المناورات الانتخابية تنقذ روسيا من ورطتها

في تحول مفاجئ قد تذكره سجلات التاريخ الدبلوماسي باعتباره الأغرب على الإطلاق، يتوقع مبعوث الأمم المتحدة لسوريا، ستيفان دي ميستورا، إسدال الستار عن الحرب السورية وإجراء انتخابات هناك العام المقبل. ففي مقابلة صحافية أخيرة مع محطة «بي بي سي»، أشار دي ميستورا بشكل واضح إلى أنه على المجتمع الدولي الآن قبول إطالة فترة بقاء الرئيس بشار الأسد في الحكم، وتولي من تبقى من إدارته إجراء الانتخابات. ويأتي موقف دي ميستورا على النقيض تماماً من التحليل الذي عرضه العام الماضي عندما استبعد صراحة «أي احتمال لإجراء انتخابات في ظل النظام الحالي».
وفي تحليله الجديد الذي عرضه أمس، توقع دي ميستورا أن يفقد تنظيم داعش آخر معاقله في سوريا بحلول شهر أكتوبر (تشرين الأول) ليمهد الطريق لإجراء «انتخابات نزيهة وعادلة». وأضاف: «في رأيي، ما نراه هو بداية النهاية للحرب الحالية، وما نحتاج إليه هو التيقن من أن ذلك سيشكل بداية السلام أيضاً، وفي تلك اللحظة الحاسمة سيبدأ التحدي. ويعتقد المحللون أن دي ميستورا، الذي يشعر بالإحباط لفشله في التوسط لإبرام اتفاق بين الفصائل المتناحرة، يحاول نشر «جو من التفاؤل» بدلاً من الصورة القاتمة التي تهيمن على المشهد. فمنذ أسابيع قليلة، سادت في الأوساط الدبلوماسية شائعات قوية عن إنهاء مهمة عمله أو استسلامه للهزيمة. وقال مسؤول أممي طلب عدم ذكر اسمه: «قد يكون التفاؤل الجديد لدي ميستورا نتيجة لبعض الوعود الغامضة من موسكو». «وفي ضوء سماح إدارة ترمب الواضح لروسيا بتولي القيادة في تلك المرحلة في الدراما السورية، فإن دي ميستورا في حاجة إلى بعض الدعم من روسيا لكي ينجز أي شيء. وفي المقابل، تطالب روسيا بطرح مستقبل بشار الأسد جانباً في الوقت الحالي».
وكنوع من التملق لدي ميستورا، يبدو أن موسكو قد وعدت بتقديم حزمة تنازلات غير محددة حتى الآن نيابة عن نظام الأسد في دمشق. لكن ما يجهله دي ميستورا هو حقيقة أن الأسد وأنصاره الذين يعتقدون أنهم قد كسبوا الحرب، ليسوا مطالبين بتقديم أي تنازلات حقيقية لخصومهم الذين قد يشكلون غالبية الشعب السوري. وبحسب المحلل الإيراني ناصر زماني، «فإن روسيا وإيران يحاولان بكل تأكيد شق صف المعارضين لنظام الأسد»، مضيفاً: «إن مسألة إجراء انتخابات مبكرة من دون قرار يحدد مصير الأسد ستتسبب في هذا الشقاق على الأرجح». ويعتقد أنه من المرجح أيضاً أن ما يسمى منصتي القاهرة وموسكو المعارضتين، اللتين تتفقان ولو بشكل صامت مع جزء من نظام الأسد بشأن بقاء بشار في الحكم، سترحبان بفكرة إجراء انتخابات عام 2018، بيد أنه من المرجح أن يرفض تحالف المعارضة الرئيسي المعروف باسم «الهيئة العليا للمفاوضات» فكرة الانتخابات في ظل استمرار هيمنة نظام الأسد على 40 في المائة من السكان على الأقل.
لكن في الواقع، فإن ورطة الانتخابات التي طرحها دي ميستورا لن تعالج جوهر المشكلات الحقيقية للتراجيديا السورية. فمن الواضح أنه من غير المعقول إجراء انتخابات حقيقية في تلك الفترة القصيرة ومن دون وجود سلطة انتقالية. وتعني التغييرات الديموغرافية الدراماتيكية في سوريا أنه من غير الممكن إعداد سجل انتخابي موثوق من دون إجماع شعبي مناسب. ووفق أغلب التقديرات، فنصف تعداد الشعب السوري على الأقل تحولوا إما إلى لاجئين أو مشردين داخل بلادهم. وحتى في حال جرى إعداد سجل انتخابي، فأمور أخرى مثل تحديد مراكز الاقتراع أو اتباع نظام التمثيل النسبي ستنطوي على تعقيدات كبيرة وستتطلب وقتاً لمعالجتها.
بعد ذلك تأتي مشكلة الجهة التي ستضطلع بتنظيم ومراقبة الانتخابات ثم التصديق عليها في النهاية. ففي المناطق التي لا تزال خاضعة ولو اسمياً لسيطرته، لم يسمح الأسد بوجود الأمم المتحدة، بحيث يمكن استخدام قواعدها هناك في مراقبة الانتخابات. ويعد الوضع في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة أسوأ بسبب ضعف تأثير الأمم المتحدة. وربما الأهم هو أن طبيعة الانتخابات ليست واضحة، حيث لم يتحدد إذا ما كانت المنافسة ستكون بين مرشحين أفراد أو أحزاب. وفيما يخص الأسد وأنصاره الروس والإيرانيين، فقد تكون تلك الانتخابات مجرد واجهة زائفة بعد أن تفضي إلى فوز مرشح بعينه بغالبية كاسحة مثلما نشاهد في انتخابات العالم الثالث.
سيكون للانتخابات معنى لو أن السوريين وجدوا أمامهم خيارات وبدائل حقيقية، وهذا يتطلب إنتاج برامج تفتح المجال أمام الناخب للمقارنة والمفاضلة بينها. وفي الوقت الراهن، لا تزال فلول حزب البعث التي تقود الحكومة في دمشق غير قادرة على تقديم برامج ملموسة تحوي ما هو أبعد من مجرد تقديم فروض الولاء والطاعة لبشار. لكن تحالف المعارضة لديه ما يقدمه في صورة «خريطة المرحلة الانتقالية» التي اعتمدت خلال مؤتمر عقد في لندن العام الماضي، والتي تضمنت ملامح حكومة انتقالية في غضون 6 أشهر. وتقبل الخطة بوضوح بقاء الأسد في السلطة لستة أشهر مقبلة إلى أن تتولى الحكومة الانتقالية إدارة شؤون البلاد. وتشدد الخطة على أن «مجرمي الحرب وكل من ثبت ضلوعه في جرائم ضد الإنسانية» لن يكون لهم مكان في المرحلة الانتقالية، بيد أن الخطة لم تطالب بتفكيك البنية الإدارية والعسكرية والأمنية للنظام الحالي.
وفي محاولة غير مباشرة لتهدئة المخاوف الروسية من أن رحيل الأسد قد يؤدي إلى انهيار الدولة السورية وتفكك الجيش السوري كما حدث في العراق عام 2003، فقد أوضحت الخطة بشكل جلي أن «المعارضة لا تبحث عن مسكنات، بل عن إصلاحات تستند إلى الإجماع والاتفاق الشعبي».
وبمقتضى «خريطة الطريق»، ستقوم لجان خاصة بمراجعة «الوضع الراهن» للجيش السوري والأجهزة الأمنية بهدف إعادة بنائها وتدريب أفرادها لخدمة حكومة تستند إلى الشعب، لا إلى السلطة المستندة من طوائف وعصبيات تحكمها آيديولوجيات ضيقة.
ورغم أن الاقتراحات الخاصة بالخيار الفيدرالي تحديداً لم تثر، «فإن خريطة الطريق أوضحت أنها تسعى إلى الإبقاء على بنية الدولة السورية المركزية مع إجراء عدد من الإصلاحات التي تهدف إلى تعزيز التحول الديمقراطي».
وكانت خريطة الطريق قد حظيت بالدعم القوي لدي ميستورا، لكنه لم يعد يذكرها، وقد يرجع السبب إلى أن مبعوث الأمم المتحدة لسوريا يحاول إيجاد مخرج لروسيا من المستنقع السوري أكثر من تمهيد الطريق لسلام دائم في هذه البلاد التي مزقتها الحرب.
وقد أشار دي ميستورا نفسه إلى ذلك في اللقاء الأخير، بقوله: «حتى هؤلاء الذين يعتقدون أنهم قد كسبوا الحرب - والمقصود هنا الحكومة - تنبغي عليهم مراجعة أنفسهم، وإلا فسيعود (داعش) في غضون شهر أو اثنين»، مضيفاً: «وليس من مصلحة أحد ظهور (داعش) في سوريا من جديد». وأضاف أن القيادة في موسكو لا تزال تتذكر التجربة السوفياتية وحربها في أفغانستان، و«بالتأكيد تريد استراتيجية للخروج».
غير أن منح موسكو استراتيجية خروج من سوريا لا يمكن أن تكون على حساب الشعب السوري الذي حارب النظام لسبع سنوات. في الحقيقة، ليس هناك مجال للخداع بشأن مستقبل الأسد. فإن كانت الانتخابات قُدر لها أن تجرى، فيجب منح الشعب السوري حق المفاضلة والاختيار بين نظام أرسل بهم إلى القبور ومعارضة قد توفر بدائل أقل سوءاً.