حجازي لـ {الشرق الأوسط}: عانيت كثيرا لكني أرفض انعزال المثقف عن مجتمعه

يرى أنه بصفته شاعرا وإنسانا مسؤول عن كل شرور العالم ومن واجبه أن يتصدى لها ويهزمها

أحمد عبد المعطي حجازي
أحمد عبد المعطي حجازي
TT

حجازي لـ {الشرق الأوسط}: عانيت كثيرا لكني أرفض انعزال المثقف عن مجتمعه

أحمد عبد المعطي حجازي
أحمد عبد المعطي حجازي

في هذا الحوار، يرى الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي أنه في ظل غياب الديمقراطية غابت ثقافة العقل والعلم، واضطهد الفكر الحر، وانتشرت المتاجرة بالدين، فعانى المثقفون كثيرا ويلات ذلك، ومنهم هو شخصيا. وهو يتهم جماعة الإخوان المسلمين بأنها «اختطفت الثورة في مصر ودول الربيع العربي، واخترقت مؤسسات الدولة لممارسة فاشيتها». وحول علاقة المثقف بالسلطة، يقول حجازي إن المثقف لا ينفصل عن العالم المحيط به ولا يعيش في برج عاجي، بل ينبغي أن يقود المجتمع نحو التنوير. وشعريا، يرى حجازي أن «الشعر تراجع وأصابه الركود، وأن قصيدة النثر، لا يمكن أن تكون بديلا للكتابة الشعرية التي نعرفها».
والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي غني عن التعريف، فهو واحد من رواد الشعر الحديث، وله تجربة مبكرة في كتابة القصيدة الحديثة، وخاض من أجلها واحدة من أشهر المعارك الشعرية وهو في مقتبل العمر مع عباس محمود العقاد المعروف باستهجانه الشعر الحديث.
ولم يكن تمرد حجازي في الشعر فقط، وإنما في الفكر والثقافة والرؤية التي تبناها حول القضايا السياسية والثقافية المعاصرة، وهو ما جلب عليه متاعب كثيرة وصدامات مع بعض أنصار تيار الإسلام السياسي وصلت إلى صدور أحكام قضائية ضده. هنا نص الحوار معه:

* بداية، ما انطباعك عن لقائكم المشير السيسي أخيرا؟
- هو انطباع طيب. وقد تحدثنا معه في السياسة والثقافة... عن الديمقراطية، والحريات العامة، ودور مصر الثقافي، وكيفية النهوض بالتعليم والثقافة، ومكافحة الأمية، وضرورة تجديد الخطاب الديني. وقد استمع إلينا بكل اهتمام وشاركنا الرأي. وأذكر أنه كان لي رأي مختلف في وقت سابق عندما بدأ الحديث عن ترشح السيسي للرئاسة بعد ثورة الثلاثين من يونيو (حزيران)، وقلت وقتها إنني أفضل أن يظل السيسي بعيدا عن الحكم بصفته صاحب الشعبية الجارفة، لأنه وقف إلى جانب المصريين وحقق ما أرادوه بإسقاط حكم «الإخوان»، وعندما يصبح حاكما ربما يكون له شأن آخر. كما أنني رأيت أن رئيس مصر القادم يجب أن يكون مدنيا، لأن مصر عانت كثيرا مساوئ الحكم العسكري لعدة عقود منذ ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 وحتى عهد مبارك وما بعده خلال فترة حكم المجلس العسكري بعد ثورة يناير (كانون الثاني)، حيث خسرت مصر الكثير وتراجع دورها بشكل كبير.
* إذن، لماذا تغير موقفك؟
- تغير موقفي الآن، لأنني رأيت التفافا كبيرا من الشعب المصري حول المشير السيسي، وتزايد الإلحاح عليه بترشيح نفسه فأصبح المطلب شعبيا على ما يبدو لنا. كما أنني كنت أتوقع أن ينتهي الإرهاب في وقت سريع، لكنه ما زال يطل علينا بوجهه القبيح على يد الإرهابيين الفاشيين، مما يعني أن المشير السيسي يرشح نفسه ضد الإرهاب، ومن ثم صار الإرهاب هو منافسه. ومع ذلك، فقد قلت له خلال اللقاء الذي جمعنا به: «لا نريد حكومة دينية ولا عسكرية».
* في رأيك، ما سبب انتشار تيار الإسلام السياسي في دول الربيع العربي؟
- إذا نظرنا إلى تلك الدول التي هبت عليها رياح التغيير؛ بداية من تونس ومرورا بمصر وليبيا واليمن وسوريا، نجد أنها جميعا كانت تعاني الطغيان الذي يتناسخ فيها بصور مختلفة. وفي ظل غياب الديمقراطية، غابت ثقافة العقل والعلم، واضطهد الفكر الحر، وانتشرت المتاجرة بالدين، وسيطرت على العقول جماعات الإسلام السياسي، التي لم تكتف بالسلطة التي اختطفتها وإنما أرادت الدولة كلها. ولكي يختطفوا الدولة أصبح عليهم أن يغيروا طبيعتها ويعودوا بها إلى ما كانت عليه في عصور الظلام، كسلطة دينية يتحدثون فيها وحدهم باسم الله فلا يعارضهم أحد. وللأسف، ساعدهم على ذلك سوء الأوضاع السائدة في هذه البلدان من أمية وفقر وتخلف، ونجحوا بمساعدة طغيان الحكام بهذه البلدان في تقييد الحريات والفكر. وقد عانى المثقفون كثيرا ويلات هذه القيود، وعانيت شخصيا ذلك ورفعت ضدي قضايا من تجار بالدين. وفي فترة ما بعد إسقاط الأنظمة الفاسدة، نجح هؤلاء المتطرفون في اختطاف الثورات وتسللوا إلى سدة الحكم كما فعل «الإخوان» في مصر، واستخدموا مؤسسات الدولة التي اخترقوها لممارسة فاشيتهم، وهو ما دفع المصريين إلى توحيد الصفوف والقيام بموجة ثورية ثانية بعد ثورة يناير لإسقاط حكم «الإخوان» الإرهابي.
* كيف أثر هذا المناخ في حركة الإبداع بدول الربيع العربي؟
- بداية، لا إبداع من دون حرية. وهذه الحرية إما أن تكون دائما حرية ذاتية يتحكم فيها المبدع نفسه بقدر ما يوفر لنفسه من شروط لهذه القدرة، على أن يكون صادقا وأن يكون شجاعا في مواجهته الحقيقة، وهو ما يتطلب أن يكون المبدع مثقفا ثقافة خاصة. ثم هناك أيضا الشرط الخارجي، وهو أنه عندما أنظم القصيدة وفقا للشروط السابقة فلا بد أيضا أن تصل القصيدة للناس، ولذلك ارتبطت دائما حرية التفكير بحرية التعبير، لأنه لا جدوى من هذه الحرية الذاتية إذا لم تجد طريقا لتوصيل الحقيقة للآخر. ولكن المخاوف أثيرت مع ظهور الإسلام السياسي، الذي يتصور أصحابه أنهم لا يحكمون فقط بقانون نتفق على وضعه، وإنما بقانون سماوي لا نستطيع مناقشته، كما يعتقد أصحاب الإسلام السياسي أن فهمهم هذه القوانين الإلهية هو الفهم الوحيد، فتجد هناك من يفتش في الضمائر ويفسر العمل على طريقته وفق تفكيره، ومن ثم فلا مجال للحرية التي يتطلبها الإبداع.
* من المعروف أن الثورات كانت دائما عبر التاريخ ملهمة للشعراء ولكل المبدعين، فهل تشعر بالرضا عن مستوى الأعمال المعبرة عن ثورات الربيع العربي أو المستلهمة منها؟
- فكرة الرضا الكامل غير واردة، فدائما هناك بحث عن الأفضل، لكن هناك إسهامات طيبة من البعض، وإن كان يجب علينا ألا نتعجل، لأن المسألة تستغرق وقتا طويلا لتكتمل الرؤية وتتجسد في تجربة إبداعية، خاصة أن الأحداث متسارعة بعد أن عشنا موجتين ثوريتين في فترة زمنية قصيرة.
* هناك من يقول إن دولة الشعر قد سقطت مع هبوب رياح الربيع العربي، حيث توارى الشعر خلف الحدث الثوري. فما رأيك؟
- الشعر لم يسقط، لكنه تراجع. وهناك أسباب لهذا التراجع؛ أهمها تدني مستوى التعليم، فقد كنا نكتب بالفصحى ونتعلم الشعر جيدا في الكتاتيب. وعن نفسي، فقد التحقت بالكتاب في سن الرابعة، وعندما بلغت السابعة من عمري كنت قد حفظت القرآن، وفي السابعة عشرة ختمت حفظه ولا أزال أحفظ منه حتى اليوم، وكان أساتذتي في المدارس الأولية يتعلمون اللغة العربية في الأزهر ويحفظون أشعارا ومقالات. لكن الملاحظ أن وضع اللغة العربية لمن يستخدمها في الإبداع اليوم ليس كما نحب، ويمكن وصف الوضع العام بالركود.
* هل ما زلت على رأيك أن الثقافة في مصر ليست بخير؟ وهل كان للسياسة تأثير في ضعف الدور الثقافي، أم أن الثقافة صاحبة التأثير الأقوى على السياسة؟
- لا شك في أن مصر شهدت حركات تنوير رائدة وكبرى، تمثلت في ظهور رموز وأعلام في الفكر والثقافة عبر التاريخ، وهو ما أسهم بشكل إيجابي في الفكر العربي كله. ولكن الطغيان ومصادرة الحريات أثرا سلبا في هذه الحركة، وهو ما أسهم في تراجع الثقافة المصرية خلال العقود الماضية، فمصر التي كان بها أكثر من 25 مجلة أدبية في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات لم يعد بها الآن سوى عدة مجلات أدبية متعثرة، وهو أمر يتعلق بطبيعة المرحلة السياسية التي أثرت بالسلب في الدور الثقافي المصري خلال العقود الستة الماضية. وفي ثورتي يناير و30 يونيو، صنعت الفطرة المصرية معجزة كبيرة في موجتين ثوريتين متتابعتين. لكن الثقافة السائدة الآن ليست هذه الفطرة، فنحن أمام ثقافة ظلامية ظلت تنمو لتزيح ثقافة النهضة والتنوير، لتظهر بشكل مأسوي في الشارع، وقد انتشرت هذه الثقافة في أنحاء مصر متأثرة كلها بأفكار حسن البنا وسيد قطب، وبدت بكل وضوح في أعمال العنف والتفجير والإرهاب بالجامعات وفي كل مكان.
* في ظل اهتمامك الشديد بالسياسة، كيف ترى العلاقة المثلى للمبدع أو المثقف مع السياسة والسلطة؟ بمعنى: هل يقترب منها أم ينأى عنها وينجو بنفسه منها؟
- الاهتمام بالسياسة لا يعني الانخراط في ممارسة العمل السياسي، والمثقف لا ينفصل عن العالم المحيط به ولا يعيش في برج عاجي، بل يقود الرأي والمجتمع نحو التنوير. كما أن هناك علاقة وثيقة بين الثقافة والديمقراطية، فحينما تغيب الثقافة تغيب الديمقراطية. ومن ثم، فاهتمامي بالسياسة أمر طبيعي وجزء مهم من رسالتي بصفتي مفكرا ومشاركا الرأي، وهذا لا يعني أن أعمل بالسياسة أو أمارسها، فلها أهلها ونأسها. ولكني أرى أن المثقف لا يقف معزولا عما يحدث حوله، وعليه أن يدافع عن حماية حقه الكامل في التفكير والتعبير بحرية، لأن الحرية هي الشرط الجوهري للتفكير والإبداع. وفي ظل عصور الطغيان والديكتاتوريات وكبت الحريات الماضية، جرى إهمال دور الثقافة والمثقفين، فكان المثقف خادما للسلطة، وهو ما نجني ثماره الآن؛ من ظهور أجيال من المتطرفين وممارسي العنف والقتل من أنصار الجماعة الفاشية. ومن ثم، لا بد للمثقفين والمبدعين أن يقوموا بدورهم في التوعية والتنوير.
* لماذا قلت في كتابك عن قصيدة النثر التي سميتها «القصيدة الخرساء»، إنها تتغذى من ذراعين مسمومتين؛ هما انهيار اللغة وتراجع الشعور بالانتماء؟ وهل ما زلت ترى أنها فشلت في إقناعنا بأنها شعر؟
- أولا، أنا عندما أتحدث عن قصيدة النثر، فإنني أتحدث عن ظاهرة ولا أتحدث عن أشخاص بالذات. فلا شك في أن هناك شعراء مجيدين كتبوا في هذا الشكل، لكنهم ورود نادرة في شوك كثير. ولا شك في أن هناك شعرا حقيقيا في قصيدة النثر، لكنه محدود، والجانب الأكبر من هذا الإنتاج يحتاج لأن نقف أمامه ونسأل: ما الذي أضافه؟! فأنا أعتقد، من الناحية النظرية، أن الوزن ضروري للشعر، وأن الموسيقى ركن أساسي في القصيدة ولا يمكن لها أن تتحرر من لغة الحياة اليومية إلى لغتها الشعرية إلا بهذين الركنين: المجاز والموسيقى. وعندما نتحدث عن الموسيقى، فلا بد أن نتحدث عن الإيقاع، والإيقاع يتحقق أكثر ما يتحقق في الوزن. ورغم طول زمن تجربة قصيدة النثر، فإنها لم تستطع حتى اللحظة أن تتوطن لأني أسأل القراء من الجمهور العادي، فلا أجدهم يشعرون بهذا الشعور الذي يحدثنا عنه من يتلقون الشعر الموزون، كما أنني أقرأ ما يكتبه النقاد عن قصيدة النثر، فلا أجدهم يضيفون شيئا. وإذا قبلناها نقبلها فقط كصورة من صور الكتابة الشعرية، لا أن تكون بديلا للكتابة الشعرية التي نعرفها.
* ما سر نزوعك إلى التمرد في أعمالك الشعرية منذ ديوانك الأول «مدينة بلا قلب»؟
- عندما يكتب الشاعر فإنه يبحث عن اليوتوبيا أو مدينته الفاضلة التي يتمناها على أرض الواقع، ومن ثم فإنه يكتب انطلاقا من نقطة تمرده على الأمر الحال، مبشرا بالأفضل من وجهة نظره. لقد بنى الإنسان مدنا ضخمة وصنع حضارة شامخة، فيها علم كبير وليس فيها حب. فيها عقل وليس فيها قلب.
* «سفر».. «العودة من المنفى».. «غربة».. عناوين لبعض أعمالك. فإلى أي مدى تأثرت بصفتك شاعرا بالغربة، وهل كان تأثيرها بالسلب أم الإيجاب؟
- لا أنكر فضل السفر على رحلتي الشعرية والحياتية، خاصة أنني عشت في الغربة سنوات طويلة، لكنها لم تكن غربة بمعنى المنفى، لأني صاحب اختيار مكان السفر، فصار مرشحا لأن يكون وطنا، فحدث التناغم الذي فجر كل طاقات الإبداع الشعري الداخلية، كما أنني لم أجد في العالم كله مدينة تنافس باريس في الثقافة، وهي مدينة لكل البشر تزخر بالمبدعين من مختلف الأنحاء. وأذكر أني حين قررت السفر لفرنسا لم يكن ببالي أن أقضي 17 سنة من عمري فيها، فقد سافرت في البداية على أساس الإقامة لمدة ستة أشهر فقط، لكني فوجئت بأن إقامتي قد امتدت لهذا العمر بعد أن تسبب مقال عني بجريدة الـ«لوموند» الشهيرة للكاتب المغربي الطاهر بن جلون في قلب حياتي رأسا على عقب، حيث لفت الأنظار لي، وقمت بعدها مباشرة بالتدريس بجامعة باريس.
* «الشعر رفيقي».. عنوان لأحد كتبك الشهيرة. فهل حقا ما زال الشعر رفيق الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي أم خطفته السياسة من عالم الشعر؟
- أولا الشعر دائما رفيقي، سواء كان شعري أو أشعار غيري، فأنا أقرأ الشعر باستمرار، وهو صرختنا الأخيرة في وجه الظلم والوحشة والطغيان والإرهاب. ولكنك محقة في أن اهتمامي، بصفتي مفكرا، بالسياسة خطفني من الشعر، وربما يحتاج الشعر لتفرغ أكبر، خاصة بعد أن أصبح لدي التزام بالكتابة الصحافية في جريدة «الأهرام» منذ رحيل توفيق الحكيم، حيث أصبح مقالي ينشر في نفس مكان مقالته قبل رحيله. وأذكر أنني كنت أكتب في الماضي كهاو وسط مجموعة من العمالقة في «روز اليوسف» مع التفرغ للشعر بشكل أساسي، ولكن هناك مراحل بالذات لا يستطيع الإنسان فيها أن ينعم بهذه العزلة مع كتابة الشعر، وهي المراحل التي يحس بها الإنسان الشاعر بأنه لا أحد يحل محله للأسف، وأنه مطالب أخلاقيا بالكتابة في الشؤون العامة. وأنا الآن أكتب مقالي الأسبوعي لجريدة «الأهرام» القاهرية يوم الأربعاء، وأعتقد أني أؤدي واجبا في هذه المقالة.
* حصلت على جوائز أدبية رفيعة مصرية ودولية. ماذا تعني الجائزة للمبدع؟ وما رأيك فيما يثار حول شبهة المجاملة في منح هذه الجوائز في بعض الأحيان؟
- بالفعل، هناك مجاملات في منح بعض الجوائز لمن لا يستحق وحرمان من يستحقها منها، وتلعب السياسة والمجاملة والعلاقات الشخصية والمصالح المادية دورا كبيرا في دفع الشخص الذي يعطي صوته لمن لا يستحق في بعض الأحيان، لكنه في النهاية يخسر نفسه. ومن حسن حظي أني كنت أول من حصل على جائزة «كفافيس»، كما كنت خامس أفريقي وأول شاعر عربي يفوز بجائزة «شعر القارة الأفريقية». وحصلت أخيرا على أرفع جائزة مصرية وهي «جائزة النيل» التي تمثل لي قيمة كبيرة، خاصة أنني حصلت عليها بعد الثورة المصرية.
* «لم يبق لي إلا الاعتراف».. كان أحد دواوينك الشعرية الشهيرة. فبماذا تعترف؟ ولمن بعد هذه التجربة الشعرية الطويلة؟
- أعترف أمام نفسي؛ أولا، بأني مسؤول عن كل الشرور التي تقع في العالم وعلي أن أتصدى لها وأن أهزمها.



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.