«الشيخ جاكسون» يصالح الدين على الدنيا في «الجونة»!

العالم كله صار لديه هاجس اسمه «داعش»، بين حين وآخر تحتل الصدارة في «الميديا» جريمة طائشة مجنونة، يرتكبونها لترويع الآمنين.
ولا تتوقف الأفلام والمسلسلات عن النزول إلى الميدان وفضح هذا التنظيم الدموي، وآخر الأعمال مسلسل «الدولة» البريطاني، فأين نحن من هذا كله؟ لا تزال حصيلتنا الدرامية ضئيلة، لا تتناسب مع المخاطر التي نرصدها. قدمنا في رمضان الماضي من خلال قناة «إم بي سي» مسلسل «غرابيب سود»، الذي شارك فيه مبدعون من كثير من الدول العربية، من السعودية ومصر وسوريا ولبنان وغيرها، ولكن البعض هاجمه بضراوة، بحجة أنه قد يساء تفسيره، باعتباره ينال من الإسلام، رغم أن الرسالة كانت واضحة تماماً، فهو يدين هؤلاء الذين يسيئون للدين الإسلامي الحنيف.
عدد من الأفلام العربية بين حين وآخر، تستوقفها تلك القضية الشائكة، وهي تتناول بعض المفاهيم التي تؤدي لفهم البعض الخاطئ للإسلام. آخر الأفلام التي امتلكت خصوصية في التعبير وابتعدت عن المباشرة، حيث غلفتها المشاعر العاطفية والروح الاجتماعية في التناول، فيلم «الشيخ جاكسون» للمخرج عمرو سلامة، حيث يتناول حياة شيخ جامع، يعرض تفاصيل حياته منذ أن كان طفلاً، مروراً بمرحلة المراهقة حتى الرجولة، إلى أن أصبح شيخاً للجامع، ولكن ظل في داخله هذا الصراع بين عشقه للموسيقى ورؤية البعض الرافضة للفن برمته. كان محباً للمطرب العالمي مايكل جاكسون الذي رحل عام 2009، وشكل غيابه نقطة فارقة في وجدان الشيخ الذي كانت تنتابه تهيؤات، وهو يرى مايكل جاكسون في الجامع جاء ليؤدي الصلاة، فيحدث بسبب تلك التهيؤات كثير من المفارقات.
سيعرض الفيلم يوم 22 سبتمبر (أيلول)، في افتتاح مهرجان «الجونة» في أولى دوراته، وهو أحدث مهرجان عربي يضاف للقائمة، حيث يقف وراءه مادياً الأخوان سامح ونجيب (ساويرس) كداعمين له.
وبالطبع ستأتي الفرصة للحديث بالتفصيل أكثر عن الفيلم الذي يعد قفزة سينمائية لبطله أحمد الفيشاوي، قبلها كانت لدينا عشرات من الأفلام، آخرها «مولانا» لمجدي أحمد علي، الذي انطلق في العام الماضي في مهرجان «دبي»، وقبل نحو أسبوعين عرض في مهرجان «وهران» السينمائي في إطار تكريم لصُناعه، ومن المنتظر عرضه مع أفلام أخرى تحت قائمة ندوة عن أفلام التطرف، يقيمها مهرجان الإسكندرية السينمائي، الذي يُعقد في بداية أكتوبر (تشرين الأول) القادم.
تقديم أفلام تتناول تاريخنا وتدافع عن سماحة الدين الإسلامي، هدف ليس وليد السنوات الأخيرة، ولكنه موغل في القدم. لقد كان المخرج السوري الكبير الراحل مصطفى العقاد، بعد أن قدم فيلميه الرائعين «الرسالة» و«عمر المختار»، وذلك في نهاية سبعينات القرن الماضي، كان لديه حلم لا يتوقف عن إعلانه، وهو أن يقدم أفلاماً غير مباشرة عن سماحة الإسلام، يبدأها بفيلم عن حياة البطل «صلاح الدين الأيوبي»، قبل أن يقدم المخرج العالمي ريدلي سكوت فيلمه «مملكة السماء» 2004، واعتقد العقاد أنه من خلال اسمه الكبير سيجد الأبواب تفتح أمامه؛ إلا أنه اكتشف العكس، فكل محاولاته باءت بالفشل، سواء كانت مع حكومات أم أفراد، لم يرحب أحد بالتعاون، طبعا يوسف شاهين كان قد أخرج في الستينات فيلم «الناصر صلاح الدين»، ولكن مصطفى العقاد كان يرى أنه فيلم - بالمقياس الفني والفكري - ساذج جدا، وكثيرا ما كنا نتابع معارك صحافية وإعلامية بينهما، يتراشقان في «الميديا» بسبب هذا الخلاف الجذري على مستوى الرؤية السينمائية، حتى أن العقاد كثيراً ما كان يقول كنوع من التهكم، أن فيلم «اللمبي» الذي لعب بطولته محمد سعد، أروع من «صلاح الدين»، بينما كان يوسف شاهين يقلل كثيراً مما نعتبره إنجازاً عالمياً لمصطفى العقاد. ورحل العقاد عام 2005 على أيدي الإرهاب الديني، الذي فجر فندق «القدس» بالمملكة الأردنية الهاشمية، أثناء وجود العقاد هناك. وكان أول من نعاه وأشاد بقدره هو يوسف شاهين. جاء رحيل مصطفى العقاد كذروة تراجيدية لفنان كان حريصاً على أن يواجه بالكاميرا التطرف والإرهاب، فلاقى حتفه بأيديهم الجبانة.
السينما المصرية كانت سابقة في التنبيه إلى مخاطر التطرف الديني، حتى قبل أن يزداد شراسة، مثلا ستجد أن الفيلم الغنائي الميلودرامي «خالي بالك من زوزو» للمخرج حسن الإمام عام 1972، التقط بداية الخيط، من خلال شخصية الطالب الجامعي المتزمت التي أداها محيي إسماعيل، في بداية ظهوره الفني، حيث أمسك كاتب الفيلم صلاح جاهين تلك الشخصية التي كانت تعبر عن رفض للمرأة والرغبة في إقصائها ومنعها من ممارسة كافة الأنشطة، ولا يعترف أبداً بقدرتها على التفوق ولا بحقها في المساواة، مدعياً أن هذه هي تعاليم الإسلام. كانت سعاد حسني هي الفتاة المثالية المتفوقة دراسياً، بينما أمها «عالمة» أقصد طبعاً راقصة من شارع «محمد على»، الذي كان مشهوراً وقتها بأنه شارع الفن والموسيقي والرقص. والفيلم كان يؤيد حقها في أن تتعلم، وأن تحصل على المركز الأول، بينما الطالب المتزمت يريد إيقاف كل الأنشطة الفنية، ونزع لقب الطالبة المثالية الذي توجت به، وفي نهاية الفيلم يعترف بخطئه. طبعا لم نكن قد وصلنا بعد لاستخدام العنف في فرض تلك الآراء.
بعد أشهر قلائل أيضاً، جاء فيلم مهم سقط من تاريخ السينما المصرية، وأعني به «غرباء» للمخرج سعد عرفة. الفيلم لعبت أيضاً بالصدفة بطولته سعاد حسني، والبطلة تعاني من تزمت أخيها الذي أدى دوره شكري سرحان، وكأن الفيلم يعزف على جراح هذه الأيام، حيث يشير إلى بداية تغلغل هذا الفكر، لأسباب سياسية كان الدافع وراءها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، الذي أراد أن يلاعب اليسار، فأطلق العنان لتيار «الإخوان»، وفي النهاية دفع الثمن واغتالوه.
في الثمانينات زادت مساحات العنف الذي مارسته الجماعات المسلحة، وكانوا يحاربون ممارسة الفن باعتباره عدوهم اللدود، ومنعوا بالجنازير فرقة من الهواة كانت ستعرض إحدى مسرحياتها، في إحدي قرى أسيوط، ويومها وثق الحدث المخرج أحمد يحيي في فيلم تسجيلي، مواكباً سفر عادل إمام إلى هناك، وعرض مسرحيته «الواد سيد الشغال»، متحدياً أصحاب الفكر الرجعي.
إلا أن المواجهة الحقيقية جاءت مع هذا التعاون الذي ارتبط بعادل إمام والكاتب وحيد حامد والمخرج شريف عرفة، في أفلام بدأت في مطلع التسعينات بفيلم «اللعب مع الكبار». وتعددت الأفلام: «الإرهاب والكباب»، و«طيور الظلام»، و«المنسي»، وغيرها. كما أن الكاتب لينين الرملي والمخرج نادر جلال قدما لعادل إمام فيلم «الإرهابي».
على الجانب الآخر كانت نادية الجندي حاضرة أيضا بفيلم «الإرهاب»، وتعددت الأفكار والأفلام.
الإنسان أولاً، هذا هو المغزى وتلك هي الحكمة، وعلينا كلما اشتد الظلام أن نعرف أن الحل هو الإنسان.
نعيش في إحباط وأحزان، خريطة مصر يحوطها شريط أسود يقطر دموعاً لا تنضب على شهدائنا المصريين، بين ركام الإحباط يبزغ دائما الأمل في الغد، في أن نواجه فيروس التطرف والإرهاب، وأحد أمضى أسلحة المواجهة هي السينما، ولا يعني ذلك أن نقدم أفلاماً مباشرة على طريقة «مولانا» لمجدي أحمد علي، الذي تناول قضية فساد الخطاب الديني، وهو ما أدى بنا في النهاية إلى الكوارث التي نعيشها. هناك رسالة أبعد للفن، عندما يعلمنا التعاطي مع الجمال الإبداعي. الإرهابي والمتطرف لا يكره فقط الفن، بل يجرمه ويحرمه، والسينما، هي السلاح الأقوى والأكثر شعبية لنعيد التوازن للإنسان.
يُطل على المشهد بقوة تنظيم داعش، صحيح أنه على الأرض يلقى هزائم متعددة، سواء في العراق أو سوريا، كما أنه في مصر، يتم حصاره من خلال رجال القوات المسلحة والشرطة البواسل؛ ولكن لا يزال هذا التنظيم بحاجة إلى معالجات درامية أكثر نضجاً، في فيلم أو مسلسل، للإجابة عن الأسئلة، وأهمها: كيف أصبح له في كثير من دول العالم تلك القدرة على النفاذ للعقول؟ التي رصدها مثلاً المخرج الجزائري رشيد بو شارب في فيلمه «الطريق إلى إسطنبول»، والتونسي رضا الباهي في فيلم «زهرة حلب»، الذي افتتح به مهرجان قرطاج العام الماضي، وشاركت هند صبري بطلة الفيلم في إنتاجه؛ إيماناً منها بالرسالة التي يتبناها الفيلم.
الجزائر طبعا من أكثر الدول العربية التي اكتوت بتلك النيران فيما يعرف بـ«العشرية السوداء»، المقصود بها السنوات العشر التي بدأت نهاية عام 1991، واستمرت حتى مطلع 2002، عندما تمكن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من إنهائها. وشاهدناها في أفلام مثل «رشيدة»، و«دوار النساء»، و«المحنة»، و«التائب»، وغيرها. ومن المغرب من الممكن أن تتوقف عند المخرج نبيل عيوش وفيلمه «يا خيل الله».
السينما لعبت دوراً ولا شك، ولا يزال أمامها الكثير، والدول حتى على المستوى الرسمي، مثل مصر، وافقت على دعم الأفلام التي تتناول تلك القضايا، ويبقى أن تحرص السينما على أن تراهن على الفن، على شرط ألا تتحول إلى فعل توجيهي مباشر.
المعركة طويلة الأمد، مهما شاهدنا من ضربات موجعة يتلقاها «داعش» على أرض الواقع، إلا أن المعركة لا تزال ممتدة. السينما تستطيع عندما تتغلغل في المشاعر وتسكن القلوب والعقول، أن تعلن في النهاية عن انتصارها الحاسم على أرض الواقع، وفي البدء «كانت الكلمة» وكان أيضاً الفن!.

مسلسل «غرابيب سود» نظر إليه البعض باعتباره يسيء للإسلام - مشهد من فيلم «الإرهاب والكباب» - ملصق فيلم «الشيخ جاكسون».