سعود بن هذلول... مؤرخ آل سعود

أضواء على شخصيته بمناسبة اليوم الوطني السعودي

سعود بن هذلول... مؤرخ آل سعود
TT

سعود بن هذلول... مؤرخ آل سعود

سعود بن هذلول... مؤرخ آل سعود

من منظور هاوٍ للتاريخ لا متخصّص فيه، يُكتب هذا المقال بمناسبة اليوم الوطني السعودي، الذي تحل ذكراه في الثالث والعشرين من سبتمبر (أيلول)، للحديث عن هذا العَلَم المخضرم، الذي يجمع بين كونه أميراً ومؤلّفاً لكتاب لعله الوحيد في موضوعه التاريخي لأحد أفراد الأسرة المالكة صار يُطلق عليه «مؤرِخ آل سعود» واستمرّ المؤرّخون يقتبسون منه مما زاد من أهميّته مع مرور السنوات، وتمكّن مؤلّفه قُبيل وفاته عام 1983 من إعادة إصداره وإضافة الأحداث التي جدّت عليه منذ طبعته الأولى، كاعتداء جهيمان على المسجد الحرام (20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1979)، والكتاب في 425 صفحة، من تقديم الموسوعي محمد ناصر العبودي.
فضلاً عمّا يُعرف عنه من البساطة في عرض محتوى كتابه، ومن رغبته كما ذكر في المقدمة بتسجيل التاريخ دون زيادة أو نقصان، فإنه لم يتبع المنهج التقليدي السردي الذي سار عليه المؤرّخون الأوائل، واعتمد على أبرز المراجع المتاحة في حينه، وعلى السماع من المعمِرين الذين أدركهم في حياته، وقد عاصر وشارك في بعض الأحداث المتأخّرة التي يُعدّ مرجعاً أوّليّاً فيها، وكان مما انفرد بإيراده مثلاً في طبعته الأولى تفاصيل حادثة اعتداء ثلاثة يمنيين في الحرم المكّي الشريف على الملك عبد العزيز، وولي العهد الأمير سعود (حج عام 1935) وكان المؤلّف شاهد عيان للحادثة.
أدرك من خلال الإطار الزمني الذي عاشه، معظم جيل التأسيس الأول الذي صنع الأحداث أو شارك فيها، أو روى أخبارها عن قرب، وزعماء القبائل وشخصيّات المجتمع، ورجالات الأسرة الحاكمة ومنهم الإمام عبد الرحمن والد الملك المؤسّس عبد العزيز وإخوانه وأنجالهم، وناصر بن سعود بن فرحان (ت 1930 تقريباً) وعبد الله بن جلوي (ت 1935) وعبد العزيز بن عبد الله بن تركي (ت 1936) وسعود بن عبد العزيز (الملقّب بسعود الكبير ت 1959) وسلمان بن محمد (ت 1974) وعبد العزيز بن مساعد بن جلوي (ت1977).
كان شخصيّة اجتماعيّة، ودوداً محبّاً لمجالسة الناس ومعرفة أحوالهم، ملمّاً بقبائل الجزيرة العربيّة وجغرافيّتها وتاريخها المعاصر، والتقى المؤرّخين السعوديين والأجانب الزائرين من جيله، ولم ينفرد بما كتب فاتّخذ من العارفين بالتاريخ الشفوي والمكتوب من استشارهم من أمثال محمد العبودي وعبد الرحمن الرويشد (ت 2016) ممن لهم إحاطة مشهودة بالتاريخ الوطني والاجتماعي السعودي الحديث، وهي جميعاً عوامل رغّبته مجتمعة بالاهتمام بكتابة التاريخ.
في تقديمه للكتاب، استعاد العبودي مقولة للعلّامة حمد الجاسر بأن «أكثر الذين كتبوا في تاريخ الجزيرة العربيّة وفِي التاريخ السعودي على وجه الخصوص، هم من الأجانب» ولذلك احتفى العبودي بتصدّي المؤلّف لمهمّة التأريخ لبلاده، مستفيداً من معرفته بمجريات الأمور وبظروف المجتمع وأسماء المواقع والقبائل والزعامات السياسيّة المجاورة، وأثنى على نهجه في رصد الحوادث وتحليل أسبابها ونتائجها وفق الأسلوب الحديث في تدوين التاريخ.
وَمما امتاز به جهده، الجمع بين ميدانين رئيسيين في دراسات التاريخ هما؛ سرد الأحداث وروايتها، وسيَر الشخصيّات التي صنعتها، حيث أرّخ لأبرز مفاصل الدولة منذ قيامها قبل ثلاثة قرون، في حين خصّ حكّامها كما يدلّ عليه عنوان الكتاب، بنُبذٍ مرجعيّة من تراجمهم.
كان فيلبي من المؤرخين الغربيين الذين التقوا به، واستفاد من وثائق يقتنيها، وأثنى عليه في كتابه (الذكرى العربيّة Arabian Jubilee 1951) وقال «إنه كنز ثمين للمعلومات النافعة، وبخاصة بالنسبة للغموض الذي يتعلق بفروع الأسرة التي ينتمي هو نفسه إلى أحدها» وكان العلّامة حمد الجاسر، ممن اطلع على الكتاب بعد صدور طبعتيه، واستشهد به في بعض قراءاته التاريخيّة ومطالعاته لكتب الباحثين، وكان مما قاله عنه «والأمير سعود (1906 - 1983) له مؤلَّف دعاه (تاريخ ملوك آل سعود) نُشر سنة 1960 في طبعته الأولى، انتهى فيها إلى ذِكْر وفاة الملك المؤسس عبد العزيز صباح يوم الاثنين، التاسع من نوفمبر 1953 وأشار إلى تولّي الملك سعود وانتهى، ثم أصدر طبعته الثانية عام 1982 بإضافاتٍ كثيرة، انتهى فيها إلى ذِكْر حوادث سنة 1980 ومع أن المؤلِّف اعتمد كثيراً على مَن تَقَدَّمَه، إلا أنَّ لإضافاته المتعلِّقة بحياة الملك المؤسس محلَّها لدى المعنيين بالتاريخ، لكونه من أسرته ولمعاصرته له ولأنه من مرافقيه ورجال دولته».
التقاه كاتب المقال مرّات عدة، كانت أولاها عام 1964 حينما كان أميراً لمنطقة القصيم، وسجل معه حديثاً إذاعياً عُرض
في حينه وتلقّى منه يومذاك الطبعة الأولى من كتابه، وأجرى معه عام 1977 لقاءً تلفزيونيّاً مطوّلاً (ما زال محفوظاً) وكان في تلك الأيام قد أنهى إضافات كتابه، وروى في اللقاء الكثير من الذكريات عن سيرة الملك عبد العزيز، وعن جملة من الحوادث التي شهدها أو شارك فيها، والتحدّيات التي واجهها تأسيس السعودية من القوى الإقليميّة المناوئة، وذكر أسماء عدد ممن أسهموا في تأسيس الدولة، وأثبت ما تأكّد لاحقاً من أن إجمالي من اعتلى سور الرياض مع الملك عبد العزيز أربعون فارساً، توفّي آخرهم وهو الأمير عبد العزيز بن مساعد بن جلوي عام إجراء المقابلة (1977) ومعهم عشرون مرافقاً.
واستعرض جزءاً من سيرة الملوك الثلاثة سعود وفيصل، وخالد الذي حصل التسجيل في عهده، وكشف الحديث اطّلاعه على كتب المؤرخين، وبخاصة خير الدين الزركلي (شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، أربعة أجزاء) ومنير العجلاني (تاريخ البلاد العربيّة السعودية، خمسة أجزاء) وعبد الله محمد البسّام (تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق) ومحمد أمين التميمي واضع نواة مشجّرة العائلة المالكة وتحدّث عن مخطوط التميمي في التاريخ، ربما قصد بها مذكّراته الشخصية التي دوّنها بعنوان (لماذا أحببت ابن سعود؟) وأهداها إلى الملك عبد العزيز أثناء زيارته لمصر (1946) ونشرتها دارة الملك عبد العزيز (1999) وتحدّث عن شاعريّة الإمام تركي بن عبد الله آل سعود مؤسّس الدولة السعودية الثانية (ت 1843) مُستشهداً بقصيدته المعروفة:
طار الكرى من موق عيني وفرا وفزيت من نومي، طرا لي طواري
كما أشاد بقريحة الشاعر الشعبي محمد عبد الله العوني (ت1923) صاحب الملحمة (المطوّلة) الشعريّة التي وثّق بها توحيد السعودية ووصفه بـ«متنبّي زمانه» بالنسبة للشعر النبطي، واستشهد بالأُهزوجة المشهورة التي نظمها قُبيل وقعة الشنانة (قرب الرسّ 1904) وما تزال تُستعاد في العرضات الوطنيّة:
منّي عليكم ياهل العوجا سلام واختصّ أبو تركي عمى عين الحريب
وتعبير «العوجا» يُقصد به الدرعيّة (العاصمة الأولى للدولة السعودية) يَرِد كثيراً في الشعر النبطي وفي بعض الفصيح، و«أبو تركي» كُنية الملك عبد العزيز، فتركي أكبر أبنائه (شقيق الملك سعود) ولد عام 1900 يسمى تركي الأول، ولّاه إمارة القصيم وعمره سبعة عشر عاماً، وهو أول حاكم إداري من أبناء الملك المؤسّس يتولّى إمارة إقليم، وتوفي سنة 1919 في وباء الحمّى الإسبانيّة التي أصابت شبه الجزيرة العربيّة، وسُميت «سنة الرحمة».
وقال إنه يتذكّر في طفولته زيارة الكابتن الإنجليزي ويليام شكسبير عام 1915 قادماً من مقر عمله السياسي في الكويت، في عام معركة «جراب» التي رغب أن يحضرها فقُتل فيها (وجراب موقع شمال العاصمة على مقربة من المجمعة والزلفي) وتطرّق في المقابلة إلى علاقة نجد مع الأتراك، وإلى تأسيس السعودية في مرحلتها الثالثة المعاصرة ورجالاتها، وقصة تجريد الأحساء والقطيف من الترك، واستخلاص شمال القصيم من موالاة أمير حائل ابن رشيد،
وأتى في حديثه على ذكر بعض من عمل في معيّة الملك من أمثال عبد الله السليمان الحمدان وأخيه حمد السليمان وعبد الله المحمد الحمدان (أبو عليوي) ومحمد بن دغيثر وعبد الرحمن بن زيد ومحمد بن شلهوب وعبد الله بن نفيسة (عمعوم) وعبد الرحمن الطبيشي وإبراهيم بن جميعة وفهد بن معمّر وفيصل بن حشر ومحمد بن سحمي بن حشر (وهما من آل عاصم من قحطان) ومشاري بن بصيّص (من برية من مطير) ومهدي بيك المصلح (أول مدير للأمن العام). ومن بين من خصَهم بالذكر والإشادة بتاريخهم من القادة؛ الشريف خالد بن منصور بن لؤي العبدلي أمير الخرمة قديماً (ت 1932) ومحمد بن هندي شيخ قبيلة عتيبة آنذاك (ت 1933) والمقابلة ثريّة بمعلومات ضيفها واطّلاعه، أُتيحت قبل أسابيع على قناة اليوتيوب بعد مرور أربعين عاماً على إجرائها وحظيت بكثافة المشاهدة.
شخصيّة المقال، هو سعود بن هذلول (من فرع آل الثنيان) يتّصل مع فروع الأسرة الحاكمة في جدّها الأول سعود بن محمد بن مقرن والد مؤسس إمارة الدرعيّة (الدولة السعودية الأولى) ووالده هو هذلول بن ناصر بن ثنيان، المقتول عام 1906 في «روضة مهنّا» في منطقة القصيم، وهي معركة مبكّرة فاصلة وقعت بين أمير نجد آنذاك (الملك) عبد العزيز وأمير حائل حينئذ عبد العزيز بن متعب بن رشيد الذي تُوفّي فيها.
وُلد عام 1906 (تاريخ ولادة الملك فيصل، شريكه في الرضاعة) بُعيد مقتل والده، حضر الأواخر من غزوات حقبة التأسيس، ومنها معركتا «السبلة والدبدبة 1929» والمناوشات مع اليمن عام 1934 في عهدي الملك عبد العزيز والإمام يحيى حميد الدين، وتولّى إمارة المنطقة الشماليّة الغربيّة (تبوك ثم ينبع) في عهد الملك عبد العزيز، وإمارة منطقة القصيم في عهد الملك سعود، وتوفي عن ثمانية وسبعين عاماً ميلادياً، مخلّفاً - بحسب المؤرّخ الرويشد - ثلاثة عشر ولداً من الأبناء وعشراً من البنات.
*إعلامي وباحث سعودي


مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي يضخّ الحياة بالكتب المدرسية الجامدة

يوميات الشرق الصور الثابتة في أي كتاب مدرسي تتحوَّل نماذج تفاعلية ثلاثية البُعد (فرجينيا تك)

الذكاء الاصطناعي يضخّ الحياة بالكتب المدرسية الجامدة

طوّر فريق من الباحثين في جامعة «كولورادو بولدر» الأميركية نوعاً جديداً من الكتب المدرسية التفاعلية التي تتيح تحويل الصور الساكنة نماذجَ محاكاة ثلاثية البُعد.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «شيء مثير للاهتمام جداً» (رويترز)

نسخة نادرة من مخطوطة «الأمير الصغير» للبيع

ستُطرح نسخة نادرة من المخطوطة الأصلية لرواية «الأمير الصغير» للكاتب أنطوان دو سانت أكزوبيري، للبيع؛ وهي التي تحتوي على تصحيحات وتعليقات مكتوبة بخطّ المؤلّف.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب القوة في موازين الحياة

القوة في موازين الحياة

يسعى كتاب «لعب الأدوار بقوة» للكاتبة والباحثة الأميركية، ديبورا جرونفيلد، إلى تفكيك مفهوم «القوة»، بما له من حمولات سيكولوجية، واجتماعية، وسياسية، وإنثروبولوجية

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب «استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور

«استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور

يأخذ المفكر اللبناني مشير باسيل عون قارئه، في مؤلفه الجديد «استنطاق الصامت: مفاتحات فلسفية في الاجتماع والدين والسياسة» الصادر حديثاً عن دار «سائر المشرق»

مالك القعقور (لندن)
كتب «الحرب العراقية - الإيرانية»... تلك الحرب المجنونة!

«الحرب العراقية - الإيرانية»... تلك الحرب المجنونة!

صدر حديثاً عن «مكتبة عدنان» العراقية كتاب «الحرب العراقية - الإيرانية» لبيير رازو، الذي ترجمه إلى العربية فلاح حسن الأسدي.

«الشرق الأوسط» (بغداد)

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت
TT

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

قبل عشرين عاماً، خاض محرر في دار «بلومزبري للنشر» مخاطرة كبيرة إزاء كتاب غير عادي للغاية. فهي رواية خيالية أولى لسوزانا كلارك، تدور أحداثها في إنجلترا بالقرن التاسع عشر، وتحكي قصة ساحرين متنازعين يحاولان إحياء فنون السحر الإنجليزي المفقود. كانت المخطوطة غير المكتملة مليئة بالهوامش المعقدة التي تشبه في بعض الحالات أطروحةً أكاديميةً حول تاريخ ونظرية السحر. وكانت مؤلفة الكتاب سوزانا كلارك محررة كتب طهي وتكتب الروايات الخيالية في وقت فراغها.

أطلقت «جوناتان سترينج والسيد نوريل»، على الفور، سوزانا كلارك واحدةً من أعظم كُتاب الروايات في جيلها. ووضعها النقاد في مصاف موازٍ لكل من سي. إس. لويس وجيه. أر. أر. تولكين، وقارن البعض ذكاءها الماكر وملاحظاتها الاجتماعية الحادة بتلك التي لدى تشارلز ديكنز وجين أوستن. التهم القراء الرواية التي بِيع منها أكثر من أربعة ملايين نسخة.

تقول ألكساندرا برينغل، المحررة السابقة في «دار بلومزبري»، التي كُلفت بطباعة أولى بلغت 250 ألف نسخة: «لم أقرأ شيئاً مثل رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) في حياتي. الطريقة التي خلقت بها عالماً منفصلاً عن عالمنا ولكنه متجذر فيه تماماً كانت مقنعة تماماً ومُرسومة بدقة وحساسية شديدتين».

أعادت الرواية تشكيل مشاهد طمست الحدود مع الخيال، مما جعلها في القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» وفازت بـ«جائزة هوغو»، وهي جائزة رئيسية للخيال العلمي والفانتازيا. وبسبب نجاح الرواية، نظمت جولات لها عبر الولايات المتحدة وأوروبا، ومنحتها «دار بلومزبري» لاحقاً عقداً ضخماً لرواية ثانية.

ثم اختفت كلارك فجأة كما ظهرت. بعد فترة قصيرة من إصدار الرواية، كانت كلارك وزوجها يتناولان العشاء مع أصدقاء بالقرب من منزلهما في ديربيشاير بإنجلترا. وفي منتصف الأمسية، شعرت كلارك بالغثيان والترنح، ونهضت من الطاولة، وانهارت.

في السنوات التالية، كافحت كلارك لكي تكتب. كانت الأعراض التي تعاني منها؛ الصداع النصفي، والإرهاق، والحساسية للضوء، والضبابية، قد جعلت العمل لفترات طويلة مستحيلاً. كتبت شذرات متناثرة غير متماسكة أبداً؛ في بعض الأحيان لم تستطع إنهاء عبارة واحدة. وفي أدنى حالاتها، كانت طريحة الفراش وغارقة في الاكتئاب.

توقفت كلارك عن اعتبار نفسها كاتبة.

نقول: «تم تشخيص إصابتي لاحقاً بمتلازمة التعب المزمن. وصار عدم تصديقي أنني لا أستطيع الكتابة بعد الآن مشكلة حقيقية. لم أعتقد أن ذلك ممكن. لقد تصورت نفسي امرأة مريضة فحسب».

الآن، بعد عقدين من ظهورها الأول، تعود كلارك إلى العالم السحري لـ«سترينج ونوريل». عملها الأخير، رواية «الغابة في منتصف الشتاء»، يُركز على امرأة شابة غامضة يمكنها التحدث إلى الحيوانات والأشجار وتختفي في الغابة. تمتد الرواية إلى 60 صفحة مصورة فقط، وتبدو مقتصدة وبسيطة بشكل مخادع، وكأنها أقصوصة من أقاصيص للأطفال. لكنها أيضاً لمحة عن عالم خيالي غني لم تتوقف كلارك عن التفكير فيه منذ كتبت رواية «سترينج ونوريل».

القصة التي ترويها كلارك في رواية «الغابة في منتصف الشتاء» هي جزء من روايتها الجديدة قيد التأليف، التي تدور أحداثها في نيوكاسل المعاصرة، التي تقوم مقام عاصمة للملك الغراب، الساحر القوي والغامض الذي وصفته كلارك بأنه «جزء من عقلي الباطن». كانت مترددة في قول المزيد عن الرواية التي تعمل عليها، وحذرة من رفع التوقعات. وقالت: «لا أعرف ما إذا كنت سوف أتمكن من الوفاء بكل هذه الوعود الضمنية. أكبر شيء أكابده الآن هو مقدار الطاقة التي سأحصل عليها للكتابة اليوم».

تكتب كلارك على طريقة «الغراب» الذي يجمع الأشياء اللامعة. وتصل الصور والمشاهد من دون سابق إنذار. تدون كلارك الشذرات المتناثرة، ثم تجمعها سوياً في سردية، أو عدة سرديات. يقول كولين غرينلاند، كاتب الخيال العلمي والفانتازيا، وزوج كلارك: «إنها دائماً ما تكتب عشرات الكتب في رأسها».

غالباً ما يشعر القارئ عند قراءة رواياتها وكأنه يرى جزءاً صغيراً من عالم أكبر بكثير. حتى كلارك نفسها غير متأكدة أحياناً من القصص التي كتبتها والتي لا توجد فقط إلا في خيالها.

تقول بصوت تعلوه علامات الحيرة: «لا أتذكر ما وضعته في رواية (سترينج ونوريل) وما لم أضعه أحب القصص التي تبدو وكأنها خلفية لقصة أخرى، وكأن هناك قصة مختلفة وراء هذه القصة، ونحن نرى مجرد لمحات من تلك القصة. بطريقة ما تعتبر رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) كخلفية لقصة أخرى، لكنني لا أستطيع أن أقول إنني أعرف بالضبط ما هي تلك القصة الأخرى».

في الحوار معها، كانت كلارك، التي تبلغ من العمر 64 عاماً ولديها شعر أبيض لامع قصير، تجلس في غرفة المعيشة في كوخها الحجري الدافئ، حيث عاشت هي والسيد غرينلاند منذ ما يقرب من 20 عاماً.

ويقع منزلهما على الامتداد الرئيسي لقرية صغيرة في منطقة بيك ديستريكت في دربيشاير، على بعد خطوات قليلة من كنيسة صغيرة مبنية بالحجر، وعلى مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من حانة القرية التي يزورونها أحياناً. ويساعد هدوء الريف - حيث لا يكسر الصمت في يوم خريفي سوى زقزقة الطيور وثغاء الأغنام بين الحين والآخر - كلارك على توجيه أي طاقة تستطيع حشدها للكتابة.

في يوم رمادي رطب قليلاً في سبتمبر (أيلول)، كانت كلارك تشعر بأنها على ما يرام إلى حد ما، وكانت قد رفعت قدميها على أريكة جلدية بنية اللون؛ المكان الذي تكتب فيه أغلب أوقات الصباح. كانت تحمل في حضنها خنزيراً محشواً، مع ثعلب محشو يجاورها؛ ويلعب كل كائن من هذه المخلوقات دوراً في رواية «الغابة في منتصف الشتاء». تحب أن تمسك حيواناتها المحشوة أثناء العمل، لمساعدتها على التفكير، وكتعويذة «لدرء شيء ما لا أعرف ما هو. يفعل بعض الناس أشياء كالأطفال، ثم مع التقدم في العمر، يتخلون عن الأشياء الطفولية. أنا لست جيدة للغاية في ذلك».

نظرت إلى الخنزير وأضافت: «لا أرى حقاً جدوى في التقدم بالعمر».

ثم استطردت: «أكبر شيء يقلقني هو كم من الطاقة سأحتاج للكتابة اليوم؟».

وُلدت سوزانا كلارك في نوتنغهام عام 1959، وكانت طفولتها غير مستقرة، إذ كان والدها، وهو قس مسيحي، يغير الكنائس كل بضع سنوات، وانتقلت عائلتها ما بين شمال إنجلترا وأسكوتلندا. في منزلهم البروتستانتي، كان إظهار العواطف غير مرغوب فيه؛ ولذلك نشأت كلارك، الكبرى من بين ثلاثة أبناء، على الاعتقاد بأن التقوى تعني أنه «ليس من المفترض أن تفعل في حياتك ما يجعل منك إنساناً مميزاً»، كما تقول.

*خدمة: «نيويورك تايمز»