الحازميون... غلاة ما بعد «داعش»

النشأة والخطاب وأهم شيوخهم

«التيار الحازمي» وصل إلى ما وصل إليه متطرفو وغلاة الخوارج في تكفير كل من يخالفهم... وسيبتلع «داعش» فكرا وخطابا («الشرق الاوسط»)
«التيار الحازمي» وصل إلى ما وصل إليه متطرفو وغلاة الخوارج في تكفير كل من يخالفهم... وسيبتلع «داعش» فكرا وخطابا («الشرق الاوسط»)
TT

الحازميون... غلاة ما بعد «داعش»

«التيار الحازمي» وصل إلى ما وصل إليه متطرفو وغلاة الخوارج في تكفير كل من يخالفهم... وسيبتلع «داعش» فكرا وخطابا («الشرق الاوسط»)
«التيار الحازمي» وصل إلى ما وصل إليه متطرفو وغلاة الخوارج في تكفير كل من يخالفهم... وسيبتلع «داعش» فكرا وخطابا («الشرق الاوسط»)

لا يقف سرطان التطرف العنيف عند حد، بل هو نار تأكل نفسها بنفسها، وتأويلات تزداد كل يوما انحرافا عن الوسط والاعتدال، غارقة في آبار سحيقة من التكفير والغلو، وليس التيار الحازمي، الذي نحاول التعريف به ورموزه هنا إلا دلالة قوية على ذلك، كما سنوضح.
كانت تهم الإرجاء والتجهم موجهة دائما من «القاعدة» و«داعش»، وقبلهما التيار الصحوي، والسروري، والقطبية، لصدور وإيمان المعتدلين من يتورعون عن التكفير، خصوصا تكفير المعين عذرا بالتأويل أو الجهل وغيرهما، إلا أنها صارت الآن سيفا مصلتاً من وجوه غلاة الغلاة التي تتهم دولة «داعش» - أعتى صور التطرف العنيف المعاصر - بالجهمية! ويكتب أحد أنصار التيار الحازمي في سبتمبر (أيلول) سنة 2015 واصفا إياها بـ«دولة التجهم والإرجاء».
ونشرت «النبأ» صحيفة «داعش» الخبرية في عددها رقم «85» الصادر في 14 يونيو (حزيران) من العام الحالي 2017 الموافق 20 رمضان سنة 1438 هجرية (الصفحة 12) عنوان «رموز لا أوثان» أشارت إليه في غلافها بصورتين للراحلين حسن البنا وعطية الله الليبي، ووصفهما كاتبه بقوله: «ولا يمكن حرص الأمثلة على (الرموز) التي امتدحها البعض، على ما علموا عنهم من خير وجهلوا عنهم من باطل وضلال، كحال رموز (الإخوان) المرتدين، مثل حسن البنا ورموز (القاعدة) كعطية الله الليبي وأبي مصعب السوري وغيرهم كثير من أئمة الضلال ورؤوس الفتنة» هكذا صار أئمة ومؤسسو وشيوخ الجماعات أئمة ضلال ورؤوس فتنة عند من خرجوا من عباءتهم، ويبدو أن الكاتب يميل ميلا «حازميا» إذ إن «داعش» لم تكفر عطية الله الليبي، بل رثاه البغدادي نفسه في بيان صوتي بعد مقتله في 22 أغسطس (آب) سنة 2011 بمنطقة وزيرستان الباكستانية، ووصفه بـ«العالم العامل المجاهد، صاحب العلم والوقار»، وقد حذر كاتبه في تلميح يكاد يكون صريحا إلى تقديس البغدادي والقيادات - دون ذكر - مؤكدا على ضرورة التخلص من قدسية الرجال قائلا: «فنحذر من ربط جماعة المسلمين بعقيدة شخص من الأشخاص أو سنته، مهما ظهر من صلاحه وتقواه، واتباعه للسنة، وبراءته من الشرك وأهله، ومهما كان له من فضل وجهاد وإمامة في الدين»، مما يشي ويدل مع علامات أخرى على أن التيار الحازمي يخترق إعلام «داعش» وخطابه، وليس مهمشا فيه، وأنه قد يرثه في فترة ما، لندخل مرحلة ما بعدها.
يعتبر «عدم العذر بالجهل وتكفير المعين والعامي وتكفير من لم يكفره» أهم أصول وأفكار التيار الحازمي، وقد أسس لهذه الأفكار أحمد بن عمر الحازمي المعتقل حاليا، الذي تأثرت به مجموعة من التونسيين والمغاربة كان من أبرزهم أبو جعفر الحطاب عضو اللجنة الشرعية لجماعة أنصار الشريعة في تونس وأبو مصعب التونسي أحد قيادييه، وكذلك أبو عبد الله المغربي وغيرهم ممن انضموا لـ«داعش» بعد إعلان خلافته، وتولوا مناصب مهمة في لجانه الشرعية والإعلامية حينها، ولا يزال البعض على ما يبدو موجودا فيه.
نجح الحازميون في إقصاء كبير شرعيي «داعش» تركي البنعلي (المقتول هذا العام) عن صدارة مشهده النظري، واضطروه كما اضطروا غيره من شيوخ داعش وغيره قبل وفاته لكتابة ردود على أفكارهم وخطابهم في عدم العذر بالجهل وتكفير المعين والعامي، كما كتبوا الردود كذلك عليه.
لقد بدأ بزوغ «التيار الحازمي» منذ أواسط عام 2014 بعد تكفير عدد من خطبائه لمخالفيهم، ومن لم يكفر الكافر من قيادات «داعش»، الذين دعوهم لتكفير شيوخهم السابقين في «القاعدة» وغيرهم من الجماعات المتطرفة، وتكفير من لم يكفر من يقبل بالقوانين الوضعية، مثل أيمن الظواهري وعطية الله الليبي وغيرهما من شيوخ «القاعدة». وكانت البداية إعلاميا باعتقال أبو عمر الكويتي (واسمه بالكامل حسين رضا لاري) في أغسطس (آب) 2014 ثم إعدامه في سبتمبر من العام نفسه، وأعقبه إعدام التونسي أبو جعفر الحطاب في 7 مارس (آذار) سنة 2015 وتم اعتقاله مع مجموعة أخرى من الحازميين في سبتمبر سنة 2014، كان أبرز المعتقلين حينها حسب بيان للحازميين في هذا التاريخ منشور على الشبكة العنكبوتية:
«أبو جعفر الحطاب»، «أبو مصعب التونسي»، «أبو أسيد المغربي»، «أبو الحوراء الجزائري»، «أبو خالد الشرقي»، «أبو عبد الله المغربي».
وقد كتب أحد أنصار التيار الحازمي بياناً في سبتمبر 2014، وقعه باسم «مصلحة التوحيد» وعنونه: «مناصرة الإخوة المأسورين في دولة الجهمية الكافرين»، في إشارة لـ«داعش» بعد أسر شيوخ هذا الفكر المذكورين واصفا دولة «داعش» بدولة الكفار الملاعين والتجهم قائلاً: «تجاوزت دولة البغي والتجهم مرحلة البيانات الكاذبة، إلى التحرك الميداني باختطاف المؤمنين من منازلهم، والزج بهم في غياهب السجون، لأجل تكفير المشركين، وصاحب ذلك ترويع نسائهم، وانعدام الأمن والأمان الذي كان يَحلم به كلُ موحد في ظل دولة البغدادي، وفعلوا كما يفعل الطواغيت المعاصرون تماماً»، هكذا كانت التجربة الفاشلة بجوار مزايدات التكفير ومتتابعة الغلو والخروج ملمحا واضحا في هذا البيان التراشقي بين الحازميين و«داعش».
رغم تعدد أسماء شيوخ ومنظري التيار الأكثر غلوا في «داعش» والجماعات المتطرفة العنيفة، فإنه اشتهر بنسبته لأحمد بن عمر الحازمي المعتقل حاليا، الذي اتسع تأثيره بالخصوص إلى تونس وبلدان المغرب العربي، ورغم اعتزاز الحازمي واهتمامه بالنحو واللغة، وتأثره بالفكر المدخلي في التصفية والتكفير، خصوصاً أن من شيوخه محمد الخضر الشنقيطي وأحد رموز المدخلية محمد علي آدم الإثيوبي، حسبما يرى الباحث المغربي عبد الغني مزوز في ورقة له عن «الصراع بين البنعلية والحازمية»، فإن القضية الرئيسية الواضحة في خطب وتسجيلات وموقع الحازمي على الشبكة العنكبوتية هي إلحاحه على «عدم العذر بالجهل»، وإيمانه بتكفير المعين والمخالف دون إعذار، وأيضاً تكفير من لم يكفره، ويهتم اهتماما خاصا بالتمييز في التوحيد وشرح كتبه، ويصرح في أحاديثه بمخالفته لأئمة كبار كالإمامين ابن تيمية وابن عبد الوهاب في قولهم بالعذر بالجهل، كما يخالف غيرهما.
ونلاحظ أن الحازمي المهتم والمكرس تعلمه للغة أراد أن يتكلم في الفقه دون ضابط من تراثه ورغبة في تصفية التوحيد والموحدين كما يراهم وأتباعه، لا يدور خارج كلمة واحدة هو أن «الأصل في الناس الكفر»، كما نقل عنه بعض عارفيه، وأعلن أمام صحب له أنه «لا يصلى خلف أئمة المساجد»، ويؤكد أن كل من أتى كفرا فهو كافر، ولا عذر بجهل ولا تأويل! في ظاهرية حشوية تتجاهل كل تراث أصول الفقه والاعتقاد ومدوناتهما.
أما الثاني من أبرز ممثلي الحازميين فكان «أبو جعفر الحطاب»، وهو عضو اللجنة الشرعية السابق في جماعة «أنصار الشريعة» بتونس حتى 7 يونيو سنة 2013، حيث نشر في هذا التاريخ ردا على الأردني إياد قنيبي بخصوص فتوى «لأنصار الشريعة» في تونس بعدم جواز التعامل مع المحاكم، وأقسام الشرطة، وعلى تكفير عناصرها وعدم قبول العذر بالجهل في هذه المسائل، ثم انضم لدولة «داعش» وهاجر إليها، وصار من كبار شرعييها، حتى إعدامه في 7 مارس سنة 2016.
وقد نشر الحطاب رسالة صوتية بعنوان «الكواشف الجلية على أن العذر بالجهل عقيدة الأشاعرة والجهمية» وله كثير من الفيديوهات والدروس في التأكيد على تكفير المعين، وعدم العذر بالجهل، والرد على من انتقد ذلك خصوصاً من شيوخ «القاعدة» و«داعش»، وإن كان على العكس من أحمد الحازمي يحاول ربط ذلك بأئمة السلف اقتطافا من أقوالهم، بتأويل منحرف لكلياتهم وجزئياتهم، وله في ذلك محاضرة يصور فيها عدم عذر ابن تيمية في التكفير بالجهل، أو رفضه التأويل عذرا، أو قوله بتكفير المعين، وهو ما تنفيه نصوص ابن تيمية بالكلية، حيث ألح على ذلك في أكثر من موضع.
ومن أبرز منظري الحازميين أبو مصعب التونسي أيضاً الذي أعدم مع أبو جعفر الحطاب في مارس سنة 2016، وكان عضوا في أنصار الشريعة في تونس، ثم صار أحد قضاة «داعش» في منطقة الشرقية بسوريا، والذي صرح بتكفير الظواهري، لعدم تكفيره عوام الشيعة، فإما أن تكفر معهم أو تكون كافرا مرة واحدة!
كذلك، دخل الحازمية في صراع مع قادة «داعش» لإصرار الأول على تكفير كل مخالفيهم، ومن لم يكفر مخالفيهم، وتصدى لهم تركي البنعلي قبل رحيله، لكنه تم إقصاؤه مما يعني قوة الحازميين وتأثيرهم داخل «داعش»، وأتى بيان للجنة المفوضة في مايو (أيار) سنة 2017 أعلى لجنة قيادية في «داعش» يتصالح مع خطاب الحازميين؛ أن الأصل في الناس الكفر وأنهم يقولون بتكفير المعين، وهو ما رفضه البنعلي قبل رحيله بعد ذلك بأسابيع، مما يعني إمكانية ابتلاع الحازميين لـ«داعش» أيضاً. ختاماً يبدو أن التيار الحازمي الذي وصل إلى ما وصل إليه متطرفو وغلاة الخوارج، في تكفير كل من يخالفهم، سيبتلع «داعش» فكرا وخطابا ويؤكد نهايتها الآيدولوجية كما تحتضر ميدانيا، وليس ما تحمله نشرة «النبأ» من دعوات التوحد ودرء الفتنة والانشقاق كما في عددها 85 إلا دلالة أخرى على ذلك، وإقصاء كل شرعيي «داعش» الأولين واختفاء بعضهم تماما أو مقتله، يعطي فرصة أكبر لهذا التيار الأكثر تطرفا ولكنه على ما يبدو أقل خطرا وجاذبية من مجموعات وعناصر التطرف العنيف كما كان داعش في بداياته.
* مراجع إضافية:
1- انظر عبد الغني مزوز عن الصراع بين البنعلية والحازمية» منشور في «نون بوست» بتاريخ 27 يوليو (تموز) سنة 2017.
2- انظر حول موقف ابن تيمية من تكفير المعين كتابنا: «متاهة الحاكمية: أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية»، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية سنة 2015.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.