متى تنتهي الرواية ويبدأ الفيلم؟

بين كل أشكال الأدب والفنون، يقف الأدب الروائي في مقدمة المصادر التي تعتمد السينما عليها. وبقدر ما هناك أنواع مختلفة من الروايات الأدبية والشعبية بقدر ما هناك أنواع سينمائية.
المرجح هنا هو أن الروايات الأدبية، شعبية وثقافية، احتاجت، لكي تبيع، إلى أن تعلن عن نفسها بتبويب نفسها حسب العنصر القصصي السائد لكل منها، فكانت هناك الروايات التاريخية والعاطفية، وروايات الجريمة والغموض، وروايات الجاسوسية، إلى آخر أنواع الكتابات القصصية.
كان من الضروري للسينما الأميركية، على الأخص، أن تبدأ بالاستعانة بالتقليد ذاته: فيلم مغامرات، فيلم وسترن، فيلم بوليسي، فيلم عاطفي، فيلم خيالي – علمي، إلى آخر الأقسام المعتادة.
ومثل الرواية كان على المخرجين (في هوليوود كما حول العالم) اتباع المنهج جيداً، وذلك ما عني مباشرة الالتزام بلغوية الفيلم ومدى انتسابها إلى النوع المطروح في الفيلم الواحد. بذلك، فإن أسلوب معالجة فيلم كوميدي ليس هو ذاته أسلوب معالجة فيلم بوليسي أو تاريخي. هذا الاختلاف لا يتركه صانعو الأفلام للحكاية ذاتها أن تبديه، بل عليهم تأليف العناصر الكفيلة بطرح هذا الاختلاف منذ المشهد الأول بما في ذلك عناصر الحبكة وما يرد فيها وعناصر الأسلوب الفني والتقني للمادة.

استلهام

بهذا المفهوم، فإن أفلام ما يعرف بـ«الفيلم نوار»، تلك التي تصوّر أبطالها من مقتفي أثر الحقيقة المفقودة في الحياة ويجدون أنفسهم مطلوبين من العدالة ومطاردين من الخارجين عن القانون في الوقت ذاته، ولا يستطيعون تحمل لدغة الأنثى التي وثقوا بها، لها بناؤها الخاص الذي يشمل إخراج وإدارة المشاهد («ميزانسن») وإخراج وإدارة اللقطات المنفردة («ميزانشوت»). يشمل أيضاً الكيفية التصويرية للفيلم بأسره. الفيلم الداكن للبوليسي والفيلم «الفاتح» للفيلم العاطفي، وهكذا.
ما سبق هو لتقريب المرغوب طرحه هنا، وهو الحد الذي تنتهي عنده الرواية ليبدأ الفيلم. ما هو مشترك بينهما وما لا يستطيع العمل الروائي فرضه على الفيلم السينمائي. وهذا الأمر لا يتعلق بالبدايات والأنماط فقط، بل بما يقرر كاتب السيناريو ومن ثم المخرج نقله من العمل الروائي وما يتركه وراءه.
الاقتباس من الأدب إلى السينما يأخذ منحنين مهمّـين، أحدهما يتميز بالأمانة قدر المستطاع، والآخر بالإيحاء. وهذا الأخير له وجهتان: واحدة تستعير الحبكة لصالح عمل ليس مطلوباً منه أن يترك تأثيراً أو وقعاً لأكثر من أسابيع عروضه الأولى وأخرى تستعير الحبكة، أو تستلهمها، لصالح عمل يحتاج إلى فحواها وفكرتها وبذورها الداخلية ليصنع ما هو مختلف أو منتمٍ إلى ذاتية المخرج.
في هذا الصعيد الأخير لدينا مثال مهم يكشف عما قد يحدث لو أن المخرج اختار إلغاء الأحداث التي بناها الروائي وصولاً إلى تأليف مجمل حكايته والاكتفاء بالمضمون ونوعه. هذا المثال هو فيلم «اللمعان» The Shining لستانلي كوبريك المصنوع سنة 1980 عن رواية ستيفن كينغ. قام كوبريك بتحويل الرواية من مجرد حكاية صبي «لامع» تتراءى له الأسرار وأب يعيش كابوساً مر عليه سابقاً من دون وعي. أمسك الفيلم بناصية المصادر الاجتماعية الغائبة وأضاف إليها الكثير من الرموز المهمة من دون أن يتخلّى الرعب، بل أضاف إليه.
في المقابل، فإن الحفاظ على الحكاية (قدر الإمكان) لاستغلال منابعها وعناصرها كما الحال في الفيلم المأخوذ عن رواية جون تشاينبك «عناقيد الغضب» (The Grapes of Wrath) التي نشرها الكاتب سنة 1939 وأخرجها جون فورد بعد عام واحد من نشرها فيلماً من بطولة هنري فوندا.
فحوى هذا العمل الأدبي المميّـز هو الرحلة التي قامت بها عائلة من فلاحي الوسط الأميركي إلى ولاية كاليفورنيا (بسيارة متهالكة) بحثاً عن العمل تحت وطأة ما سُمي سنوات «الكساد العظيم» في نهاية العشرينات.
الفيلم يحافظ بالتأكيد على هذا المضمون الاجتماعي الصارخ وينقل الرسالة السياسية التي وقفت مع المعدمين ضد المستغلين وأصحاب المصالح ما جعله، وما زال إلى اليوم، يبدو كما لو أنه فيلم يساري من المخرج جون فورد المعروف بانتمائه اليميني.
المنهل الشكسبيري
ما سبق في هذا المجال يتطابق مع مفهوم الناقد المجري بيلا بالاش (1884 - 1949) الذي رأى أن للفيلم لغته الخاصة (وذلك في كتاب له بعنوان «نظرية الفيلم: الشخصية ونمو الفن الجديد») تبدأ منذ بداية كتابة السيناريو بصرف النظر عن نوعية الاقتباس وما إذا كان السيناريست مخلصاً للعمل الأدبي أم لا.
يمضي بالاش ليؤكد أن النص السينمائي (السيناريو) هو حالة أدبية خاصّـة بنفسها. وأن إمكانية كتابة سيناريو فذ ومتكامل هي في مقدور الكاتب، وعليه، فإن ذلك لا علاقة له بالرواية الأصلية التي قد تكون جيدة الكتابة أو سيئة.
وفي الحقيقة، نجد أن هذا الكلام الذي نشر له في الثلاثينات صحيح أكثر من أي وقت مضى في هذا العصر. وأحد نماذجه منعكس تماماً في فيلم أكيرا كوروساوا «ران» (1985) المقتبس عن إحدى أهم روائع الأدب وهي «الملك لير» لويليام شكسبير.
السيناريو، الذي ما زال متوفراً على بعض المواقع، متحرر من النص الأدبي الثقيل (على روعته) ليس فقط لأن الغاية هي تحقيق فيلم ياباني من المسرحية الإنجليزية، بل أساساً، لما يتطلبه العمل على مثل هذا السيناريو من ضبط أوتار كثيرة. من ناحية البحث في داخل النص الرئيسي ومن ناحية ثانية الإتيان بعمل يوازي قدرة وقوّة النص الأدبي، ومن ناحية ثالثة، سيناريو منفصل عن النص بجمالياته وبثقافاته الوطنية في المكان والزمان الذي تنتقل الأحداث إليه.
تجربة مماثلة أقدمت عليها المخرجة الأميركية جولي تايمور سنة 1999 عندما قامت بتحويل مسرحية شكسبير «تايتوس أندرونيكوس» إلى فيلم بعنوان «تايتوس». هنا نجد مثالاً آخر على تطويع السيناريو لكي يستقل ويرتبط في الوقت ذاته. ففي حين يسرد الفيلم ترجمته المصوّرة للمسرحية، ينفصل عنها بقيامه بتحديث الفحوى لنقد نظم العالم اليوم، تماماً كما فعل بعد سنوات الممثل راف فاينس عندما قرر تحقيق أول أفلامه فاختار من أعمال شكسبير «كوريالانوس» وشحنها بالمضامين السياسية منتقلاً في أحداثها ما بين موقعها التاريخي البعيد وموقع تاريخي معاصر ليثبت فحواها المعادي للفاشية.
هذه الأمثلة، والسينما مليئة بها، تجيز استخدام النص السينمائي كعمل مختلف ومنفصل عن الأصل، وذلك حسب رغبة الكاتب. هذا لا يعني أنه ليست هناك من سيناريوهات أمينة للنص الأدبي (بل هي كثيرة ومتعددة أيضاً) بل يعني أن الاقتباس مجال على الكاتب أن يكون أهلاً له، سواء حافظ على الأصل أو اختلف عنه. مع هذا الخيار يبرز السيناريو محورا ثابتا في عملية تأكيد الانفصال بين النص الأدبي والنص السينمائي انفصالاً تاماً وضرورياً بصرف النظر عن حجم ذلك الانفصال وكيفيته.