كاترين العظمى وتناقض الفكر والواقع

كاترين العظمى

كاترين العظمى وتناقض الفكر والواقع
TT

كاترين العظمى وتناقض الفكر والواقع

كاترين العظمى وتناقض الفكر والواقع

لا خلاف على أن الفكر دائماً ما يسبق السلوك، فهذه قاعدة علمية محسومة. والشيء نفسه ينطبق على الأديب، فالتجربة العاطفية لديه تكون المحرك الأول لقلمه، خصوصاً في الشعر. ولكن يبدو أن لهذه القاعدة بعض النماذج الشاذة في الشخصية التي تربط بين العمل الأدبي والممارسة السياسية.
والنموذج الذي يحضرني هنا هو نموذج كاترين الكبرى، إمبراطورة روسيا، التي حكمت البلاد لمدة أربع وثلاثين سنة حتى مماتها في 1796، فلقد لُقبت هذه المرأة بـ«المينيرفا» و«نجمة العلم» و«سميراميس الشمال»، إذ أثبتت أنها كانت مفكرة ومثقفة من الطراز الأول، وهي تعد من الشخصيات التي تأثرت فكرياً بحركة التنوير التي كانت تسود أوروبا في ذلك الوقت، فاعتبرها هذا التيار في بداية حكمها الأداة التي ستنقل روسيا من العصور التقليدية إلى عصر التنوير. ولكن الواقع أن هذه المرأة الأديبة والمفكرة عندما مارست السياسة، يبدو أنها تعرضت لحالة انفصام في الشخصية أو Schizophrenia، بين المفكرة والأديبة من ناحية، والسياسية أو الحاكمة من ناحية أخرى، فإذا بها تتجه لاتجاه استبدادي متشدد، بل ووحشي في مناسبات كثيرة، ضاربة عرض الحائط بمبادئها التي كانت تؤمن بها، والتي استلهمتها من عصر التنوير، والواردة في مراسلاتها مع أدباء عصرها. ولا أعتقد أن هذا السلوك المنفصم ما هو إلا نتاج لظروفها الشخصية التي فرضت عليها حلماً نظرياً لم تستطع تنفيذه عملياً، رغم مرونتها السياسية ولباقتها الفكرية.
ولكن هذا لم يكن التناقض الوحيد فيها، فهي شخصية فريدة في التاريخ الروسي. فعلى الرغم من أنها كانت ألمانية الأصل عند زواجها من ولي العهد الروسي بطرس الثالث، فإنها سرعان ما غيرت هويتها، وتقمصت الشخصية الروسية، ودبرت انقلاباً ضد زوجها القيصر، وتم إعلان الرجل ميتاً، وتولت الحكم بعدما كانت قد غيرت مذهبها من اللوثرية إلى الأرثوذكسية، وتحدثت الروسية بطلاقة، واعتنقت العادات والتقاليد الروسية.
ولكن هذه المتغيرات في شخصيتها لم تقتصر على المذهب واللغة والتقرب من الثقافة الروسية الغنية، بل امتدت لتشمل تبني الفكر الليبرالي التنويري الذي بدأ على أيدي علماء وفلاسفة يدعون إلى أهمية التركيز على الجوانب التجريبية من أجل تحصيل المعرفة، وامتد إلى كل شيء، بما في ذلك الثقافة العامة والسياسة، للخروج من الدائرة التقليدية للحكم المطلق في أوروبا. وقد وجدت كاترينا في هذا الفكر ما ارتاحت له، فاتجهت لقراءة كل الكتب والمقالات التي كانت تنتشر في أوروبا، حتى أن اهتمامها هذا أثار إعجاب التيار الليبرالي الأوروبي، فلقبوها بـ«المستبدة المستنيرة»، واعتبروها النموذج الذي يمكن أن يكون بداية لتغيير الحكم المطلق الذي كان سائداً في أوروبا، آنذاك.
لقد تميزت كاترينا عن كل نظرائها من الحكام بأنها فتحت اتصالات مباشرة مع أدباء ومفكري عصرها، خصوصاً مع الكاتب الفرنسي العظيم «فولتير»، فقد ظلت تراسله لمدة خمس عشرة سنة حتى مماته في 1778. وعندما تدهورت صحته وأوضاعه المالية، قامت بشراء مكتبته بشرط حيازته لها طوال حياته قبل أن تؤول إليها، وقد تأثرت الإمبراطورة بفكره، خصوصاً ما يتعلق بالفردية، وتطوير دور الفرد وتحريره فكرياً وثقافياً، فضلاً عن تطوير نظم وآليات الحكم بشكل يكون أكثر شمولاً وتعبيراً عن الفرد، وإطلاق الحريات، وكانت تردد هذه الأفكار في جلساتها الخاصة.
كذلك فقد نشأت علاقة قوية بينها وبين المفكر الفرنسي الكبير ديدرو، الذي كان يعد من أهم الإصلاحيين في عصره، فدعته لزيارة روسيا، ويقال إنه كان يجالسها كل يوم خلال فترة وجوده، ويتناقشا في فكر حركة «الفيلوسوف» التي كان ينتمي إليها في فرنسا، ودوره في إعداد موسوعة الفن والعلم، بل إنه عندما ضاقت ظروفه المالية قبل مماته، أمرت بنقله إلى فندق، وتكفلت بمصروفاته حتى مماته. من ناحية أخرى، فإن تأثير المفكر والقانوني الفرنسي الكبير مونتيسكيو غلب عليها بشدة، وهو ما انعكس على قرارها دعوة مجلس عموم واسع العضوية لإصلاح روسيا، وأصدرت الإطار العام لعمله، مستوحية ذلك من كتاب «روح القوانين» لمونتيسكيو.
ورغم كل هذا الفكر والقناعات الشخصية الليبرالية، فإن شيئاً لم ينتج عن هذا الاجتماع أو غيره من المحاولات الأخرى لأنها لم تكن في حقيقة الأمر على استعداد لوضع فكرها محل التنفيذ السياسي، فلقد رفضت كل محاولات تحرير الأقنان من أيدي الإقطاعيين، بل إنها فرضت تحالفاً وثيقاً بين الحكومة والإقطاع للسيطرة على مقاليد الدولة وإحكامها، كما لم تهتم بمسألة التعليم بالشكل المتوقع، وقد توسعت الأوتوقراطية في عصرها، ولم يكن هناك أي مجال لأي تنوير أو إصلاح سياسي يتوازى مع فكرها، بل إنها فرضت رقابة صارمة على الصحافة ومنعت الكتب الخارجية من دخول روسيا بعد الثورة الفرنسية، فضيقت كل الخناق على الفكر والتعبير.
إن نموذج الإمبراطورة كاترين يعكس بحق ما قاله «ديديروت» عنها، من «أنها كانت مستبدة نتيجة تدريبها والضرورة السياسية، ولكنها لم تكن مستبدة بالفطرة». ومع ذلك، فإن هذه الكلمات لا قيمة لها عملياً، فالتاريخ يُحكم عليه بالأفعال، وليس بالقناعات الشخصية لصانعيه.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟