولقد خلفه في المنصب حليفه ومنافسه السابق ياسوو فوكودا، مستهلاً مرحلة شهدت تولي المنصب خمسة رؤساء وزارات لم يستمر أحد منهم لأكثر من 16 شهراً. وبعدها سجل آبي سابقة لافتة في الحياة السياسية المعاصرة في البلاد.
العودة التاريخية للحكم
أيضاً في شهر سبتمبر، الذي لعب دوراً بارزاً في حياة آبي، وبالتحديد يوم 12 سبتمبر من عام 2012، تغلب آبي على منافسه على زعامة الحزب الديمقراطي الحر وزير الدفاع السابق شيغيرو إيشيبا. ومن ثم، على إثر الانتصار الانتخابي الكاسح للحزب في الانتخابات العامة التالية، غدا آبي أول رئيس وزراء ياباني يستعيد منصبه بعد السياسي «الداهية» شيغيرو يوشيدا عام 1948.
وبعد ذلك، أعيد انتخابه للمرة الثالثة في الانتخابات العامة التي أجريت عام 2014 ومعها استطاع الديمقراطيون الأحرار تحت قيادة آبي الاحتفاظ بغالبية ثلثي مقاعد البرلمان مع حليفهم حزب كوميتو البوذي.
سياسات آبي
تقليدياً اتبع شينزو آبي سياسات محافظة وجريئة في مختلف المجالات، وكشف سواء في فترة حكمه الأولى، وأكثر بعدما عاد إلى السلطة سياسياً مخضرماً ومجرباً عن مزيج عملي وواقعي من الصلابة والمرونة، والقدرة على التأقلم مع المتغيرات.
ففي مجال السياسة الداخلية عرفت عنه مواقفه المحافظة في موضوع الوراثة الإمبراطورية المثيرة للجدل وتخليه عن مشروع قانون يتيح للإناث تولي العرش، كما كان مع تيار الساسة اليمينيين الحريصين على تعزيز عنصر الوطنية في مناهج التعليم. وفي فترته التالية في السلطة بعد عودته إلى الحكم اهتم بتعزيز السياسة التعليمية وإنشاء برنامج التميز العالمي في التعليم الجامعي بما فيه اجتذاب طلبة من مختلف أنحاء العالم إلى الجامعات اليابانية.
وأيضاً اهتم بالجوانب الاجتماعية ولا سيما رصد مبالغ لتشجيع الإقبال على الزواج لمعالجة مشكلة تراجع النمو السكاني في البلاد.

أهمية الاقتصاد
وفي مجال الاقتصاد فإنه إبان فترة حكمه الأولى سار على نهج سلفه كويزومي، واتبع إصلاحاته في السياسة النقدية وموازنة الميزانية العامة. وفي الفترة الثانية من حكمه المستمرة حتى اليوم أطلق سلسلة إجراءات اقتصادية عرفت بالـ«آبينوميكس» (اقتصاد آبي) التي تستنهض الاقتصاد وتحفز وتسعى أساساً على تحاشي الكساد والركود. واتسمت إجراءاته بثلاث أولويات رئيسة، هي: التوسع النقدي لتحقيق معدل تضخم بحدود 2%، وسياسة نقدية مرنة تحفز الاقتصاد في المدى القصير، واستراتيجية نمو تقوم على إصلاحات في القطاعين العام والخاص تؤمن النمو على المدى الطويل.

السياسة الخارجية
سياسات آبي الدولية شكلت وما زالت تشكل تكاملاً مع منظوره العام المحافظ، وتتكامل مع مبادئ الحزب الديمقراطي الحر وما يراه الحزب والطبقة الحاكمة في صلب المصالح الوطنية لليابان في عالم متغير يفرز تحولات دائمة.
في الملف الكوري الشمالي عرف عن آبي تشدده ومبدئيته في الدفاع عام 2002 عن مصالح اليابانيين المحتجزين في كوريا الشمالية. وفي المقابل، اتسمت مقارباته السياسية الإقليمية في شرق آسيا بالاهتمام الشديد بالأمن الإقليمي والشراكة الأمنية، وفي هذا السياق فإنه يقدر عالياً العلاقات مع كوريا الجنوبية. وبالنسبة للموضوع الصيني فإنه قارب «الجار» العملاق بواقعية شديدة ورغبة بالتعايش والاستفادة بصرف النظر عن العواطف والاختلاف بين طبيعتي النظام الياباني ونظام بكين. وفي هذا السياق فإنه تحاشى زيارة تايوان، التي سبق أن زارها جده نوبوسوكي كيشي عندما كان رئيساً للوزراء في منتصف عقد الخمسينات من القرن الماضي. وأما عن العلاقات مع العملاق الآسيوي الثاني، الهند، فإن آبي نشط إبان فترتي حكمه الأولى والثانية – الحالية – في تطوير العلاقات الثنائية بين طوكيو ونيودلهي من دون أن تستهدف عزل الصين. وفي هذا السياق عزز التعاون الاستراتيجي مع الهند، كما أطلق عام 2007 «الحوار الأمني الرباعي» بين اليابان والولايات المتحدة والهند وأستراليا. وحسب المتابعين وفق هذا المنظر فإن رئيس الوزراء الياباني عبر حرصه على توسيع إطار هذا «الحوار» ليشمل كوريا الجنوبية وإندونيسيا والفلبين وفيتنام يسعى عملياً إلى بناء منظومة على غرار حلف شمال الأطلسي «ناتو» في الشرق الأقصى مع ما في ذلك من احتمالات سوء فهم مع بكين، ولا سيما في ضوء الخلاف المتعدد الأضلاع في بحر الصين الجنوبي حول جزر سبراتلي المتنازع على ملكيتها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن آبي من مؤيدي إعادة تعريف الشق الأمني وفق نصوص الدستور الياباني ولا سيما المادة 9 من الدستور حول وجود قوات مسلحة. ويسجل له أنه إبان فترة حكمه الأولى رفع مستوى «الوكالة اليابانية للدفاع» إلى وزارة. وهو من أشد المتحمسين للتحالف العسكري مع الولايات المتحدة. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2013 أعلن آبي خطة سنوات خمس للتوسع العسكري تهدف إلى جعل اليابان – حسب تعبيره – دولة «طبيعية» قادرة على الدفاع عن نفسها بعيداً عن هواجس الحرب العالمية الثانية.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.