ألكسندر دوما والصراع الأخلاقي في السياسة

رواية «الفرسان الثلاثة» جسدت التناقض بين الشخصية الفنية والتاريخية

مشهد من فيلم «الفرسان الثلاثة»
مشهد من فيلم «الفرسان الثلاثة»
TT

ألكسندر دوما والصراع الأخلاقي في السياسة

مشهد من فيلم «الفرسان الثلاثة»
مشهد من فيلم «الفرسان الثلاثة»

يبدو في مناسبات كثيرة وجود بعض التناقض بين الشخصية الفنية والتاريخية، ولا أجد مثالاً أكثر وضوحاً من رواية «الفرسان الثلاثة»، للكاتب الفرنسي العظيم «ألكسندر دوما»، في تجسيد شخصية «الكاردينال ريشيليو» إبان حكم الملك لويس الثالث عشر، الذي يصفه الكاتب لنا على اعتباره شخصية مريضة بالسلطة، لا ترتبط من قريب أو بعيد بمفهوم الأخلاق، فهو دائماً ما يحوم حول السلطة في سعيه لجمع أطراف خيوط اللعبة السياسية في يده، فيواجهه في المقابل الفرسان الثلاثة «أراميس» و«أثوث» و«بورسوس»، أبطال الرواية الذين يسعون دائماً لإفشال مخططاته السياسية، التي تتعارض مع الأخلاق والمبادئ الأدبية العظيمة، فيحولها «دوماً» إلى صراع أدبي بين الخير والشر.
وقد اقتبست السينما العالمية هذه الرواية، وصنعت منها الأفلام والمسلسلات، وفي كل مرة يظهر «الكاردينال ريشيليو» في أحقر صوره الإنسانية، وذكائه الشيطاني، فيصارع الخير على طول الطريق. ومما لا شك فيه أن شخصية هذا الكاردينال كانت خلافية، فلقد نُقل عن البابا عند ممات «ريشيليو» قوله «إن هذا الرجل سيكون عنده كثير من التبريرات التي يجب أن يسعى لإقناع ربه بها عند السؤال»، في إشارة مباشرة إلى أن رجل الكنيسة المشتغل بالسياسة كانت لديه أخطاؤه في حق الكنيسة والإنسانية.
واقع الأمر أن هذه الشخصية قد توصف بكل القبح، وفقاً لرؤية «دوما»، ولكن الواقع السياسي يشير إلى غير ذلك تماماً، فلقد كان «ريشيليو» أحد رجال السلك الكنسي، ومثل الكنيسة كعضو برلماني من الفئة الأولى (ممثلو الكنيسة) في البرلمان الفرنسي عندما استدعاه الملك، وكان يحارب بشدة للمحافظة وتعظيم الحقوق المكتسبة للكنيسة، من الإعفاءات الضريبية والسياسية وغيرها، وقد لفت دور هذا الرجل انتباه الملك، فبدأ يعمل على تصعيده ككادر سياسي في الدولة، إلى أن أصبح وزيراً للخارجية، ثم سرعان ما تم تصعيده رئيساً للوزراء في 1622م، حيث استطاع في مدة قصيرة أن يقبض على السياسة الفرنسية بقبضة من حديد، واستخدم في ذلك كثيراً من الوسائل التي يُختلف على تصنيفها ما بين السياسي والأدبي. وعندما كان يُسأل عن بعض سياساته، فإنه كان يجيب بكلمتين «لأسباب متعلقة بالدولة» (Raison d etat)، أي أن الهدف منها يتعلق بحماية الدولة وصيانتها، وهي الجملة التي تنسب له في التاريخ، والتي أصبحت بعد ذلك متداولة في كل أروقة الدول عبر الزمن، إلى يومنا هذا، لتفسير أو تبرير مواقف أو سلوكيات يُختلف حولها.
واقع الأمر أن فلسفة «ريشيليو» كانت واضحة، ولها ما يبررها في زمنها، فلقد كانت فرنسا خارجة من حرب أهلية ضروس، بسبب انتشار المذهب البروتستانتي، و«الكالفينية» خاصة، الذين كان يطلق عليهم لفظ «الهوجونو». وذلك في الوقت الذي كانت فيه الأغلبية الكاثوليكية، وعلى رأسها الملك، تدعم من الكنيسة. وقد تعرضت البلاد لاقتتال شديد، حتى مع إصدار الملك مرسوماً يكفل حرية العقيدة في البلاد. فرغم ذلك، استمرت حالة الفوضى، واهتز العرش الفرنسي مراراً، وتدخلت القوى الخارجية في الشأن الفرنسي، من خلال مساعدة «الهوجونو» لإضعاف الدولة الفرنسية لخدمة أطماعها. وهنا، قام «ريشيليو» بتقوية مركز الدولة، وجعلها أقوى من أي فريق داخل فرنسا، «الكاثوليك» أو «الهوجونو» على حد سواء. فحارب «الهوجونو» في مناسبات كثيرة، وأخضعهم لإرادة الدولة، مع كفالة حرية العقيدة، فوحد الشعب الفرنسي من الناحية الوطنية، تاركاً المعتقدات لأصحابها، وقد كان شعاره الأساسي هو أن الدولة يجب أن تسود حتى لا تعم الفوضى البلاد، وقد نجح في ذلك تماماً، فهدأت الفتنة الطائفية في فرنسا في أيامه، واستقرت الأوضاع السياسية.
وعلى صعيد آخر، فقد وجه الرجل جهوده من أجل تقليم أظافر الإقطاعيين وطبقة النبلاء، الذين أصبحوا في مناسبات كثيرة مراكز قوى لا يُستهان بها؛ لكل منهم جيشه الخاص وقلاعه الحصينة، ففرض عليهم الضرائب، وهدم دفاعاتهم، إلا في المناطق التي كان يُخشي من هجوم خارجي عليها، كما أنه استطاع أن يخلق الجيش الفرنسي الموحد تدريجياً، بولاء واحد موجه نحو الدولة، وعلى رأسها الملك. يضاف إلى هذا أن الرجل بدأ أيضاً في تقليم الأظافر السياسية للبابا في فرنسا، وذلك على الرغم من خلفيته الكنسية، فهو كاردينال في نهاية المطاف.
ولعل أهم ما استفز البابا تحالف فرنسا (الكاثوليكية)، بدافع من «ريشيليو»، مع حركات البروتستانت في دولة «الهابسبورج»، خلال حرب الثلاثين عاماً، بهدف وقف هيمنة هذه الدولة على أوروبا، وعلى فرنسا في حال انتصارها في هذه الحرب الداخلية، وقد كان له ما أراد، ولكن القدر لم يمهله كثيراً، مع ضعف صحته، فمات في 1642، قبل انتهاء الحرب بست سنوات، التي قلمت أظافر أسرة الهابسبورج.
ولا خلاف على أن سلوك «ريشيليو» تحوم حوله التهم والشبهات، وهو ما لفت نظر الكاتب «دوما»، ولكن العين السياسية تستطيع أن تغفر له سلوكه، لأنه استطاع أن ينتشل فرنسا من حالة الفوضى السياسية إلى حالة الاستقرار الفعلي، ولكن هذا هو الفرق بين عين الأديب وعين السياسي، فلكل نظرته، ولكل حسبته ومرجعيته، ولكن التاريخ أغلب الظن هو من يقيم الشخصية من خلال الأحداث والنتائج.


مقالات ذات صلة

انطلاق «بيروت للأفلام الفنية» تحت عنوان «أوقفوا الحرب»

يوميات الشرق انطلاق مهرجان بيروت للأفلام الفنية (المهرجان)

انطلاق «بيروت للأفلام الفنية» تحت عنوان «أوقفوا الحرب»

تقع أهمية النسخة الـ10 من المهرجان بتعزيزها لدور الصورة الفوتوغرافية ويحمل افتتاحه إشارة واضحة لها.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق فيلم «فخر السويدي» تناول قضية التعليم بطريقة فنية (الشركة المنتجة)

فهد المطيري لـ«الشرق الأوسط»: «فخر السويدي» لا يشبه «مدرسة المشاغبين»

أكد الفنان السعودي فهد المطيري أن فيلمه الجديد «فخر السويدي» لا يشبه المسرحية المصرية الشهيرة «مدرسة المشاغبين» التي قدمت في سبعينات القرن الماضي.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق تجسّد لبنى في «خريف القلب» شخصية السيدة الثرية فرح التي تقع في ورطة تغيّر حياتها

لبنى عبد العزيز: شخصية «فرح» تنحاز لسيدات كُثر في مجتمعنا السعودي

من النادر أن يتعاطف الجمهور مع أدوار المرأة الشريرة والمتسلطة، بيد أن الممثلة السعودية لبنى عبد العزيز استطاعت كسب هذه الجولة

إيمان الخطاف (الدمام)
يوميات الشرق هند الفهاد على السجادة الحمراء مع لجنة تحكيم آفاق عربية (إدارة المهرجان)

هند الفهاد: أنحاز للأفلام المعبرة عن روح المغامرة

عدّت المخرجة السعودية هند الفهاد مشاركتها في لجنة تحكيم مسابقة «آفاق السينما العربية» بمهرجان القاهرة السينمائي بدورته الـ45 «تشريفاً تعتز به».

انتصار دردير (القاهرة )

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!