استهلال عن داود باشا وتصدير لأنستاس الكرملي

مقتطف من {شعراء بغداد وكتابها}

استهلال عن داود باشا وتصدير لأنستاس الكرملي
TT

استهلال عن داود باشا وتصدير لأنستاس الكرملي

استهلال عن داود باشا وتصدير لأنستاس الكرملي

يصدر قريبا كتاب «بغداد وشعراؤها» عن دار «الوراق» ببيروت. وقد وجد مخطوطاً عند محمود شكري الآلوسي، وهو من أشهر مشاهير علماء بغداد. وبقي مخطوطاً مدة تنوف على نحو 20 سنة. والكتاب يترجم لسير الشعراء خلال فترة داود باشا (1767 - 1851)، وهو آخر ولاة المماليك. وننشر هنا جزءا من مقدمة وتصدير العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي، والمراسلات بينه وبين نعوم سركيس فيما يتعلق بمؤلف المخطوط الفعلي، وما إذا كان معرباً أم موضوعاً
«توالت المحن على العراق، ولا سيّما على بغداد، في المائة الثامنة عشرة للميلاد. ومما زاد الطين بلّة، أن شوكة الترك صلبت وخشنت، وتمكنت لغتهم من البلاد، وأصبح أكثرهم ينطقون بهذه اللغة. وما بقي من الأهالي، كانوا يتراطنون؛ إذ أصبح لسانهم خليطاً من ألفاظ مختلفة الأصول؛ من عربية، وتركية، وفارسية، وكردية، وإيطالية. فقيّض الله حينئذٍ لدار السلام، رجلا عظيماً، أعاد إليها بعض الحياة الأدبية، وهو الذي اشتهر بعد ذلك باسم «داود باشا».
كان هذا الرجل، كرجيّاً نصرانيّاً، ولد في تفليس في نحو سنة 1190هـ - 1776م، فسرق من أهله صغيراً، وأُتي به إلى بغداد، فاشتراه واليها سليمان باشا. وكان حسن الصورة، ذكيّاً، خفيف الروح، ترى عليه مخايل النبوغ. فعني مولاه بتهذيبه، وتعليمه جميع العلوم المعروفة يومئذٍ، من عقلية ونقلية، حتى اتجهت إليه الأنظار من كلِّ أديب، وفاضل، وعالم.
فلما رأى مولاه أنه ضليع بما يعهد إليه، عيّنه في المناصب الواحد بعد الآخر، حتى أصبح دفتر دار بغداد. وهو من المناصب التي كان يحسد عليها صاحبها.
ولما عيّن سعيد باشا ابن سليمان باشا، والياً لبغداد، انهزم من العاصمة، لعدم اتفاقه مع ابن مولاه، ثم عاد إلى الزوراء لما وقع الوئام بينهما. ولما قتل سعيد باشا المذكور، أصبح داود باشا والياً للعراق كله.
وكان الولاة يومئذٍ في هذه الديار، مستبدين بحكمهم، مستقلين بإدارتهم، لبعد هذه الربوع عن العاصمة الكبرى، ولصعوبة المراجعة بين الولاة والسلاطين.
فلما رأى الخاقان محمود خان أن الوزير ينقاد لأهواء نفسه، مصراً على الجماح، والمضي في ركوب رأسه، أنفذ إلى العراق الوزير علي رضا باشا والياً عاماً، فحاصر هذا ذاك وحاربه في سنة 1246هـ - 1830م في إبان الطاعون الجارف للخلائق، وفي وقت طغيان دجلة، وغرق بعض محلات بغداد.
فلما رأى كبار بغداد الهول الذي يهددهم فتحوا لعسكر علي رضا باشا، باب البلدة المسمى بالباب الشرقي، ودخل عسكره، واستولى على البلدة، وتمكن من إرسال داود باشا إلى دار الخلافة، فنفي إلى بعض البلاد، ثم عفا عنه السلطان، وأرسله إلى المدينة، مجاوراً لها، وشيخا لحرمها، فتوفي ثمَّ في سنة 1267هـ - 1851م.
وكان داود باشا عمّر مساجد، وجوامع، وأسواقاً، ومن جملة تلك الآثار الباقية إلى اليوم، الجامع المشهور بـ(الحيدر خانة) وهو آية من آي البناء العربي. وكانت أمه سمعت بمبانيه فكانت تبني في تفليس بيعاً وديارات بعدما كانت تسمع عن أبنية ابنها. وكان داود باشا لا يتحرج عن القتل والفتك سياسة ومصادرة بعض المتمولين. وبالجملة كان عالم الوزراء ووزير العلماء، وفي أيامه اشتهر العلماء الذين ورد ذكر أسمائهم هنا. فكان الوزير أول من وضع الحجر الأول في إعادة بناء صرح الأدب في العراق الحديث، وعسى أن يمتد هذا الصرح إلى عنان السماء، وتقوى أُسسه على مدى الدهر، وهو المنتظر منه تعالى.
الأب أنستاس ماري الكرملي
- تصدير
وجدنا هذا الكتيب عند حضرة صاحب الفضيلة والعرفان السيد محمود شكري الآلوسي، من أشهر مشاهير علماء بغداد صاحب التآليف الجليلة الكثيرة. فاستأذناه في نسخه فأذن لنا بذلك، وبقي مخطوطاً في خزانتنا مدة تنيف على نحو عشرين سنة. ولما أصدرنا جريدة (العرب) في أيام الاحتلال البريطاني، استشرنا الأستاذ الآلوسي في نشره فلم ير بأساً في ذلك، إلا أنه زاد في الأمر أنه قال لنا: (لو تصلح عبارته لساغت مطالعته)، فأقدمنا على تنقيح ما فيه من العبارات العامية تحقيقاً لأمنية الأستاذ - رحمه الله-.
بَيْدَ أن ناشري الكتب في عصرنا هذا قد جنحوا إلى استبقاء كتب عصر انحطاط العربية بنصها، إذا ما أريد طبعها لتبقى بحلتها الأصلية ولا تلبس برداً غير ما أُلبست. فالأستاذ يعقوب أفندي نعوم سركيس يعرف أني أنا الذي حاولت تغيير لبسة المؤلف. لكنه لم يرد أن يصرح بكلامه تأدباً وتلطفاً منه. وهذا ما يظهر للقارئ عند وقوفه على جميع ملاحظاته. وعملاً بفكره، أبقينا النص ببردته وعدلنا عن فكر الأستاذ الآلوسي.
الأب أنستاس ماري الكرملي»
- رسالة الأستاذ نعوم سركيس إلى الأب الكرملي
من بغداد في 25 تشرين الأول 1935 وإليها
«حضرة العلامة الأب الجليل أنستاس ماري الكرملي المحترم:
تحيات واحتراماً جزيلاً، أعيد إليكم المخطوط الذي تكرمتم بإعارته إياي وهو المعنون في صفحته الأولى: «شعراء بغداد وكتّابها» (وهذه الكلمة بخطكم. ولنا أن نضيف إليها: «وعلمائها» فإنه قد ترجم بعضهم) في أيام المرحوم داود باشا في حدود سنة 1200هـ - 6 - 1785م إلى سنة 1246هـ -1 - 1830م تأليف الفاضل، والنبيه الكامل عبد القادر أفندي الخطيبي الشهرباني. هذا وإني لأُبدي لحضرتكم الشكر على هذه المنّة وهي ليست الأولى من نوعها فقد سبقتها عشرات.
إن طلبي من حضرتكم إعارة هذا المخطوط - كما تعلمون - هو أنني لما كنت سمعت منكم أن الذي نشر في صحيفة (العرب)، (البغدادية)، في سنة 1917م هو قسم منه، وقد كنت أظن قبل ذلك أنه لم يبق منه شيء غير منشور؛ إذ إن الترجمة المرقمة بعدد 34 الواردة في تلك الصحيفة في عددها المؤرخ في 17 تشرين الأول 1917م ليست بمختومة بكلمة تدل على بقاء باقية منه، فكان غرضي من استعارته الوقوف على التراجم غير المنشورة ليس إلا، بَيْدَ أنه بعد اطلاعي عليه بانت لي فيه مغامز، فرأيت أن أفصح عنها في هذه العجالة. وقد يفوتني شيء من ذلك.
وقد بدا لي أن التراجم غير المنشورة تسع عشرة، وأن الترجمتين الأولى والثانية، وهما ترجمة عبد القادر وداود باشا، ليستا من الأصل الذي لا بدّ أنه كان بالتركية - ولا من تعريب عبد القادر، إن صح أن التعريب له، كما سيجيء، لأن في صدر ترجمته هذا العنوان: (مترجم التذكرة). ويتصدر ترجمة داود باشا قوله: (ترجمة المرحوم داود باشا)، بينما التراجم التي تليهما تتصدرها كلمة (مبحث). وفضلاً عن ذلك، فقد ذكرت ترجمة عبد القادر وفاته مما لا يبقي ريباً فيما قلته.
اعتمدت (العرب) على اسم الكتاب ومؤلفه المدونين في صفحته الأولى، بينما أن الحقيقة تخالف ما جاء فيها عن اسم المؤلف، ولا توافق مضمونه الموافقة التامة كما سيرد. ولا بدّ من (أن) نسبة الكتاب في عنوانه إلى عبد القادر من خطأ النساخ وأشباههم، فإن ترجمته الواردة في أوله ترينا أنه معرب، ولي في ذلك أيضاً شكّ. وإذا رجعنا إلى الكتاب نفسه نجد جملاً وتراجم أُقحمت في الأصل أو في التعريب، فيتبادر إلى البال أن نسخة إما كان فيها حواشٍ فأدخلها المتن من نسخ عليها، فاختلط الحابل بالنابل، فضلاً عن الغلط في نسبة تأليف الكتاب في عنوانه إلى عبد القادر، وسيرد الكلام على ذلك والتحقيق عن المعرب.
لا غرو أن هذا الكتاب ركيك العبارة، كثير الأغلاط الصرفية، والنحوية وغيرها. ومن هذه الأغلاط ما هو للمعرب وما هو للنساخ على ما يلوح لي. وإذ كان ذوق ناشر التراجم في «العرب» يمج ذلك، بدا له أن يقوّم عبارات الكتاب بعض التقويم، فوافق وقوعه في بعض السهو المخل بالمعنى. من ذلك أنه جاء في «العرب» في ترجمة عبد القادر في الكلام على هذا الكتاب قوله: «وضع في ذلك العهد كتابه المذكور» بينما المخطوط يقول: «فبذلك الأثناء ترجم تذكرة الشعراء...» والفرق بين الكلامين - في مثل هذه الحال – ظاهر، فإنه من الواضح أن عبد القادر لم يكن مؤلفاً، وربما كان مترجماً، بمعنى معرِّب لا مترجم رجال، ولنا شواهد أخرى على ذلك كما سيأتي.
الأدلة على أن تأليف الأصل ليس لعبد القادر:
الجملة التي أوردناها آنفاً وفيها أنه مترجم بمعنى معرب.
جاء في المخطوط كذلك في ترجمة عبد القادر قوله: «مترجم التذكرة اسمه عبد القادر....».
وجاء كذلك في المخطوط قوله: «مبحث منلا مختار أفندي... أن المومى إليه والد عبد القادر أفندي المترجم الذي سلف ذكره في الأول...» قلت: لو كان الأصل لعبد القادر. لقال: «والدي» ولما اكتفى - على ما أظن - بترجمته ترجمة مقتضبة قوامها ثلاثة أسطر فقط. ولذكره بصيغة المتكلم كما ورد في مبحث الفاضل نائب بكتاش، ومبحث السيد علي البندنيجي، ومبحث صالح النجار، إذ قال المؤلف: «والدي». وإذ تقول ترجمة عبد القادر: إن التعريب له، دون أن تنسب إليه الأصل، فهذا الوالد الوارد ذكره في المباحث الثلاثة هو غير والده. وإني لأشكّ في أن التعريب له، كما سيجيء، فضلاً عن أن الأصل ليس له، لما سيأتي بيانه، مستخرجاً من مبحث ميرزا محمد. وإن كان التعريب له، فقد زيد عليه.
وهل لنا أن نضيف إلى هذه الأدلة أن ترجمة عبد القادر لم يرد فيها ذهابه إلى شمال بغداد مع أن المؤلف يقول عن نفسه إنه مكث في الموصل من سنة 1227هـ -3 - 1812م إلى سنة 1231هـ - 6 - 1815م، وعودته منها مجتازاً بإربل في سنة 1231هـ، ثم مروره بكركوك وإقامته فيها أياماً، كذلك في سنة 1231هـ.
هل التعريب لعبد القادر؟
تُرينا ترجمته أن التعريب له، ولكني لا أكتفي بذلك، لأن الشكوك تحوم حول هذا القول، ولأنه يصادف أن تأليفاً ينسب سهواً إلى غير صاحبه، فلا بدّ إذن من تدقيق النظر في الأمر وتمحيصه.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.