لا يتوقف رنين هاتف الدكتور علي الأحول، رئيس مجلس إدارة جمعية الأخوَّة الليبية الاجتماعية الثقافية بمصر. وتيرة الاتصالات تزداد مع اقتراب بداية العام الدراسي من كل سنة. فمشاكل الدارسين الليبيين في مصر كثيرة، وتتجه إلى التعقيد كلما طالت مدة انتظار مئات ألوف المهجَّرين من ليبيا إلى عديد المدن المصرية. ومن أهم المشاكل التي تواجه الطلاب الليبيين في مصر، تجديد الإقامة للدارسين وأسرهم، والبحث عن مقاعد شاغرة في المدارس والجامعات، وإيجاد الأموال اللازمة لسداد مصاريف الدراسة التي ترتفع قيمتها سنة وراء سنة.
عوائق مادية
في مقابلة مع «الشرق الأوسط»، يقول الدكتور الأحول، الذي يقيم في شرق القاهرة منذ خروجه من ليبيا، بعد سقوط النظام السابق في أواخر عام 2011، حيث كان في ذلك الوقت منسقا عاما لملتقى القبائل والمدن الليبية: «اليوم نواجه معضلة كبيرة في مسيرة تعليم مئات الألوف من الطلاب الليبيين. هؤلاء يفترض أن تتاح لهم الدراسة بمصر دون رسوم؛ لأن قيمتها أصبحت كبيرة جدا، وتفوق قدرة هؤلاء الدارسين وأسرهم». ويضيف: «مصروفات الدراسة في الجامعة بآلاف الدولارات، ولا توجد إمكانية».
وفي وسط تجمع يضم عشرات عدة من الطلاب الليبيين الباحثين عن مخرج لتأمين مستقبلهم في الدراسة، يوضح الطالب محمود حسن: «لا أريد أن أقول إن ألف دولار يمكن أن تغير مسيرة حياتك. الواقع أنه يمكن فقط لمائة دولارات أن تضعك على الطريق الصحيح، أو تخرج بك إلى منعطف خطر». ويدرس محمود في الفرقة الثالثة في إحدى الجامعات الخاصة بمصر، ويحاول جمع أموال لشقيقه لاستكمال دراسته الجامعية.
ويزيد موضحا عقب اجتماع بين ممثل للطلاب الليبيين في مصر، ووزير التعليم الليبي (في حكومة فايز السراج)، عثمان عبد الجليل، إن «تأخر التحويلات المالية من ليبيا، وعدم وصول منح التعليم الخاصة بالدارسين الليبيين في مصر، تعد من القضايا التي أصبحت تهدد المسيرة التعليمية للطلاب هنا».
إهمال للمناهج
في الأعوام الثلاثة التي أعقبت سقوط نظام معمر القذافي، كان الجدل يدور حول طرق تنقيح مناهج التعليم، وحذف ما يعتقد البعض أنه كان ذا طبيعة سياسية تتعلق بمحاباة وتمجيد النظام السابق، إلا أن الاهتمام بقضية المناهج تراجع إلى الوراء، بعد أن طفت على السطح مشاكل أكبر تتعلق بمسيرة التعليم نفسها، وقدرتها على الاستمرار في دولة يتقاسم السلطة فيها ثلاث حكومات، وقوى أخرى، وتعاني انقساما في المؤسسات، وبخاصة المؤسسة المالية المنوط بها توفير الأموال اللازمة من أجل انتظام الطلاب في الدراسة سواء داخل ليبيا أو خارجها.
وقبل أسابيع قليلة من بداية العام الدراسي المنتظر، استعرض رئيس اتحاد الطلاب الليبيين في مصر، أصيل الجويفي، هذه المعضلة مع الوزير عثمان، ضمن عديد المشاكل الأخرى التي يعانيها أبناء الليبيين، حيث يقدر عدد الأسر الليبية التي فرت من الفوضى في بلادها، إلى مدن مصرية عدة، بمئات الألوف. ولم يقتصر الاجتماع على شرح الجويفي للعراقيل التي يمر بها الدارسون بسبب نقص الأموال، وصعوبة التحويلات المالية من المصارف الليبية إلى نظيرتها في مصر، ولكن الجويفي تطرق كذلك إلى قضايا أخرى، من بينها مشكلة تجديد الإقامة بمصر.
ويقول الدكتور الأحول، إن العراقيل التي يوجهها التلاميذ والطلاب الليبيون، من الصفوف الابتدائية إلى الجامعة، تعد بمثابة كارثة. هذا له تأثير سيئ على مستقبل الليبيين. تخيل جيلا كاملا غير قادر، معظمه، على الانتظام في الدراسة... «شبابنا في سن المراهقة، والانقطاع عن الدراسة يؤدي إلى فراغ قاتل. الحقيقة المُرَّة تتلخص في أنه لم تعد توجد إمكانية للدراسة».
قضايا الإقامة
لم يتمكن الشقيق الأصغر لمحمود، ويدعى جمعة، من تقديم الأوراق التي تخول له الانتقال من المرحلة الثانوية إلى الجامعة، بسبب عدم وجود أموال. ونزحت أسرة هذين الشابين من بنغازي بسبب الحرب بين الجيش والمتطرفين. واستأجرت شقة في ضاحية فيصل في غرب القاهرة. ويعمل الشابان في مقهى يديره ليبي في ضاحية الهرم القريبة، لإعالة والديهما العجوزين وشقيقتيهما.
ولأسباب محلية في القاهرة، تتعلق بنظام تحصيل الرسوم الدراسية من غير المصريين، يجد الليبيون صعوبة في توفير المقابل المالي للدراسة، ولا سيما في مدارس القطاع الخاص وجامعاته، والتي تشترط سداد آلاف الدولارات من أجل قبول الطالب للدراسة فيها. ويقول محمد، إن شقيقه جمعة لم يتمكن من تقديم أوراق نجاحه في الثانوية لجامعة من الجامعات الحكومية، الأقل كلفة، والسبب يرجع إلى أن مدة الإقامة القانونية للأسرة بأكملها، على الأراضي المصرية، انتهت منذ أكثر من عامين. ويضيف، أن أوراق الإقامة شرط من شروط التقديم. «إذا أردت تجديد الإقامة لي ولأسرتي فلا بد أن أسدد كل المتأخرات المالية للإقامة... هذا فوق طاقتنا».
ولحل مشكلة التعليم الأساسي على الأقل، تسعى سلطات طرابلس لفتح ثلاث مدارس عامة ليبية، في بعض المدن المصرية التي يكثر فيها الليبيون، حيث تقول مصادر في الحكومة إن الليبيين يتركز وجودهم في أربع مناطق بمصر، هي «مدينة نصر (شرق القاهرة)»، و«الرحاب (في القاهرة الجديدة)»، و«السادس من أكتوبر (غرب العاصمة)»، و«الإسكندرية (في شمال غربي البلاد)».
مدارس ليبية في مصر
الهدف من تخصيص مدارس ليبية عامة في مصر، هو محاولة استيعاب الأعداد المتزايدة من الدارسين، بدلا من اعتمادهم على المدارس الخاصة باهظة التكاليف، والتي تبدأ مصاريف الدراسة في بعضها، للطالب الواحد، إلى نحو 2600 دولار وتزيد إلى نحو 7000 دولار في السنة. ويقول أحد أولياء الأمور وهو ينتظر دوره لتقديم أوراق ابنه في مدرسة مصرية خاصة تتعامل مع الطلاب الليبيين: «في الحقيقة، وحتى وقت قريب، كانت المصاريف الدراسة لا تزيد على ألفي دولار في السنة، وتشمل المواصلات وثمن الزي المدرسي الموحد، لطلاب المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، وكانت وقتها تعد مبالغ كبيرة، إلا أنها زادت أخيرا لتصل في بعض المدارس الخاصة إلى نحو سبعة آلاف دولار».
وقامت سلطات طرابلس أيضا بتوجيه البعثة الدبلوماسية الليبية في القاهرة لحل مشاكل أخرى، من بينها تجديد جوازات السفر مجاناً، وتحصيل تأشيرات الدخول لمصر، وتصريح بالإقامة للمهجرَّين والنازحين. وأكثر الدارسين الليبيين هم في مرحلتي التعليم الإعدادية والثانوية.
ولأسباب يعود معظمها إلى تعدد ولاءات أفراد البعثة الدبلوماسية للحكومات الليبية المنقسمة على نفسها، زادت الصعوبات هذه الأيام، أكثر من السابق، بشأن تنظيم عملية الدراسة لليبيين في مصر. ولم يتمكن فرع من فروع إحدى المدارس الليبية الخاصة من استقبال أكثر من ألف طالب وطالبة، واضطر الفرع إلى فتح باب الانتساب، أي الدراسة من المنزل، وبمصاريف أيضا، وإن كانت بمصاريف أقل... وفي إحدى المرات حدثت انفراجة للطلاب حين قرر الجانب الدبلوماسي الليبي الموالي لمجلس النواب في القاهرة سداد مستحقات الدارسين ومديونياتهم في مصر، لكن مثل هذا الإجراء لا يتكرر كثيرا، ثم إنه غير مضمون.
تباينات في المواد المدرسة
في أول عام دراسي عقب سقوط نظام القذافي، كان الجدل يدور حول تعديل المناهج، وحذف كل ما يشير إلى العهد السابق، وبخاصة مناهج التاريخ والأدب. لكن يبدو أن هذا الموضوع عاد إلى ذيل الاهتمامات، مقارنة بالمشاكل التي أصبحت تهدد منظومة التعليم ككل. ومع ذلك، ما زال يمكن سماع أصوات ترفض الزج، في الكتب الدراسية، باسم ثورة 17 فبراير (شباط) التي أطاحت القذافي. ويمكن ملاحظة أن بعض الكتب لم تعد تتطرق إلى ثورة 2011؛ لما تسببت فيه من فوضى شردت ألوف الليبيين وحرمتهم من كثير المميزات، وبخاصة انتظام التعليم.
وحرصت بعض مقدمات الكتب الدراسية، في الفترة الأخيرة، على حصر موضوع المقدمة عن منهج الكتاب، دون خوض في الشعارات السياسية، على عكس ما كان يحدث في عامي 2011 و2012، وتقول مقدمة كتاب الأدب للصفوف الثانوية: «هذا كتاب صنفناه في البلاغة والأدب والنصوص، في العصرين العباسي والأندلسي، نقدمه بين أيدي إخواننا المعلمين، وأبنائنا الطلبة، حاولنا من خلاله التعريف ببعض المصطلحات البلاغية، والأساليب الأدبية الرفيعة؛ رغبة منا في أن يدرك الطلاب محاسن العربية، ويلمحوا ما في أساليبها من جلال وجمال، وأن يتدبروا من أفانين القول وضروب التعبير؛ ما يهب لهم نعمة الذوق الرفيع».
بينما هناك كتب دراسية ما زالت تحرص على الإشارة إلى «ثورة فبراير»، ما يسببه ذلك من غضب لدى أنصار النظام السابق، ومنها ما ورد في مقدمة كتاب الأحياء للصف الثالث الثانوي، والتي جاء فيها أن ثورة 17 فبراير «وجَّهت في أكثر من مناسبة بتطوير المناهج التعليمية والخروج بها من كهوف الجبرية والتلقين، إلى فضاءات التفكير والاستقراء والاكتشاف». ويقول والد أحد طلاب الصف الثاني الثانوي الذي يدرس في جامعة خاصة في مدينة نصر، ويعد من أنصار نظام القذافي: التعلم، تعليم... لا نريد خلط هذه العملية بالسياسة.
ويحاول القائمون على التعليم، ورغم الإمكانات الضعيفة، الالتفات إلى متغيرات مهمة، على رأسها الإرهاب والتطرف، الذي اكتوى منه الليبيون خلال السنوات الأخيرة. ولهذا يسعى المطورون وفقا لمصادر حكومية إلى إضافة مواد دراسية في المناهج من شأنها مواجهة الفكر المتشدد، والاستفادة من الإنترنت في نشر الدراسة عبر الفضاء الإلكتروني.
عزوف عن مقاعد الدراسة
وفقاً لشهادات من أولياء أمور تلاميذ وطلاب ليبيين، فإن هناك ألوف الأطفال لم يتمكنوا من الانتظام في الدراسة منذ عام 2011 حتى اليوم. ومنهم من كان في المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية، ولم يكملوا الدراسة طوال السنوات الست الأخيرة. وأصبح الدارسون الليبيون بين نيران الفوضى في الداخل ونقص الأموال والإمكانات في الخارج. ففي الداخل الليبي وصل عدد المدارس المتضررة من الاقتتال الأهلي إلى نحو 4 آلاف مدرسة، وفي الخارج لا توجد أموال تكفي للعملية التعليمية.
ومن المعروف أن المدارس الحكومية المصرية لا تقبل الدارسين الأجانب في التعليم الأساسي إلا وفقا لشروط صارمة لا تتوفر لدى غالبية الليبيين. أما بالنسبة للدراسة الجامعية، فإن أكثر الجهات تيسيرا على الطلاب الليبيين هي جامعة الأزهر، حيث تكتفي بتحصيل رسوم رمزية من الدارسين، إلا أن غالبية الليبيين لا يفضلون الدراسة في الأزهر، ويبحثون عن جامعات للتخصص في دراسة البترول أو القانون أو الاقتصاد والعلوم السياسية.