أويحيى «رجل المهام» في الجزائر

النظام يقرّبه ويبعده بحسب المتغيّرات وجدل حول فرص بلوغه «المنصب الكبير»

أويحيى «رجل المهام» في الجزائر
TT

أويحيى «رجل المهام» في الجزائر

أويحيى «رجل المهام» في الجزائر

التغيير الذي طال رئاسة الحكومة الجزائرية يوم الثلاثاء الماضي حَمَل دلالتين بارزتين؛ الأولى أشّرت على وجود أزمة في أعلى هرم السلطة ترتبط بصراع قوي بين أهل السياسة و«لوبي المال»، والثانية جدّدت الفضول حول الدور المستقبلي لأحمد أويحيى الذي أوكلت إليه مهمة قيادة الطاقم الحكومي للمرة الرابعة في حياته، وفرص خلافته الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، سواء في انتخابات 2019 أو في حال حدوث شغور.

بيان رئاسة الجمهورية أعاد «الجوكر السياسي» أويحيى، إلى «قصر الدكتور سعدان» بعد أزمة صامتة دامت أسابيع قليلة بين سلفه المقال عبد المجيد تبون الذي أراد «تطهير العمل السياسي من نفوذ رجال المال» ومجموعة قريبين من محيط الرئيس تصدّوا بقوة لهذا التوجه.
هذه الأزمة بدت، في نظر كثيرين، خصوصاً وسط المعارضة، مؤشراً على مشاكل كبيرة يعانيها النظام، ذلك أنها كشفت عن وجود «صراع سياسات» وتضارب في مستويات اتخاذ القرار ومحدودية في الخيارات للتعامل مع القرارات الاقتصادية التي اتخذها تبون خلال المدة القصيرة التي رأس فيها الحكومة ولم تتجاوز الأشهر الثلاثة. تبون خلال محاولته تنفيذ أجندته الجريئة أظهر رغبة في إبعاد رجل الأعمال النافذ علي حداد، إلا أن الأخير وجد سنداً قوياً لدى السعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس، الذي يعتقد على نطاق واسع أنه الحاكم الفعلي في البلاد. وبرز شبه إجماع داخل البلد، أن علي حداد والسعيد بوتفليقة، ليسا سوى رمزين لـ«لوبي» قوي أزعجته التوجهات التي أبداها تبون وأبرزها تهديده الشركات المتأخرة في تنفيذ المشاريع الموكلة إليها بسحب تلك الأعمال منها، ومحاولته وضع حد لاستيراد السلع الخارجية من أجل حماية المنتجات الوطنية، خصوصاً في ظل أزمة تدني الاحتياطات المالية الناجم عن هبوط أسعار النفط.
وعلى مدى أسابيع، ظل الجزائريون وغيرهم مشدودين لمتابعة فصول الصراع الجديد و«الشيّق»، لأنه أظهر وجود «خلل ما» في سلطة القرار، ذلك أن تبون بدا للناس صاحب «ضوء أخضر» من جهات عليا لانتهاج سياسة التصدي لـ«الفاسدين»، وفي الوقت نفسه، كان الجميع يدرك أن حداد يحظى بدعم من قوي من محيط الرئيس.
وعليه، جاء خبر التغيير الحكومي الأخير حاملاً لمفاجأتين: انتصار لوبي المال، واختيار هذا اللوبي لشخص أويحيى ليدافع عن مصالحه. ورأى سفيان جيلالي زعيم حزب «جيل جديد» المعارض، أن ما انتهت إليه الأزمة الأخيرة لا يعني أن «لوبي المال كسب المعركة بشكل نهائي»، مرجّحاً أن الأطراف التي راهن عليها تبون «ربما تنازلت بشكل تكتيكي». وأضاف جيلالي في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن «الرأي العام لا يعرف طبيعة الملفات المطروحة بين الجانبين في الصراع، ومن المحتمل أن تراجعاً تكتيكياً حدث في انتظار الحلقات المقبلة». ورأى أن تبون الذي اشتغل في مناصب بالدولة لمدة 40 عاماً وهو صاحب الـ72 عاماً من العمر، ليس من النوع الذي يغامر ويفتح المعركة مع رجال الأعمال من تلقاء نفسه. ورجّح أن يكون تبون استند إلى تحالف قِوى في الجيش والإدارة وبعض المؤسسات، لكن هذه القوى وجدت في الأخير أنها لا تملك الإمكانات الكافية لدعم تبون تجاه تنفيذ إصلاحاته. وحذر جيلالي من أن اختيار أويحيى ليحل مكان تبون سيزيد «أزمة الثقة الموجودة بين السلطة والشعب تعقيداً»، لأن القادم الجديد «كان قاد حكومات على مدى سنوات في السابق ولم يقدم للبلاد سوى الأخطاء الفادحة في المجال الاقتصادي وتسيير الشأن العام».
ويقرّ كثيرون أن أصحاب القرار لجأوا إلى أويحيى في اللحظة الأخيرة باعتباره «الخيار الضرورة». وفعلاً كانت رئاسة الجمهورية على الدوام تقرّب الرجل مرات وتبعده مرات أخرى، وفقاً لحسابات متداخلة.
يقول المناصرون لأويحيى (65 عاماً) إن زعيم «التجمع الوطني الديمقراطي»، الحزب الثاني المحسوب على السلطة والقوة السياسية الثانية في البرلمان «رجل دولة» و«صاحب نداء الواجب». يشيدون بكفاءاته السياسية والدبلوماسية والإدارية. ولا يجدون صعوبة في تبرير قدرات الرجل الذي شغل مناصب دبلوماسية عدة في دول أفريقية ومجلس الأمن الدولي وقاد وساطتين كبيرتين لحل أزمتين دوليتين، كما أن عمله المتواصل في مواقع رفيعة في عهد الرئيس السابق ليامين زروال والرئيس الحالي بوتفليقة يدل على المهارات العالية التي يحوزها.
وعلّق صديق شهاب المتحدث باسم «التجمع الوطني الديمقراطي» على التغيير الأخير بقوله إن تعيين أويحيى على رأس الوزارة الأولى (الحكومة) دليل على ثقة رئيس الجمهورية فيه «بسبب صرامته وتفانيه في عمله وامتلاكه لإمكانات كبيرة في تسيير الشأن العام»، مضيفاً أن أويحيى «رجل واجب لا يتأخر ثانية لتلبية نداء الوطن».
في المقابل، تَحمِل المعارضة على الرجل أخطاءه في التعاطي مع الملفات الاقتصادية، وتبنيه لسياسات قاسية تجاه الفئات العمالية تماشيا مع شروط صندوق النقد الدولي في التسعينات من القرن الماضي. وقال زعيم معارض إن أويحيى «لا يحظى بشعبية» في الشارع الجزائري، وإن حزب «التجمع» الذي يقوده «غائب تماماً عن الواقع وهو في الحقيقة لا يعدو أن يكون جهازاً مسيّراً بشكل مباشرة من الإدارة»، في إشارة إلى أن الحزب أداة بأيدي جهات عليا نافذة في الدولة.
وحاول السياسي المعارض تفنيد ما يروّج عن الرجل بكونه «صاحب المهام الكبرى»، بقوله إن أويحيى «ليس سوى رجل يطبق الأوامر، ولم يكن في الحقيقة يوماً من المقررين» داخل النظام الجزائري. ويضيف أن «أويحيى شخصية تنفيذية تتبع الواقف» في إشارة إلى اصطفافه الدائم مع الجهة القوية في المشهد السياسي.
لكن رغم ذلك، لم يستبعد جيلالي سيناريو ترشيح أويحيى في انتخابات الرئاسة عام 2019 للمنصب الكبير الذي يجعله «صاحب قرارات»، معتبراً أن «البلاد دخلت منذ انتخاب بوتفليقة لعهدة رابعة عام 2014 مرحلة من الفوضى أصبح معها كل شيء ممكناً». ورأى أن «النظام فقد البوصلة وبات بالإمكان أن يصبح أويحيى رئيساً كما بات بالإمكان أن يصبح السعيد بوتفليقة أو (قائد الأركان) قائد صالح رئيساً». وواصل جيلالي تقديم نظرة تشاؤمية جداً للمشهد قائلاً إنه لا يستبعد أيضاً حدوث «هزة على مستوى الشارع وربما حدوث انهيار مفاجئ للنظام».
وبين المؤيدين بقوة لأويحيى والمناوئين له بشدة، يقول كثيرون إن الرجل أظهر على مدى السنوات الطويلة التي شغلها في الدولة، قدرات على فهم التوازنات المعقّدة في المشهد السياسي الجزائري، وإنه على الرغم من الاتهامات الكثيرة التي طالته فإن له بشرة سميكة جعلته «يتحمّل سهام النقد خدمة للوطن». اتُّهم مراراً بالاصطفاف في التسعينات إلى جانب العسكر وانتهاج السياسات الاقتصادية القاسية تجاه الفئات العمالية، كما اتُّهم بكونه «رجل المخابرات في المجتمع السياسي والمدني» بسبب ارتباطاته القوية مع القائد السابق لجهاز الاستخبارات توفيق مدين. لكن الرجل واجه كل ذلك بالتجاهل ومواصلة مهامه الحكومية مما أسهم في تلاشي الكثير من الانتقادات الموجّهة له مع الوقت.
قبل بزوغه نجماً سياسياً عام 1994 كان أويحيى قد تدرّج طويلاً في دهاليز وزارة الخارجية بعد تخرجه عام 1975 من «المدرسة الوطنية للإدارة» الخزان الرئيسي لكوادر الدبلوماسية الجزائرية. عمل في الثمانينات من القرن الماضي، في السفارة الجزائرية بأبيدجان ثم ممثلاً مساعداً بمجلس الأمن الدولي قبل أن يعود مستشاراً بوزارة الخارجية في الجزائر. ثم في عامي 1992 و1993 عُيّن سفيراً بمالي، قبل أن يعود للخارجية مجدداً وزير دولة مكلفاً الشؤون المغاربية بين عامي 1993 و1994، وتفيد تقارير إعلامية جزائرية بأن الفضل في صعود نجم أويحيى إلى رجل عسكري كان يشغل منصب قائد المنطقة العسكرية الخامسة التي تشمل مناطق الجنوب. الجنرال فوضيل سعيدي. ففي منتصف التسعينات أعجب الجنرال فوضيل سعيدي بقدرات وكفاءة أويحيى بعدما اشتغل معه على الملفات الأمنية في منطقة الأزواد بشمال مالي، فاقترحه على الرئيس زروال.
الرأي العام الجزائري تعرف على أويحيى في منتصف التسعينات في أوج الأزمة السياسية-الأمنية التي كانت تعصف بالبلاد، وتحديدا عام 1994 عندما تصدّي في لقاء تلفزيوني مطوّل للدفاع عن سياسات السلطة في مواجهة الاتهامات التي كانت توجه إليها آنذاك. بعدها بعام، وإثر انتخاب ليامين زروال رئيساً للدولة في أول انتخابات رئاسية تعددية، عيّن رئيساً للحكومة حتى عام 1998، كانت رئاسته لتلك الحكومة، أسوأ تجربة على ما يبدو بالنسبة له.
حينها، قاد إصلاحات تقشف قاسية طالب بها صندوق النقد الدولي، وطالت تسريح الآلاف من الموظفين الحكوميين.
وأمام انتقادات و«أوصاف» طالته من مناوئيه، خرج أويحيى قائلاً إنه يعترف بكونه «رجل المهام القذرة». بقي ذلك الوصف يلازمه بطريقة سلبية ويُطلق عليه من قبل مناوئيه في كل مناسبة إلى يومنا هذا.
بعد قدوم بوتفليقة للرئاسة عام 1999، أسندت إلى أويحيى حقيبة وزارة العدل حتى عام 2002، قبل أن يعين في منصب وزير دولة، ثم رئيساً للحكومة بين عامي 2003 و2006 وبعدها بين عامي 2008 و2012، وفي كلتا الحالتين كان يبعد عن رئاسة الحكومة وسط شبهات بأنه صار مغضوباً عليه من قبل الرئيس. لكن النظام كان يجد نفسه مضطراً للعودة إليه سواء مخيراً أو مضطراً.
وعلى غرار عودته ومغادرته الحكومة، كان الأمر كذلك على مستوى «حزب التجمع الديمقراطي» الذي شارك في تأسيسه عام 1997. فقد تقلد رئاسة الحزب لأول عام 1999 إلى أن غادره عام 2003 فيما يشبه «انقلاباً أبيض»، ثم عاد إلى رئاسته عام 2015 إلى يومنا هذا. وفي أبريل (نيسان) الماضي، قاد حملة كبيرة للانتخابات التشريعية جعلت حزبه يرفع عدد مقاعده في البرلمان بـ27، محققاً بذلك أكبر زيادة في عدد المقاعد بين كل الأحزاب المشاركة.
وعلى المستوى الخارجي، تحمل السيرة الذاتية لأويحيى تحقيق إنجازين دوليين كبيرين؛ توسّطه باسم الجزائر لحل أزمة شمال مالي عام 1992 ثم توسطه باسم منظمة الوحدة الأفريقية (قبل تحوّلها إلى الاتحاد الأفريقي) لحل النزاع بين إثيوبيا واريتريا بين عامي 1999 و2000.
ولد أويحيى عام 1952 في بلدة بوعدنان بولاية تيزي وزو، عاصمة القبائل الكبرى، قبل أن تنتقل عائلته إلى العاصمة وبالضبط إلى حي المدنية. وتعتبر عائلة أويحيى من أتباع «زاوية أث أويحي» (مدرسة قرآنية) المنبثقة من الطريقة الرحمانية في المنطقة.
وهذه الخلفية العائلية الدينية جعلت أويحيى يرد على من ينتقدون معاداته للتيار الإسلامي بقوله إنه لا يقبل المزايدة عليه وبأنه «ابن زاوية».
أويحيى متحدث جيّد بالعربية والفرنسية، وعادة ما تكون مؤتمراته الصحافية «ثرية»، لكنه مقلّ في إعطاء المقابلات الصحافية الخاصة. يذكر المعجبون بأويحيى دعوته في يناير (كانون الثاني) 2012 لرجب طيب إردوغان رئيس الوزراء التركي (آنذاك) بـ«الكف عن المتاجرة بدماء الجزائريين»، وذلك رداً على اتهام إردوغان حينها فرنسا بارتكاب «إبادة» في الجزائر.
يحمل أويحيى أفكاراً ليبرالية تعادي التيار الإسلامي لكن من دون أن يصل إلى مستوى الدعوة إلى إقصاء هذا التيار من العمل السياسي. فخلال الأزمة الدموية التي شهدتها الجزائر في التسعينات، كان واحداً من أقطاب النظام الذين مزجوا بين الحل الأمني والسياسي، وعندما قدم بوتفليقة للحكم في 1999 وانتهج سياسة المصالحة الوطنية، لعب أويحيى دوراً كبيراً في الترويج لتلك السياسة الجديدة. كان ينتقل إلى المدن ويحث السكان على دعوة أبنائهم المنخرطين في الإرهاب إلى «التوبة» والعودة إلى أحضان المجتمع.
وربما كان أويحيى أكثر مسؤول تجرأ وصارح الرأي العام بمصير آلاف المختفين خلال الأزمة الأمنية (غالبيتهم إسلاميون خطفوا) بقوله «المختفون الله يرحمهم». وفي العهدتين الأوليين لبوتفليقة، اشتغل أويحيى باعتباره ممثلاً لـ«التيار الديمقراطي» مع ممثلي التيار الوطني (جبهة التحرير) والتيار الإسلامي (حركة مجتمع السلم) في «التحالف الرئاسي» وأظهر عن «تعاون براغماتي» لافت مع خصومه الآيديولوجيين.



متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
TT

متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)

أدت مجموعة من القضايا في العراق إلى تسخين الأجواء باكراً مع تحضير القوى السياسية لخوض الانتخابات المقبلة. وهذه الانتخابات تبدو مصيرية على كل الصعد، نظراً لحجم الشحن و«التسقيط» (الاستهداف السلبي) السياسي والضخّ المالي والتصعيد الطائفي. غير أن أهمية هذه الانتخابات، المقرّرة في نهاية العام الحالي، لا تنحصر بكونها مجرد استحقاق انتخابي يتكرّر كل 4 سنوات، بل لكونها تحوّلت الآن إلى أشبه بمحاولة خروج من عنق زجاجة أزمة الحكم في العراق، خصوصاً أن هناك متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب العراقية في موسم الانتخابات.

في ظل المتغيرات الإقليمية المحيطة بالعراق، ينشغل السياسيون العراقيون مبكراً بالتخطيط لخوض الانتخابات النيابية المحددة في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، والتي يتوقع أن تحدث تغييراً جوهرياً في أوزان الأحزاب.وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الانتخابات المقبلة نهاية العام الحالي، التي يراد من خلالها تحقيق نتائج كبيرة بنتيجة تحالف سياسي كبير، يستفيد من وقائع عديدة. أهمها أولاً مخرجات قمة بغداد التي عقدت في مايو (أيار) الماضي، وثانياً طريق التنمية، وثالثاً جلب الشركات والدول للاستثمار. وأهمية هذه الانتخابات لا تنحصر بكونها مجرد استحقاق انتخابي يتكرّر كل 4 سنوات، بل بكونها تحوّلت الآن إلى أشبه بمحاولة خروج من عنق زجاجة أزمة الحكم في العراق، فيما يسعى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى إحداث تغيير عبر خوضه الانتخابات مع أوسع تحالف.وفي المقابل، وجدت القوى السياسية التي تخاصمه وحكومته أن «نجاح» السوداني في القمة العربية، يكسبه مزيداً من النقاط الإيجابية لخوض الانتخابات البرلمانية السادسة، التي تأتي بعد عام 2003، وسط انقسام غير مسبوق بين الفرقاء السياسيين. فالسوداني يرى أن دور بغداد يكمن في «جمع الأشقاء، كما هو دورها التاريخي، من أجل صياغة رؤية استراتيجية للمستقبل تضمن الأمن والاستقرار والتنمية والتكامل بين شعوبنا الشقيقة». وفي المقابل، وجدت القوى السياسية التي تخاصمه وحكومته أن «نجاح» السوداني في القمة العربية سيكسبه مزيداً من النقاط الإيجابية وسط تأهب العراق خلال شهور لإجراء الانتخابات البرلمانية السادسة، التي تأتي بعد عام 2003، وسط انقسام غير مسبوق بين الفرقاء السياسيين. مع هذا، بينما نجح خصوم السوداني في خلق جوّ مشحون أدّى في النهاية إلى تغيّب عدد من الزعماء العرب، فإن بغداد الرسمية التي هيّأت كل مستلزمات نجاح القمة نجحت في الخروج بقرارات مهمة على صعيد العمل العربي المشترك، في ظل تحديات غير مسبوقة.

وعلى الجانب الآخر، كان ضمن الإيجابيات ما كتبت عنه مئات من وسائل الإعلام العربية التي شاركت في القمة. إذ توزّع الإعلاميون العرب على 3 فنادق كبرى بالعاصمة العراقية بغداد، هي «الرشيد» و«قلب العالم» و«موفنبيك»، وتمكّنوا من تغطية وقائع القمة، من «القصر الرئاسي»، بفضل تسهيلات غير مسبوقة قدّمتها لهم الجهات العراقية الرسمية.

وكذلك غطّوا أجواء بغداد، التي لم تعد تنام الليل وسط حالة من الأمن والأمان بالقياس إلى فترات سابقة، خصوصاً أيام قمة بغداد السابقة عام 2012، حين أغلقت العاصمة تماماً، وفرض حظر التجوال لمدة 3 أيام تجنباً للتفجيرات والخروق الأمنية.

ملاعق القمة!

من جهة ثانية، عمليات «التسقيط» السياسي، التي سبقت القمة بأيام، استمرت بعدها بأيام، وكانت من قبل نوعين من الجهات داخل العراق. الجهة الأولى، هي التي لا تريد أي انفتاح عراقي على محيطه العربي أو أي انفتاح عربي على العراق. والجهة الثانية، هي التي لديها خصومات مع محمد شيّاع السوداني وحكومته نظراً لما تحقق خلال السنتين ونصف السنة الماضية من «لمسات»، سواء في بغداد أو في عدد من المحافظات، وهو ما قد يرفع أسهم رئيس الوزراء خلال الانتخابات البرلمانية نهاية العام الحالي.

الجهة الأولى فشلت في تحقيق هدفها، أي منع أي انفتاح متبادل بين العراق ومحيطه العربي، نظراً لما تحقق خلال القمة التي لم تقاطعها أي دولة عربية، بصرف النظر عن مستوى التمثيل. أما الجهة الثانية، فراحت في سياق «حربها» ضد القمة إلى البحث عن تفاصيل لا تعني أحداً، كالكلام عن استيراد ملاعق طعام (باللهجة العراقية «خواشيق») بنحو 12 مليون دولار أميركي. وللعلم، عندما قدّمت وجبة الطعام الوحيدة للزعماء العرب بعد الجلسة الأولى لم يكن لافتاً وجود ملاعق ذات ميزة مختلفة عما يقدم من ملاعق في أي وجبة طعام رئاسية أو ملوكية.

وطبعاً، كان الجانب الآخر من مساعي هذه الجهة زعمها أنها هي التي «منعت مشاركة عدد من الزعماء العرب» الذين تناوئهم أطرافها في بغداد، وفي مقدمهم الرئيس السوري أحمد الشرع، فضلاً عن الرئيس اللبناني جوزيف عون، الذي زار العراق بعد القمة، إثر تسوية، ما بدا أنها تصريحات أثارت لغطاً داخل العراق عن «الحشد الشعبي».

أجواء «التسخين»

في أي حال، لا يمرّ شيء مروراً عابراً في العراق. فبعد انتهاء القمة، وعودة الأجواء إلى طبيعتها، تلقت بغداد الرسمية عشرات التقارير عمّا يمكن عدّه وقائع مهمّة، إن كان على صعيد الرصد الإعلامي، أو المواقف السياسية. هذا الأمر بات يهيئ لمخرجات جديدة، تمثلت أساساً في رهانات بغداد لربطها جذرياً مع محيطها العربي والإقليمي في شراكات سياسية أو اقتصادية. وفي الوقت عينه، بدأت معركة موازية، بدأت بين مختلف الأطراف المناوئة لتطلعات السوداني للفوز بولاية ثانية. هذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الانتخابات المقبلة نهاية العام الحالي، التي يراد من خلالها تحقيق نتائج كبيرة بنتيجة تحالف سياسي كبير، يستفيد من وقائع عديدة. أهمها أولاً مخرجات قمة بغداد، وثانياً طريق التنمية، وثالثاً جلب الشركات والدول للاستثمار.

أزمة حكم أم سلطة؟

في الواقع، ثمة «أزمة حكم» في العراق يراها مراقبون الآن «أزمة سلطة». والسبب تعدد الولاءات، وكون الآيديولوجيات والعقائد ليست وليدة الظروف الراهنة التي يمرّ بها العراق لدى تأهبه للاستحقاق الانتخابي السادس، بل أضحت عنواناً بارزاً لكل المراحل السابقة بعد عام 2003. وخصوصاً مع إسقاط دبابة أميركية تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس ببغداد، صبيحة 9 أبريل (نيسان) 2003. مع سقوط التمثال، انتهت حقبة من أزمة الحكم والسلطة الفردية في العراق، لتبدأ البلاد جولة جديدة من الأزمات السياسية.

هذه الجولة احتوت ظاهراً كل عناصر النجاح؛ من تداول سلمي للسلطة، وإجراء انتخابات في موعدها، وانتخاب برلمان، وتشكيل حكومة. إلا أنها حقّاً حملت وتحمل كثيراً من بذور الفشل بسبب الديمقراطية المشوهة والانقسامين الطائفي والعرقي، ما انعكس في توزيع المناصب على ضوء هذه المعادلة المذهبية العرقية، بدءاً من منصب رئيس الجمهورية، وصولاً إلى «فرّاشي» المدارس الابتدائية.

لذا، مع بدء التحضير للجولة السادسة من الانتخابات، باتت أزمة الحكم تلقي بظلالها الثقيلة على إمكانية تعديل طبيعة النظام الديمقراطي الذي توافق عليه العراقيون بعد عام 2003. ومع أن الانتخابات المقبلة، وهي السادسة بعد أول انتخابات عام 2005، إثر إقرار أول دستور دائم في العام ذاته، فإن التحضيرات لإجرائها تبدو اختباراً حاسماً يثير سؤالاً محورياً في مختلف الأوساط، هو؛ هل ستكون هذه الانتخابات فرصة حقيقية للتغيير... أم مجرّد حلقة إضافية في تكريس أزمة الحكم؟

للطائفية عنوان

المؤشرات المتاحة، ولغة الأرقام بشأن حجم الأموال التي تضخّ في هذه الانتخابات، والتصاعد الواضح في الخطابين الطائفي والعرقي، كلها ترجّح كفة التشاؤم. إذ تبدو فرص التغيير أمنية بعيدة المنال، بينما تزداد المؤشرات على استمرار «سمات الفشل» التي حكمت المشهد السياسي في العقدَيْن الماضيين.

ويضاعف من حجم التساؤلات غياب التغيير الحقيقي، حتى في أبسط الجوانب الخدمية، كملف الكهرباء، وهو الشريان الحيوي للحياة الاقتصادية والاجتماعية والتنموية. فمع أن العراق يُعدّ من أغنى دول المنطقة من حيث الموارد المالية، تشير التقارير الرسمية إلى أنه ينفق سنوياً ما يقارب 7 مليارات دولار على قطاع الكهرباء، في حين بلغ مجموع ما أُنفق على هذا القطاع منذ عام 2003 نحو 200 مليار دولار، من دون تحقيق تحسّن ملموس.

وإلى جانب أزمة الكهرباء، تعاني بقية القطاعات الخدمية والإنتاجية من ركود واضح، باستثناء تطوّرات محدودة شهدتها السنتان الأخيرتان من عمر حكومة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني. إذ نجحت هذه الحكومة في إحداث تحوّل ملحوظ في البنية الخدمية للعاصمة بغداد، نال إشادة واسعة من أوساط سياسية وإعلامية، خصوصاً خلال القمة العربية الأخيرة في بغداد.

وعلى الرغم من ذلك، للصورة جانب آخر، يتمثّل في طبيعة إدارة الحكم وآليات توزيع السلطة والمناصب في العراق، فضلاً عن التداخل بين القوات الرسمية للدولة وقوى مسلحة أخرى، بعضها اكتسب صفة رسمية مثل «الحشد الشعبي»، رغم استمرار الجدل حول موقع الفصائل المسلحة داخله، ومدى خضوعها للقيادة الرسمية. وأيضاً، هناك «فصائل مسلحة» لا تتلقى أوامرها من الحكومة العراقية، بل تعدّ نفسها مرتبطة بتكليف «شرعي» صادر عن القيادة الإيرانية، خصوصاً إبان مرحلة ما عُرف بـ«محور الممانعة» المنهار بعد نحو سنتين من عملية «طوفان الأقصى». واستطراداً، لا يمكن إغفال وجود قوات «البيشمركة» الكردية التي تُعدّ جزءاً آخر من هذا التعدد الأمني والعسكري المعقّد.

وهكذا، من أبرز الإشكاليات البنيوية التي تواجه السلطة العراقية، تعدّد مراكز القرار وتضارب الصلاحيات، في ظل دستور عام 2005 الذي لم يمنح وضوحاً كافياً في توزيع السلطات والأدوار بين مختلف مستويات الحكم. وكمثال، لا يتعلق الخلاف بين بغداد وأربيل، بمسألة تحويل الأموال أو دفع رواتب موظفي إقليم كردستان فقط، بل يعود أساساً إلى إشكالية دستورية أعمق، ترتبط بطبيعة النظام الفيدرالي نفسه.

فعقب التغيير في عام 2003، كان الكرد والشيعة، لكونهما أبرز أطراف المعارضة لنظام صدام حسين، على توافق شبه كامل، تُرجم في صياغة سريعة لدستور عام 2005، وفي تبني نموذج فيدرالي للحكم من دون التعمّق في تبعاته المستقبلية، ومن دون أن يُحسب حساب ما قد تؤول إليه الأمور لاحقاً. ولكن بعد مرور عقدَيْن، تحولت العلاقة الثنائية من تحالف إلى خصومة مستحكمة دائمة.

الخلل في الدستور

السبب الجوهري لذلك يكمن في بنية النظام السياسي. إذ تبيّن أن الدستور الذي كان ثمرة اتفاق مرحلي، أصبح اليوم عبئاً مشتركاً بين الطرفَيْن. ثم إن الفيدرالية، التي منحت للكرد مرونة سياسية من قِبل الأطراف الشيعية في تلك المرحلة، تحولت إلى أزمة حكم، ولا سيما بعدما أحكمت القوى الشيعية، بحكم غالبيتها السكانية، سيطرتها الكاملة على مؤسسات الدولة، ما هزّ التوازن السياسي تماماً. في ظل هذه الأجواء يتجه العراقيون نحو الانتخابات البرلمانية المقبلة، المقررة بنهاية العام الحالي، وسط أجواء مشحونة بالمال، باتت موضع جدل واسع حتى داخل أروقة الطبقة السياسية، ولا سيّما قيادات الصفّ الأول.

لكن التمويل الانتخابي لا يقتصر على الجانب المالي فحسب، بل امتدّ ليشمل التحريض الطائفي والعرقي، واستثمار قضايا اجتماعية وثقافية قابلة للتسييس، بهدف التأثير على جمهور متنوّع في وعيه وثقافته وانتماءاته، ما يجعله عرضة للاختراق والتوجيه.

كذلك يميّز المشهد الحالي، للمرة الأولى منذ 2003، أن الطبقة السياسية بدأت تشعر بوجود تهديد فعلي لمواقعها ونفوذها، في ضوء متغيرات إقليمية لافتة في محيط العراق، عربياً وإيرانياً. وعليه، تُشكل الانتخابات المقبلة نقطة مفصلية؛ فإما تكون فرصة لبعض القوى لإحداث تغيير حقيقي في معادلة توزيع المناصب السيادية العليا، أو تتحول كالعادة إلى «محطة» أخرى على «سكة» تكريس أزمة الحكم، التي لا تتجاوز كونها توزيعاً تقنياً لمقاعد البرلمان، تُبنى عليه محاصصة سياسية للوزارات والمناصب، من دون أي مساس جوهري ببنية النظام أو الدستور، ما يعني في نهاية المطاف بقاء الوضع على ما هو عليه.

محمد شياع السوداني (رووداو)

بغداد وأربيل... الإشكالية الدائمة

> في ضوء كل ما يمكن تسليط الضوء عليه عراقياً، يستحيل تخطي العلاقة المتشابكة والمتداخلة بين الحكومة العراقية وسلطة إقليم كردستان العراق. فهي تمثّل جوهر أزمة الحكم في ظل دولة تعددية اختارت طبقاً للدستور النظام الفيدرالي، لكنها أخفقت في تطبيقه كما يجب. وفي حين يقال إن القوى السياسية المهيمنة في بغداد تستغل الخلافات الحزبية - الحزبية في أربيل، فإنه وبالتزامن مع تحذير رئيس حكومة «الإقليم» مسرور بارزاني لبغداد - مذكراً إياها بنتائج «سياسة التجويع» - دخلت واشنطن على خط الأزمة، وإن بمنظور مختلف نسبياً. بغداد تراهن على خلافات بدأت تطفو على السطح بين الأحزاب الكردية بشأن أزمة الرواتب، بينما تراهن أربيل على المواقف الدولية، وخصوصاً موقف واشنطن الداعم، ولقد جاءت دعوة وزارة الخارجية الأميركية بشأن أزمة الرواتب موجهة، ليست للحكومة الاتحادية فقط، بل لحكومة الإقليم. وفي حين بدا موقف «الاتحاد الوطني الكردستاني» بزعامة بافل طالباني بشأن الأزمة مع بغداد مختلفاً عن موقف «الحزب الديمقراطي الكردستاني» وحكومة الإقليم، قررت بغداد عدم إرسالها الوفد الرسمي الحكومي والحزبي للتباحث بشأن أزمة الرواتب، بعد إعلانه الأسبوع الماضي عزمها على إرسال وفد رفيع المستوى بزعامة هادي العامري زعيم منظمة «بدر» المقرّب من الزعيم الكردي مسعود بارزاني. وفي سياق الجدل بين الطرفين، الذي يبدو أنه آخذ بالتصاعد، وبينما تنشط أطراف من «الإطار التنسيقي» في اللعب على وتر الخلاف بين الحزبين الكرديين الكبيرين في السليمانية وأربيل، دعا الموقف الأميركي الرسمي الطرفين إلى حل الخلاف، ورآه مراقبون حيادياً من شأنه تعزيز أوراق بغداد في سياق أي مباحثات رسمية أو موازية بين الجانبين.