الافتراءات السياسية والجهل بالأكاديمية

د.  محمد عبد الستار البدري
د. محمد عبد الستار البدري
TT

الافتراءات السياسية والجهل بالأكاديمية

د.  محمد عبد الستار البدري
د. محمد عبد الستار البدري

ما زلت أتابع آراء أراها مستهجنة تدعو إلى الفصل بين السياسة والثقافة وكأن هناك حاجزاً يفصل بين الشخصيتين السياسية والثقافية أو الأكاديمية، فيسعى هذا التيار - الذي لا أشك في حجمه المتواضع من حيث العدد والعمق - إلى محاولة تفتيت الشخصية السياسية أو الثقافية بفصل العنصرين لكي لا يتحدا في شخصية واحدة، وكأن المثقف والأكاديمي محظور عليه السياسة، والسياسي وجب عليه الاستغناء عن العمق الثقافي أو على الأقل البعد عنه، وهي محاولة ما زلت لا أجد لها علة موضوعية، بل لا أرى فيها علة من الأساس، فهذا الفكر يخرج إما من جعبة تجارب شخصية لأصحابه أو محاولة لتعويض النقص في البعد الثقافي أو الأكاديمي أو السياسي لديهم، وفي الحالتين فإننا أمام ظاهرة أفضل ما توصف به أنها نابعة من إسقاطات شخصية قد تكون لا إرادية، فهذا التيار يتهم السياسي المشتغل بالثقافة بأنه مدع، بينما يرى آخرون أن المثقف المشتغل بالسياسة تشوبه شائبة عدم الرقي للمستوى الإنساني للثقافة بأشكالها المختلفة.
على كل حال، فإن الفيصل أمام هذا التيار المحدود في تقديري هو التاريخ، ففيه السوابق والخبرات المتراكمة التي تعكس عدم موضوعية هذا الفصيل الشارد، وهنا تحضرني نماذج كثيرة أصوغ منها ما يلي:
أولاً: أن الثقافة بمفهومها الواسع سواء الشاعر بكلماته المداعبة للوجدان، والأديب بنثره وقصصه المتفاعلة مع العقل والروح، والأكاديمي بأبحاثه واستنتاجاته على أسس علمية، والفنان برسوماته التي تهز الخيال أو الواقع، ما هم إلا عناصر لتيار الثقافة، فلو أخذنا مثلاً السياسة في التاريخ الإسلامي فسنجدها على تماس بالشعر والنثر، والتفاعل بين السياسة والشعر تكتظ بها كتب التاريخ، فالشعر آنذاك لم يكن ممارسة بلاغية-عاطفية فحسب، بل كان يختلط بالسياسية في كثير من الأحيان. فلو اطلعنا على تاريخ «الطبري» أو «ابن كثير» أو «ابن إياس» فسنجد صفحات كتبهم لا تخلو من شعر أساسه الحكمة السياسية، أو الهجاء أو الإطراء، فدور الشعر في التاريخ السياسي الإسلامي كان واضحاً، فواقع الأمر أن الشعراء لعبوا في ذلك الوقت دوراً يتشابك مع الإعلام اليوم، فمن منا ينسى المتنبي وبيته الشهير في هجاء الإخشيد «لا تشتر العبد إلا والعصا معه... إن العبيد لأنجاس مناكيد»، ومن منا ينسى بلاغة المحارب السياسي البارع نصر بن سيار وهو يصف الحالة المتدهورة في خُراسان في عهد مروان بن محمد ويبشر بانتهاء ملكه بأبياته الخالدة:
فقلت من التعجب ليت شعري أأيـقـاظٌ أمـيّـة أم نـيـام

فإن يقظت فذاك بقـاء ملـك
وإن رقـدت فإنـي لا ألام
فإن يك أصبحوا وثووا نيامـا
فقل قوموا فقـد حـان القيـام

كما لا يفوتنا هنا استخدام النثر كنوع من الفخر للمحاربين والساسة، وتحضرني سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام وهو ينشد مقولته الشهيرة «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» أو صرخة سيف الله المسلول خالد بن الوليد «أنا ابن أشياخ وسيفي السخت... أعظم شيء حين يأتيك النفت».
ثانياً: وبعيداً عن الشعر واقتراباً من العلوم والفكر فمثال عبد الملك بن مروان رجل الدولة الإسلامي والمؤسس الثاني للدولة الأموية مثال واضح، فعلمه وثقافته الموسوعية لم يبخسا حقه كسياسي، فلم تنجب بنو أمية مثله باستثناء معاوية بن أبي سفيان، فلقد ملك الرجل العلم والحكمة والسياسة والحرب، ولم ينتقص أي فرع من فروع تكوينه من الفروع الأخرى، بل تكاملت الأفرع لتخلق لنا شخصية فريدة من نوعها، والأمثلة متعددة ومن بينها رئيس الوزراء الفرنسي في القرن السابع عشر «مازارين» الذي أنقذ فرنسا ووضعها على طريق لتصبح قوة عظمى وكان الرجل كاردينالاً كاثوليكياً وموسوعة فكرية وثقافية أيضاً.
ثالثاً: وأكون هنا متعمداً أن أفرد فقرة منفصلة للسياسي والدبلوماسي والمثقف والأكاديمي «هنري كيسنجر»، فلقد رأيت في سيرته نموذجاً صارخاً لإثبات أهمية الربط بين المفكر والسياسي والأكاديمي، وذلك برغم اختلافي الحاد معه في بعض سياساته خاصة ما يتعلق منها بالشرق الأوسط، فلقد ربط هذا الرجل ببراعة شديدة بين الأكاديمية باعتباره أستاذاً جامعياً وبين الدبلوماسية، فرسالة الدكتوراه الخاصة حول صناعة السلام بعد الحروب النابليونية ما هي إلا دليل سياسي لمن يريد التعلم من التاريخ وعلم العلاقات الدولية، وباعتبار الرجل من مؤسسي المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية فإنه استطاع الجمع بين القدرات الأكاديمية والنشاط السياسي كوزير للخارجية ومن قبلها كمستشار للأمن القومي لم يجد النظام السياسي الأميركي في تقديري بمثله حتى اليوم في الوظيفتين والاستثناء هنا قد يكون المرحوم «زبيجنيو بريزنسكي» مستشار الأمن القومي السابق وعالم الجغرافيا السياسية والذي فيه نفس مميزات كيسنجر.
وأياً كانت الرؤى فإن الإضافة لا تُنقص، والعلم يضيف، والفكر لا يوهن صاحبه، والفن يُرقي المشتغل به، فما أعجب ممن لا يرى أهمية الربط بين السياسية والفكر والثقافة، ألم يطالب أفلاطون بـ«الملك الفيلسوف» لأهمية أن يُتقن السياسي الفلسفة؟... إنها بحق معادلة ثرية، ولكن ندرة العمق لدى البعض تجعل منها انتقاصاً.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.